يحكي محمد زفزاف في مقابلة صحفية أن التقييم الذي أذهله لتجربته الأدبية ما قاله صديقه الأستاذ عبد الله ساعف في حفل لتكريم الكاتب :"إن العولمة لن تقضي على كتابة محمد زفزاف وأن من يقرأ أعماله يتعرف على جميع شرائح المجتمع المغربي" .العبارة ذاتها هي مفتاح عالمه،وخلاصة مسار أنحاز إليها كقارئ يصر على الوقوف في منطقة وسط بين تقريظ الناشر وتجريح الناقد ! فالمنجز الروائي لأي كاتب قد يبدو منتهيا حين يفرغ الناقد من" الاشتغال"عليه،وتحديد خصائصه الأسلوبية و السردية،أو حين يكف الناشر عن إصدار طبعات لاحقة بعد تحقيق رقم مبيعات جيد،لكن القارئ وحده من يؤسس لامتداد جمالي لا يتوقف برحيل الكاتب.ذلك أن للعمل الأدبي كما يصفه تزفيتان تودوروف قطبان: الأول فني هو نص المؤلف ،و الثاني جمالي وهو التحقق الذي ينجزه القارئ.
عالم زفزاف السردي لم يكن واقعيا بمعنى نسخ الواقع ومباشرته كما هو،وإنما بغرض تجاوزه صوب ممكن اجتماعي أكثر رحابة وإنسانية وولاء للحرية و العدالة.إن هذا العالم ينبغي أن يُقرأ من زوايا متعددة،لأن المعالجة النقدية قد تفضي في أحيان كثيرة إلى تعميم يختزل التجربة المفعمة بالرؤى و التطلعات في تقييم بارد مطوق بالمعايير .نعم،كان زفزاف صوت العوالم السفلية الموسومة بالبؤس والقهر ،وقد أجاد استفزاز حراس الممشى بين الطبقة الأكثر استشعارا للدونية و التهميش في المجتمع المغربي،والأخرى المتعالية و المتلذذة بصور الحرمان ،إلا أن"تأرجح" القارئ بين محطتين بارزتين في مسيرة زفزاف هما (محاولة عيش) و (أفواه واسعة) يحيل على خطوات سردية لا تقدم العذاب الإنساني كقطعة فولكلورية، يمكن لأي برجوازي أن يتسلى بها في شرفته وهو يحتسي القهوة،بل تغوص في العمق مسائلة الوجود ذاته عن سر هذا التفاوت الذي لا يدكه إلا الموت !
تنتصب الهشاشة كسمة أساسية في المتخيل السردي لزفزاف،سواء هشاشة المكان أو الشخوص، وصولا إلى القيم ورحلة الحياة نفسها في عالم ملتاث بالشرور.تبدأ رواية (محاولة عيش) بعنوان هش يحيل على عدم الوجود الفعلي لبائع صحف من "البراريك".فبطل الرواية "حميد" تجل صارخ لمظاهر التحول السياسي و الاجتماعي للواقع المغربي،ذلك التحول الذي يبدو للقارئ بأن مواطنا هشا كحميد لا يمكن أن يستشعره إلا من خلال موضوعة الخمر التي تؤثث البنية الحكائية ،بل وتهيمن عليها ،على نحو دال، منذ الصفحات الأولى.
في المشهد الأول يراقب حميد رفاقه وهم يعرضون أفواههم لثقب أنبوب الخمر الذي يصب في الباخرة الفرنسية " آيفون 5 " المخصصة لنقل الخمور المغربية المعتقة.أما تواجده بالمكان فمرده إلى تعلقه بالبحار السينغالي الذي يصفه بالمسلم الحقيقي لأنه يصلي ولا يشرب ولا يأكل لحم الخنزير.ثم ينقلنا زفزاف إلى البداية كما سماها حميد ،أي لحظة انتسابه لمهنة بائعي الصحف ،ومن خلال الحوار مع رئيس مكتب التوزيع تصبح موضوعة الخمر لصيقة بالقادمين من المجتمع السفلي :
"- كم سنك ؟
- ست عشرة سنة .
- آه،إنها السن المناسبة .هذه مهنة المستقبل،عليك أن تكون جادا إذا أردت أن تمول عائلتك.هل تدخن ؟
- لا.
- مزيان.هل تسكر؟
- لا.
- مزيان أيضا،لكن هذا غريب.إن الحثالة من أمثالك يكونون قد تعلموا هذه الأشياء قبل بلوغ العاشرة.لا علينا.إذا لم تكن قد تعلمت هذه الأشياء فالطريق أمامك مفتوحة ."(1) ص22
وفي عالم زفزاف لا تعد الحانة (البار) فضاء لامتصاص التعب اليومي و التحرر من قبضة الواقع فحسب بل هي كذلك مجال لمحاكمته و التمرد على حدوده ومحرماته الكاذبة.لا معنى للولاء لقيم تائهة في خضم تفاوت اجتماعي طاحن،لذا حين يرفض حميد دعوة الأمريكي للشراب بدعوى أنه مسلم يأتي الرد المفحم : قل أنا صغير أحسن ! ص32 .
وليبلغ التناقض مداه ينقل زفزاف القيم الهشة إلى ساحة العدالة ليكشف حرص المؤسسات على الولاء للوضع القائم وتثبيته " قلت أمام المحكمة إنني لم أشرب ،وحاولت أن أشرح كل شيء لرئيس المحكمة، لكن الرئيس سألني :
- مهنتك؟
- بائع صحف.
قال الرئيس:
-تفعلها وتفعل أكثر منها أيها الكلب.
- والله يا سيدي لم أفعلها،ثم إن الخمرة ليست حراما.كل المسلمين يشربونها في (البار)،اذهب يا سيدي إلى البارات لترى كيف أن جل المسلمين يشربون الخمر. و الشرطة فوق ذلك تحرسهم.
قال الرئيس :
- من أين تعلمت هذا الكلام؟ هل تريد الإخلال بمقدسات البلاد يا كلب؟ يجب أن ترى وتسكت،أن تسمع وتسكت " ص 34.
و يمضي زفزاف من خلال أسلوب الحوار دائما في هز ما تبقى من قناعات بجدوى القيم أمام وضع مائل يحرسه القانون نفسه:
" قال الأول :
-لا أدري لماذا لا يمكن لمغربية أن تدير هي أيضا حانة خمر .
- إن القانون يمنع ذلك،نحن في دولة مسلمة .
- ولكن القانون يسمح للمغربيات باحتراف البغاء، يسمح لهن بتعاطي الخمور، أغلبهن يملكن أوراق العمل.
- الدولة تسمح لهن بذلك،ولكنها لا تسمح لهن بإدارة حانة.ذلك قانونهم.
ردد حميد وهو متكئ على العمود الكهربائي كلمة "قانونهم" .ما هو القانون؟ إنه لا يعرف." ص 44
إن عالم زفزاف الأدبي،وعبر لغة تعبيرية بسيطة ودافئة،يحاكم الأوضاع الهشة على نحو يبدو بريئا وعفويا، لكنه في المحصلة عبثي،لا يحرض شخوص أعماله على التمرد أو المواجهة،بل يزكي خيار التكيف و المسايرة. وعلى امتداد الصفحات المعدودة لهذا العمل الروائي،يبدي زفزاف قدرة مدهشة على تجريدك من أي تعاطف محتمل مع ممثلي البؤس الاجتماعي لحظة انسياقهم خلف محاولة العيش بلا قيم أو عرى إنسانية نبيلة !
في (أفواه واسعة)، وهي آخر أعمال زفزاف،يتمثل درس الكتابة كما يقدمه كل كاتب استوفى نضجه واستكمال أدواته أو كاد ! غير أن الهشاشة هنا لن تتخذ لها شخوصا وأحداثا وأمكنة كما في (محاولة عيش)، بل ستكون سمة الوجود ذاته،وعلة السعي الحثيث إلى الموت.ومادام الأمر كذلك فالطبيعة وحدها قادرة على إعادة ترتيب الأمور خارج أي دور للإنسان/الكاتب :
" مهما دسنا من الصراصير فإنها سوف تتوالد،إن الطبيعة وحدها التي خلقتها هي الكفيلة بالقضاء عليها. شأن ذلك شأن الإنسان،فمهما تم القضاء على الأشرار إلا ويولد آخرون في صورة مرشدين دينيين أو رعاة كنائس أو قادة سياسيين " (2)ص9 .
" هل يستطيع الكتاب أن يفعلوا بالناس ما يشاؤون ،إنهم لم يخلقوهم حتى يفعلوا بهم ما يشاؤون . فالكتاب أنفسهم مخلوقون مثل الجميع، وأقول دائما : إن ما يهم هو ما الذي سيحصل لحظة الوصول إلى هناك،إلى الأعالي. كل واحد لا يعرف ما الذي سوف يحصل." ص 13
تبدو الكتابة في هذا النص إذن هاجس زفزاف الأول،لا باعتبارها أداة لمقاومة الهشاشة و الحرمان أو على الأقل فضحهما، وإنما لكونها ملاذا أمام حقيقة الموت الضاغطة.ورغم إصراره على أن ما يكتبه محض نصوص روائية إلا أن رسائل عديدة جرى تمريرها من بين ثنايا النسيج السردي.إن زفزاف يحاكم ويرد على اتهامات، ثم لا يغفل رسم حدود شائكة بين الكتابة و أدعيائها :
" أنا لست كاتبا، ولم أحلم بان أكونه ذات يوم.إنني أعرف أن كثيرا من الناس يحلمون بأن يكونوا كتابا أو رسامين أو مغنين أو ممثلين أو فاضحي عوراتهم حتى يقال بأنهم موجودون، وأنهم أنجزوا شيئا في هذه الحياة،وأنهم سوف يظلون موجودين.هذا هراء،ولهذا لم أفكر في الكتابة ذات يوم،لا من أجل إثبات الذات ولا من أجل الخلود ." ص32
" ما كل شخص قادر على الكتابة ،وحتى لو توفرت له القدرة على الكتابة فإنه يخشى أن يبصقوا عليه ، مع العلم أنهم مبصوقون في هذا العالم و مبصوق عليهم كذلك. ويبدو لي أن الكاتب المسكين تعذر عليه أن يكتب كل هذا البصاق،ومن الأفضل له أن يكتب قصة حب يكون فيها اللقاء و الفراق و الخيانة و الانتحار إلى غير ذلك مما يحصل في قصص الحب،ويمكنه من خلال تلك القصص أن يربي الناس ،مع أنهم للأسف لم يربوا ولن يربوا أبدا" ص41
" في الحقيقة إني أريد أن أكتب، لكنني أخاف من النقاد ومن الحكام، فالنقاد يحرضون الحكام عل حرق الكتب ونفي المفكرين أو قتلهم ودفنهم ،نقل رفاتهم من مكان لآخر .حماقات كثيرة يا حبيبتي " ص52
ومادام الوجود هشا والموت محطة الوصول وإن تعددت المسارات فلا حاجة إلى جهد مضاعف غير الحرمان الذي يستهلك فيه كثير من الناس أعمارهم.إن عالم زفزاف البسيط و العفوي يسائل موقع الدين في حياة المحرومين،ويرفض القبول بعذابات أخرى محتملة في دار البقاء غير التي يكابدها إنسان الهامش على هذه الأرض. أما شخصية الفقيه الفرتلي التي تظل الوحيدة المصرح بها في هذا العمل فلا ترد إلا ضمن احتجاج على خطاب ديني مدجن،يغذي الأمل في جنة الآخرة بدل التخفيف من جحيم الأرض.
وعالم زفزاف لا يعرض الهشاشة كحتمية يصعب تخطي سقفها الزجاجي، لكنه يناور في عرض الخيارات البديلة للتمرد و المواجهة. فموضوعة الزواج التي ستحقق لحميد في (محاولة عيش ) وهم التخطي لوضعه الهش " إذا تزوجت فسترى كيف أن الحياة تتغير.الزواج يدخل على صاحبه بالخير" ص72 ،تبدو غير ذات أهمية لدى السارد في (أفواه واسعة) ،والذي يرى في الهجرة منفذا وحيدا من التلوث و الاختناق و الوصاية:
" عندما نكون في سويسرا كما قلت لك، سوف نتأمل ونقرأ بعض الكتب ونفكر ونكتب. لكن مشكلتنا هي أن يرسل لنا زوج أختك تذكرتي سفر.
- أنا أعرف جيدا،سوف يفعل ذلك بكل تأكيد،و الحقيقة أن المشكلة في هذا العالم هي مشكلة تذاكر وتأشيرات." ص 75
إن الروايات لا تحاكي الواقع،يقول تزفيتان تودوروف،إنها تبدعه،وعالم زفزاف السردي بناء قيمي في العمق ،حافل بالرؤى الفنية و الخبرات و المقولات التفسيرية التي تعزز حضور المؤلف في قائمة المقروئية لدى شريحة واسعة ومتجددة من القراء .ينضاف إلى ذلك أسلوب شاعري متميز خص به زفزاف أعماله ،و بحث دؤوب عن العنصر الإنساني وسط ركام من الأحداث والوقائع التي تضفي عليها بنية السرد بعدا كونيا يحرض القارئ –أي قارئ- للسعي نحو تحقيق حلم زفزاف : إعادة ترتيب العالم !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد زفزاف : محاولة عيش. المركز الثقافي العربي.الدار البيضاء .ط 3. 2011
(2) محمد زفزاف :أفواه واسعة.المركز الثقافي العربي.الدار البيضاء .ط1 .2007