أ- تقديـم:
رغم كل ما يوجه إلى نصوص التراث من انتقادات من قبل البعض، فلاشك أنها مازالت تزخر بالعديد من الجوانب المضيئة، خاصة عندما نتناول بعضا من نماذجها الحوارية، والتي تعكس بقوة عمق الإشكاليات والمواضيع المختلف بشأنها في العصور الإسلامية الأولى.
ولعل المناظرات التي جرت في ذلك الإبان بين مختلف شرائح المثقفين تشكل مادة جديرة بالدرس، في هذا الإطار سنتناول نموذجا واحدا هو المناظرة التي جرت بين أبي سعيد السيرافي النحوي وأبي بشر متى بن يونس القنائي المنطقي سنة 326هـ في مجلس الفضل بن الفرات وزير المقتدر، والتي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتاب "الإمتاع والمؤانسة" في الليلة الثامنة (الكتاب مقسم إلى موضوعات تحمل رقم الليالي التي تبلغ الأربعين ليلة) نقلا عن علي بن عيسى الرماني بإملائه.

فلا تصلِي بصعلوك نَؤوم ***  إذا أمسى يُعدّ من العيالِ
ولكن كلّ صعلوكٍ ضَروب *** بنصْل السّيف هاماتِ الرّجال
(الصعلوك الشاعر السلِك السعدي في وصف نفسه!)
يقول ابن منظور في قاموسه الجامع "لسان العرب": "الصُّعلوك: الفقير الذي لا مال له. ولا اعتماد". تدور معظم المعاجم العربية على هذا النحو في تعريفها للصعاليك أو الصعلوك، فهو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة.
 

إن الثقافة العربية في شمال إفريقيا منذ النصف الثاني من القرن العشرين قد صنعت الحدث وأثرت الذائقة العربية في حقول الفكر والفلسفة والأدب ولم تعد بلاد المغرب العربي "كم الثوب" أو" ذيل الطائر" كما أطلقت عليها ذلك الوصف الكلاسيكيات المشرقية استصغارا لقدرها وإنكارا لفضلها وتم تجاوز تلك الجملة المأثورة للصاحب بن عباد لما تأمل كتاب "العقد الفريد": بضاعتنا ردت إلينا.
الصوت المغاربي كان قويا ومعبرا عن الخصوصية الإفريقية والأمازيغية إضافة إلى الميسم العربي والإسلامي الذي وسمت به الثقافة المغاربية.
من تونس صدح الشابي برومانسيته في "أغاني الحياة" التي أعجبت "أبولو" ومن تونس طلع المسعدي برواياته حول الوجودية الإسلامية التي أعجبت طه حسين فوضع مقدمة لرواية "السد" ومن المغرب طلع صوت المهمشين والصعاليك مع محمد شكري وخبزه الحافي وزفزاف و"محاولة عيش" تلك الرواية التي كرست غلبة الواقع المتعثر على المثالية ومن نفس البلد جاءت إعادة قراءة التراث للجابري وفهمه على ضوء مقتضيات العصر ومتطلبات الحداثة ونازلت المرنيسي الفكر الذكوري عبر هندسة الجنس في المجتمع العربي كإدانة لغياب حضور الأنثى حضوريا رئيسيا لا ثانويا وصرخة ضد الهيمنة الذكورية التي أقصت الأنثى واعتبرتها ظلا للرجل وآلة للإنجاب وشغالة في أحسن الأحوال.

يصعب علينا صراحة تحديد نقطة البداية لأن ذلك رهين بالعقليات والإرادة القوية لدى الفرد و المجتمع، ومن ثم سنحاول أن نقف عند بعض النقاط التي من شأنها أن تسهل لنا مجال البحث والدراسة للحقل المعرفي في التراث الإسلامي، إلا أننا لا ندعي دراسته دراسة شمولية لأن هذا أمر صعب إلى حد بعيد.
دعني أولا أشير إلى أن تطور الأمة الإسلامية رهين بتطور العقليات والأفكار، وبالتالي فهي مطالبة ــ الأمة ــ بتجاوز مجموعة من العراقيل التي ربما كانت سببا في إفشال المشروع الحضاري لها، وهنا نتحدث عن التجديد داخل الساحة الفكرية المعاصرة، ومنه نطرح السؤال: ماهي العوائق التي حالت دون إنجاح المشروع الحضاري الذي تبناه المجتمع العربي المعاصر؟

يصعب علينا صراحة تحديد نقطة البداية لأن ذلك رهين بالعقليات والإرادة القوية لدى الفرد و المجتمع، ومن ثم سنحاول أن نقف عند بعض النقاط التي من شأنها أن تسهل لنا مجال البحث والدراسة للحقل المعرفي في التراث الإسلامي، إلا أننا لا ندعي دراسته دراسة شمولية لأن هذا أمر صعب إلى حد بعيد.
دعني أولا أشير إلى أن تطور الأمة الإسلامية رهين بتطور العقليات والأفكار، وبالتالي فهي مطالبة ــ الأمة ــ بتجاوز مجموعة من العراقيل التي ربما كانت سببا في إفشال المشروع الحضاري لها، وهنا نتحدث عن التجديد داخل الساحة الفكرية المعاصرة، ومنه نطرح السؤال: ماهي العوائق التي حالت دون إنجاح المشروع الحضاري الذي تبناه المجتمع العربي المعاصر؟

مدخل:
الديانة اليهودية وتاريخ بني إسرائيل، من القضايا التي أثارها البِيروني في كتاب "الآثار الباقية"، وقد آثر الرجل الحديث عنهما في سياق عرضه للتواريخ التي تعتمدها مختلف الطوائف والمجموعات الدينية، حيث ركز على الجوانب التاريخية، والجوانب المرتبطة بالطقوس والاحتفالات الدينية، وكذا العادات والتقاليد التي يُحْيُونها، إلى جانب الإشارة إلى الأيام والأوقات المعظمة عندهم، و التي يخصونها بالصوم، وسنأتي على ذكرها بالتفصيل. وقد كان ذلك على حساب عدم التعّرض لأهم العبادات التي يمارسها اليهود، أو الجوانب العقدية والفلسفية واللاهوتية في ديانتهم. لكنه مع ذلك ناقش الكثير من المواضيع التي تهم تلك الديانة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر المواضيع التالية: المسيح المنتظر، تباين نسخ التوراة، مسألة التحريف، بشارة النبي محمد من خلال كتب العهد القديم، قول اليهود في النَّسخ والبَداء، تدوين التوراة، السامرة والعداوة بينهم وبين اليهود، خراب بيت المقدس، عبادة اليهود للأصنام، قصة هارون عليه السلام وصناعة العجل([i])...الخ

سيظل اسم المفكر السوري  جورج طرابيشي الحلبي المزداد سنة 1939 من اسرة مسيحية محافظة- كما يروي ذلك بنفسه في عدد من الاستجوابات والكتابات -  والمتوفى في منفاه الباريسي في مارس 2016 ،  علامة  مضيئة في تاريخ النضال الفكري والثقافي   في مجالات النقد الادبي والترجمة  وفحص مكنونات الثرات الاسلامي نقدا ونقضا  . وستظل مساهماته  النظرية في هذا المجال  نموذجا  للفكر العلمي المكافح المهموم من اجل اللحاق بركب الحداثة ومتطلباتها العلمية والفكرية . وقد تميز انتاجه الفكري بغزارة كبيرة ومتنوعة  فترجم الكتب الماركسية  المهمة وقدم لنا كتابات  الوجودية  لسارتر و اليسار الجديد لالتوسير وكتاب الانسان ذو البعد الواحد لماركيوز وغيرهم من عمالقة الفكر الماركسي  واهتم ردحا من الزمن بالفرويدية وترجم عددأ كبيرا من كتابات سيغموند فرويد  ، بل تأثر بالتحليل النفسي وطبق منهجه في دراسة نقدية لعدد من الروايات العربية  واصدر كتبا  مهمة استثمر فيها التحليل النفسي  بجدارة واقتدار  مثل كتابه الذي نشره سنة 1977  شرق وغرب ، رجولة وانوثة : دراسة في ازمة  الجنس والحضارة في الرواية العربية . وكتاب عقدة اوديب  في الرواية العربية  نشره سنة 1982 وكتاب الله في رحلة نجيب محفوظ وغيرها من الكتب الادبية الهامة التي الهمت جيلا ثقافيا واسعا  في السبعينات والثمانينات والتسعينات  من القرن الماضي .

بموجب الفترة المطوَّلة التي قضّيتها في جامعة الزيتونة طالبا وباحثا، على مدى السنوات المتراوحة بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي، سيكون جلّ اهتمامي في هذه المقالة منصبّا على التعرّض إلى تجربة التحصيل العلمي، إضافة إلى استحضار واقع الصراع على الزيتونة، بقصد التأمل في مسارات ومآلات مؤسسة دينية، لا تزال مثار جدل، لاسيما في ظل التحولات العميقة التي يشهدها مجتمعنا.

من الزيتونة إلى الغريغورية

غدا بمثابة اليقين لديّ، أن الإشكال الرئيس الذي يعاني منه الدرس الديني في مؤسساتنا التعليمية في تونس متلخص أساسا في أمرين: خضوع المقرّر التعليمي إلى وصاية سياسية توجه مساراته، ما انعكس على مضامينه وتطلعاته وآفاقه؛ ومن جانب آخر مجافاة منهج التعليم الديني للراهنية الحضارية، وهو ما يتجلى في غياب عناصر الواقعية، والعلمية، والمعقولية.