قلت كثيرا أن المبدع الجبار هو من يمسك بإحكام بالإجابة الشافية على سؤالين حاسمين : الأول هو الرؤية (بالتاء المربوطة) ، أما الثاني فهو الرؤيا ( بالألف الممدودة) . الرؤية تتعلق بسؤال مركزي هو : كيف أكتب ؟ أي ( التقنية )، أما الرؤيا فتتعلق بالسؤال المركزي الآخر وهو : لماذا أكتب ؟ (الفلسفة أو الموقف الوجودي من الابداع أو ببساطة الجدوى من كتابة الشعر) ، ووسط الأزبال التي كتمت أنفاس الحبيب يقف مظفر فوق أطروحات الرؤية والرؤيا على حد سواء ، يجمعهما في تعبير بسيط ومركب وشديد الأذى :
(( أگولن گاعي وأعرفها
أگولن گاعي ،
يتنفس بريتي ترابها .......
وحبها ... وبصلها ....والشمس ... والطين..
باعوني عليها
وخضّرت عيني بدمعها
وماني بايعها ))
وسنلاحظ ظاهرة أخرى تتمثل في أن النواب صانع ماهر بوعي متقد . إنه يصنع القصيدة ؛ بمعنى أنها تستنزفه وتتطلب منه تركيزا هائلا وانتباهة شديدة لكل كلمة .. بل لكل حرف . وهذا يذكرنا بما قاله شاعر ألمانيا العظيم " هاينه " : "يتحدثون عن الإلهام وأنا أعمل كالحداد" . هناك أسرار في الصنعة النوابية إذا فككت رموزها ستتأكد أن مظفر ينطبق عليه قول "إليوت" : (الكتابة هي تحويل الدم إلى حبر) . قبل النواب لم يكن هناك حساب لحرف ولم يكن هناك فهم للدلالات الموسيقية والنفسية للحرف وليس للكلمة حسب . النواب لم يعد الاعتبار للمفردة فقط بل للحرف أيضا . الكثير من الشعراء ينسون دلالات المفردات الحاكمة التي شيدوا عليها بنية القصيدة . والأشد هو عدم انهمامهم بالحرف ؛ خصوصا رسم شكله وجرسه الموسيقي .على مستوى الكلمة يوظف الشاعر المفردة المركزية وهي هنا مفردة " الگاع" ليس ككلمة هي الأكثر تكرارا في القصيدة حسب بل إن المناخ اللغوي في القصيدة يسيطر عليه الحرفان الرئيسيان منها ؛ العين والكاف الفارسية "گـ" حيث تطغى بصورة كاسحة المفردات التي تضم هذين الحرفين وهي بالعشرات . إنك تشعر كأن النسيج اللغوي للقصيدة قد تم غزله من خيطي الحرفين الأساسيين اللذين تتعشق معهما على أرضية القصيدة ألوان حروفية أخرى ثانوية . إن هذه المهارة - السر- الدرس النوابي تحفظ للقصيدة وحدتها العضوية الصوتية إذا ساغ التعبير وهو الأمر الذي لم يكن موضع أي درجة من اهتمام الشعراء السابقين الذين كانت اللغة تسوق إرادتهم الشعرية الفجة لا العكس . مظفر يتلاعب بأطروحة "هيدجر" في أن العقل سجين اللغة والتي تطرّف في تشكيلها البنيويون- ميشيل فوكو تحديدا - بدرجة أشد فجعلوا العقل سجين الكلمة / المفردة وليس اللغة الواسعة . أثبت مظفر أن اللغة مطيّة اللاشعور الخلّاق يتلاعب بها كيف يشاء وخصوصا في مجال الوحدة العضوية الصوتية واللغوية . في مجال الأخيرة تحدث الشاعر في البيتين السابقين عن الحيف الذي لحق بمحبوبته / أرضه من فضلات طينهم " السيان" ، ولهذا يعلن الولاء المميت المضاد - ولاء ما بعد الحب ، من خلال النقمة نفسها التي أذلت المحبوب ؛ الطين الملوث ، الذي يحتضنه الشاعر الآن نقيا ليس بيديه أو في أحضانه ؛ ولكن في رئتيه مع شمسها وحبها والأغرب مع "بصلها" وكلها حوّلها مظفر إلى عناصر هوائية شمّية تكمن في رئتيه كتعبير عن الارتباط المصيري كحياة أو موت لأن انقطاع الهواء لأي سبب مثلا يعني موت الأثنين ؛ الشاعر وأرضه .. أي أن الشاعر لم ينس "ثيمة" الطين . ولو راجعنا القصيدة بدقة وتمعن ثاقب متأن لوجدنا سرّا اسلوبيا آخر يرتبط بالوحدة الموضوعية اللغوية وهو ما يمكن أن نسمّيه بـ"التسليم" الذي يشبه تسليم العصا بين عدّائي لعبة جري البريد الرياضية التي تنتقل من بيت إلى آخر ليجعل أبيات القصيدة وكأنها حبات مسبحة مختلفة الألوان تبزغ بين كل مجموعة وأخرى "حبة" لغوية تذكّر بالوحدة اللغوية والدلالية والصوتية وتسخّر كل المفردات السابقة لخدمة الهدف المضموني أو الرمزي الذي صممه الشاعر . كان الشاعر التقليدي - قبل مظفر- يكتب البيت و"يتركه" وكأنه جزيرة نائية منفصلة لا تمت بصلة بجزيرة البيت السابق . كانت عملية تنضيد ميكانيكية لبيت فوق بيت ..هذا حال القصيدة قبل النواب ، بعده ظهرت معضلة الحفاظ على الوحدة الموضوعية للقصيدة التي أسسها هو . وهي معضلة لأنها مهمة صعبة وشائكة . ابتكر النواب طرقا كثيرة خلاقة للحفاظ على وحدة القصيدة . منها أنه ينتقل من بيت إلى آخر محتفظا بالمفردة المركزية التي تتحرك في أدوارها من مفردة قافية إلى مفردة استهلالية لبيت ، أو مفردة حاكمة ضمن سياق البيت الشعري . تنتقل مفردة "الطين" بين ثلاثة أبيات تشد لحمتها اللفظة المجردة ولكن التعزيز الوثيق هو الالتحام المضموني المتغير الذي يفرضه السياق - context والذي لا يخرج من دائرة المعاني الرمزية الجمعية التي تختمر في أعماق الشاعر . وحتى وقفات التغزل الإيجابية (يا حلوة ، يا طيبة) أو السلبية المحببة (يا وكحة) هي "حبّات" تتسلل بخفة بين سلسلة الأبيات الملتهبة لـ"توحّدها" بانسجام متقن . وبعد أن أشبعت القصيدة بمفردات حرف العين بصورة مقصودة والمشتقة من لفظة "الگاع" المركزية وحرف العين بتكراره يصبح "عينا" عضوية فعلية نفسيا إذا جاز الوصف . ولهذا نغرق باللعب الطافح المنضبط لمفردات حرف العين التي أوصلتنا إلى معادلة مبهرة عن اخضرار عين المحب وسط دموع الحبيب المغدور " وخضّرت عيني بدمعها " . لكن ليس المهم ثيمة المركز التي كانت تضيع وسط استطالات الوصف الجاف المكرّر اللغوي المفرغ من روحه ، المهم هي "الحبة" المركزية .. القائدة .. المتسيدة .. التي يوظفها مظفر لإحكام الصلة الراهنية المستترة التي لا نحس بها إلا عندما ننتبه إلى البيت التالي الذي تسري في عروقه دماء "عين" البيت السابق .. "خضرت عيني بدمعها " إلى :
(( وحگ الشطر الأحمر
والليالي الغبرة
يگويعة
أموتن وانتي حدر العين
تتونسين )) القصيدة كلها تدور حول العين .. عين الخيبة .. عين الوجود ؛ الفردي والعام ، المحاط بالتهديدات الموغلة في الأذى .. العين التي سيخفي فيها مظفر وتحت طياتها خيبته العظيمة المؤذية ، قاسما بـ "الشطر الأحمر" و "حوبته" المدمرة وهو قسم لو تعلمون عظيم . وفي ثلاثة أبيات تتكرر مفردات حرف العين تسع مرات ، وكلها حرقة حلقية بعيدة قريبة من أقصى انطلاقة الزفير الرئوي الفاجع .. في اشتعالها المجازي الحارق . وفي الاحتضان البارع للأرض "الگويعة" تحت العين يعيدك النواب - الذي لا ينسى ولا تفلت من أنامله الماهرة حبات المسبحة السردية – يعيدك الشاعر إلى العين التي نبتت وأينعت في حضن دموع الأرض المعشوقة ( لاحظ لاحقا وصف : بيها يخضر من عيونه البربين ) . فما دامت عينه قد عاشت من دمع عين الأرض الأم فإن الموضع الطبيعي للحفاظ على هذه الحبيبة الصغيرة " الگويعة" هي العين . وقد جعل الاستعداد النفسي الشاعر يصغّر الگاع إلى "گويعة " لتعزيز مصداقية المهمة من خلال التناسب " الحجمي " والشكلي . وفي سياق البيت يعيدك الشاعر إلى المقابلة بين الإمساك القدري بالأرض التي : "باعوني عليها" وبين الإصرار الحازم على عدم التخلي أو " البراءة " منها : "ماني بايعها" . وكثيرا ما تزدحم قصيدة النواب بهذه " الجناسات " اللفظية التي تعزز وحدتها الموسيقية : باعوني ...... بايعها أشمّس ....... شمس السحگتها ...... وانسحگت جرحها ........ الجرح غرنوگ......... نوگ أهلّي ........... هلّيت يتغاوة ........... مغاوة ومثلها فعل "الطباقات " التي تشعل بتضادها اللفظي والمعنوي لهيب الصورة الشعرية : أموتن ........... تتونسين الشوف .......... العمى الضيّق ........ الوسيع نعيش .......... نموت العدل ........... الميت الصوت ........ بسكوت ودائما تشعر أن في سرد مظفر الشعري روحا " أنثوية " مباركة هي الأصل في كل ما تأسس في تاريخ البشرية من حضارات وعطاءات مهيبة ، ومن بين أبهى تلك العطاءات هو الشعر الذي هو منجز أمومي نشأت جذوره في روح الأم وهي راكعة تغني وتهدهد قرب مهد رضيعها المدلل . يتجلى هذا كثيرا في لعبة "التصغير" الأمومية أصلا ، اللعبة التي أدخلها النواب إلى الشعر العامي العراقي فصارت لازمة في القصيدة العامية العراقية التي تلت منجزه ، ولم يستخدمها الشعراء العاميون بعده حسب بل أفرطوا في استخدامها ناسين درس النواب الأساسي المتمثل في الموقع المناسب لحبة المسبحة . قبل النواب كان الطابع الطاغي المفرط في أداء القصيدة العامية هو طابع "التضخيم" و" التكبير " الرجولي الذي هو تمظهر رمزي لاشعوري للانتفاخ القضيبي الذكوري المتنفج ، في حين أن الرحم الأمومي يصغّر كي يستوعب ويحتضن . النواب هو أول من أعاد للقصيدة روحها الأنثوية - الأمومية - روح الخصب والنماء والرحم الفردوسي الكريم . ولو لاحقنا روحية خطابه في كل قصائده - وفي هذه القصيدة تحديدا - سنجد أن هذه الروحية هي روحية أنثوية حانية .. والنداء ذو مسحة أنثوية رغم أن الشاعر قد موّه بمهارة هوية الراوي ولم يفصح عن طبيعته :
( أفه يا رجال طين عراگنه الطيبين
تنسون المراجل ؟
والمراجل بيكم اتسمت مراجل
كلفه يا معودين )
هنا وحسب طبيعة الخطاب في هذا البيت والأبيات التي تليه : ( أگل للروح ..) .. (يا معودين أهلنه ...) .. ( ولك ردّوا .. حنيني ) ، نتحسس أسى أنثويا تنطلق فيه صيحات النخوة من موقع أمومي ينتخي وبستثير همم الأهل – الأبناء من خلال نداء "باطني" يتفجع على الروح والحليب والمراضع .. ويذكّر بالذات المتعبة والتي تتطلب العون السافر . لا ينطلق نداء النخوة من رجل لرجل بهذه الصورة التي يكون فيها المنادي محتضنا ومستبطنا لعذابات روحه ، هذا يخالف الطبائع القيمية للشعب العراقي . لا ينتخي الذكر الفرد بذكر فرد وفق هذا المنطق .. تأتي الدعوة الذكورية حادّة مباشرة و" خارجية " - على طريقة صيحة : " ها خوتي هاه " هذه الصيحة التي تستخدمها "اسعيده" قبيل النهاية التي يحكم سياقها الخطاب الانثوي - ، إن النخوة الذكورية لا تصور نفسها للطرف الآخر المجافي في صورة عتاب مع النفس يقترب من النعي ويضعها في هيئة الهدف الأنثوي الذي يتطلب الانقاذ ، ولا تنعت الطرف المنتخى به بنقص المراجل وانخذال الإرادة .. هذا التحشيم المحصّن الذي تكون فيه للمهجور موقفا دالاً على الآخر الذي يطلب العون منه لا يصدر إلا من أم تستثير همة الأبناء المجافين للعودة إلى حضن الأم الأصل – الأرض . وهذا ما حصل فعلا – وإن بصورة شعرية مواربة – لأننا لن نجد دعوة صارخة لمصلحة ذاتية مكشوفة .. هذه عادات الأمومة المستغيثة التي تنطلق نداءاتها نحو الأبناء ومن أجل الأبناء .. من أجل (حچام) : ( يمعودين أهلنه الگاع ضيجه من عگبكم ما تسع حچام )
ورغم أن الاستهلال كان ذكوريا فيه قوة وجسارة :" أواكح " وعلى الرغم من ظهور الضمير المتكلم المذكر في البيت الثاني من خلال الصفات الذكورية : "مدفون" و "مكتوب" .. والتي تشير إلى أن الراوي رجل .. لكن تبقى سمة الخطاب الأساسية أنثوية .. ولو أمعنت النظر في البناء اللغويّ لهذا البيت المركب الذي تتأسس من جديد على الطين "يا رجال طين عراگنه الطيبين " ستلتقط تكرار مفردة العين - ووفق الأساس الرؤيؤي "الرؤية" - التقنية – نفسه ستجد ظاهرة أسلوبية مضافة وهي أن الشاعر يوقّع موسيقاه اللفظية في الأشطر الداخلية نفسها من خلال المعاودة إلى موسيقية الحرف . خذ هنا حرف الجيم " أفه يا رجال تنسون المراجل ؟ والمراجل بيكم تسمّت مراجل" ، مثلما وللتذكير - يحصل رد الفعل الإيقاعي المماثل في "أفه يا گاعنه السحگتها وانسحگت عليها جيوش يا بو جيوش " حيث تقابل حرف السين والشين " أو التوالي المُلذ لحرف السين القريب من الهمس حين يقول :
(( وأشمس روحي بالسنبل....
يجي بروجة شمس ..
يسگي السفن والناس...
يسگيها ).