من السمات الغالبة على الموقف الشعري النفسي للشاعر عيسى حسن الياسري هو القلق من الموت – death anxiety ، وهو قلق مبكر أيضا يجعل الفرد أحيانا يرثي ذاته حيّاً ، لأنه يحيا تحت مطارق قناعة أكيدة بالفناء الوشيك . وفي أغلب القصائد تجد هذا القلق يشتعل عند حصول مخاطر التهديد بالإنفصال عن الرحم الأمومي الحاني حتى لو كان الخطاب موجها إلى المعشوقة في الظاهر :
( في هذا الليل الموحل
كيف أكون بعيدا عنك
ولا يملكني الموت
فأملك وجهك
ثم أفصّل من كفني
علما للمدن المهزومة
وثيابا لعراة الأرض – ص 22 )
والوحل الأسود المعبر عن الخراب وأشباح الموت يغطي كل شيء . يرتفع ويرتفع ويتراكم حتى يكتم أنفاس الوطن بأكمله . وهذا القلق من الموت والفناء يجهض كل المسرّات في حياة شاعرنا وفي مقدمتها لحظات اللقاء بالمرأة الحبيبة . تلك اللحظات التي نتوقع عادة أن تنعش روح الشاعر المحبطة :
( الليلة تأتين إلي
وكشيء مألوف
يأتي حزني
يزحم طاولتي
حتى لا تحتلي زاوية أكبر من بيتي
ذي السقف لحائل – قصيدة " قد يحدث شيء ما " – ص27 ) .
( وقيل لي تموت
مهاجرا .. أو نائما
وقيل لي تموت
مغنيا .. أو كنت تبكي عند
عتبة البيوت – قصيدة " الطقوس " – ص 87 ) .
وتحفل المجموعات الشعرية الثلاث اللاحقة ( سماء جنوبية ، المرأة مملكتي وشتاء المراعي ) بنصوص تعبر عن هذا الهاجس المرير .
أ - قلق الموت .. إستعادة الخطيئة الأولى
وإذا أردنا أن نحكم على قدرة الشاعر على تناول موضوع ما ، يستلهمه شعريا ، ويستعيده مرارا ، وهذا أمر مألوف في الشعر ، فإن من مقومات حكمنا الأساسية كي يكون حكمنا نقديا محكما ، هو أن ننظر للمقتربات التي يدخل منها الشاعر إلى ساحة موضوعه الأثير أولا وإلى أين يريد الوصول ، أي الغايات يريد تحقيقها ، وأي صراعات سيمرّر تحت أغطيتها ثانيا . ففي موضوعة المرأة التي أشبعها الياسري معالجات واستعادة تصويرية وفكرية ، في عدد كبير من القصائد ، بل في مجموعات تكاد تكون مستقلة لهذا الشأن تقريبا ، من حقنا ، وحين يتكرر هذا التوظيف أن نتوقع استهلاكها أحيانا . لكن هذا لا يحصل لدى المبدع المقتدر بفعل اقتداره كتحصيل حاصل من ناحية ولأن العوامل الفاعلة المستترة في لاشعوره تمدّه بمورد لا ينقطع من تمظهرات التمويه الحلمي الإبداعي من ناحية أخرى . ووفق الناحية الثانية فمن الصعب أن ينتقل رغبة محاصرة من ظلمات اللاشعور إلى ساحة الشعور المكشوفة بصورة صارخة ومعلنة . لابدّ أن تمرّر وراء أستار رغبة أخرى شعورية أو أن تمتزج بدافع لاشعوري ضاغط فينتج " تركيب " جديد على الطريقة الهيغلية إذا أمكننا قول ذلك . وهذا ما قام به الشاعر المبدع في قصيدة " لا تنتظري شيئا " ، وهو – أي العنوان – كاشف هنا تمهيديا وليس بمعنى الثريا الكفيلة بإضاءة كل زوايا قلعة النص المعتمة عادة من وجهة النظر التحليلية النفسية . ومثلما أشرنا سابقا فإن الشاعر واقع وبصورة مؤلمة تحت ضغط قلق الموت ، هذا هو الموجه الأساس لدوافعه الإبداعية ، وهذا يحصل مع أي مبدع له رؤياه في العملية الإبداعية ، بمعنى أنه يتساءل دائما : لماذا أبدع ؟ . قلق الموت هذا " يعلق " الآن بـ " الآخر " / المرأة ، وينصرف معه بصورة هاجس مباشر :
( ذات نهار
سنموت معا
أنت
وأنا
ومماشي غابات طفولتنا
وهدوء الدار – ص 33 )
وحينما قلت أن عظمة فعل الشعر في النفس البشرية فنيا يعتمد على " الجزئيات " لا " الكليات " المقرّرة ، فإن الجزئيات المنسية في حياتنا هي التي تلهب شعلة الخسران الوشيك في نفوسنا ، وكأنما كلما صغر الشيء المفقود وكان هشا وغضا ، كلما احترقت نفوسنا بمرارة الفقدان المضاعفة ( ألهذا يكون فقدان الطفل أكثر جسامة في حرق أرواحنا من رحيل الشيخ الهرم ؟! وسحق الزهرة الصغيرة أكثر أذى لنفوسنا من تهاوي الشجرة العظيمة ؟! ) . وينذر الشاعر امرأته فوق ذلك بما سيأتي بعد الموت الذي سيحيرنا لأننا سنتساءل : ماذا بعد الموت ( ذات نهار سنموت معا .. ) ؟ وهل هناك فاجعة أعظم من الموت ستطيح بوجود الشاعر وامرأته ؟ . نعم هناك ما هو أبشع ، وهو المنفى ، حيث المطر الشتوي والوحدة وليل المدن الخانق والنوم على الأرض الباردة . ولا يحتاج الشاعر للتوصيف الاصطلاحي المحدد " المنفى " هنا ، لأن الدلائل واضحة ، تمهد لها علامات الموت المجازية : كف العاشق الباردة ، وانطفاء توهج ضفائر شعر المعشوقة . تلك العلامات التي يمدّها الآن ويوسعها سرديا من خلال مقابلة بين توصية حازمة لجده قال له فيها :
( إذا بكت امرأتك
قبلها
وتوجه صوب الحقل
- فمتى تصغي لرغائبها .. تُقتل – ص 34و35 )
فرغائب امرأته - حسب وصية الجد – حين يستمع إليها ، فإنها ستخصيه إلى الأبد ، تميته . ورغم التحذير فقد خرق وصايا الجد ، وقبّل جبين زوجته ، وهو شكل من أشكال لعبة اللاشعور المتأصلة في إنعدام حصانة المقدس أصلا ، وأن المقدس يُحظر لأن حدوده قابلة للخرق . وهنا نقف أمام إخراج جديد لأسطورة الخطيئة الأولى وهي الثيمة التي يعالجها الشاعر كثيرا ، حيث يحل الجد محل الإله الأب فيغفر لحفيده إثمه ويكمل طقس غفرانه بأن يمنحه محراثا خشبيا ومساحة أرض ( تكفي قلبين ، محبين ) ويوصيه أن يبني بيته قرب ضفاف الأنهار . فبدلا من لعنة الله على آدم وإنزاله من إتكالية الفردوس الطفلية المشتقة من الرحم ، إلى شقاء الأرض ، تحل رحمة الجد الذي يدله على طريق " التكفير " : الشقاء على الأرض وفي الأرض وبالأرض وبلا لعنات ومغفرة . لكن المفارقة تتمثل في أن أنموذج الآلهة المراقب والموجّه والمعاقب هو أنموذج أرضي . وهذه لمسة تحرّشية بالقواعد المرجعية الموروثة حين يصبح الإنسان أكثر تسامحا من الآلهة . لكن ما هو امتياز الآلهة وعلامتها الفارقة ؟ إنه القتل تحت غطاء الموت !! والذي يعبر عن فقدان القدرة على التسامح ، وهي القدرة الهائلة والوحيدة التي تحفظ للإلهة هيبتها ، وهي أن تميتنا ولا نستطيع الإعتراض ، أو نعرف لذلك سببا . فالجد الممثل الرمزي للسلطة الأبوية الإلهية يموت الآن ، وقبره ( شاهدته سنابل يابسة ) . رحل ممثل الآلهة المتصالح ، وبقت المرأة المغوية .. سر الخطيئة ، أفعى الإغواء محترفة استدراج العشاق الصامدين ظاهرا ، فمتى ما أخذت رأسه بيديها تتراخى إرادته ويحني جسده لرغائبها ويستسلم ، ويعيدان دائرة الإثم وخرق المحظور من جديد . والمرأة / حواء الآثمة الآن منظّرة ومخططة بغائية تسفيه المقررات المرجعية التي يتحرش بها الشاعر تخاطب رجلها :
( لا تبكي
لن ينفعنا هذا في شيء
سلام الكوخ
وبركات الجد
وحبّ الفقراء
هواء – ص 37 )
ما فائدة الندم ، ولا داعي له ، هي إبنة الحياة واللحظة المنتشية التي تريد تكرار ما حذّر منه الجدّ ، هي نتاج الحركة الدائبة لجدل الطبيعة ، والجد ومن بعده الحفيد ، يريد تعطيل هذه الحركة الضرورة المخصبة المعطاء .. تلك الحركة التي تصر عليها الأنثى لأنها هي الحياة فتخاطب رجلها المنخذل :
( أجمل ما نصنعه الآن
أن نأوي لعريشة أحلام
كنا نقطنها ذات زمان – ص 37 )
لكن الشاعر يعلم أن استجابته لطلب امرأته في توفير عريشة الأحلام السابقة صارت في حكم المستحيل ، لأن شبح الخراب قد تأسس ونشر أعشاش خفافيشه إلى الأبد . وهذا يعيدنا إلى موضوعة " النبوءة الخرابية " من جديد .
ب - قلق الموت .. الاستعداد المبكر للرحيل
يرتبط بالإحساس الموجع بقلق الموت وتهديده الشعور الضاغط بمقدماته ، بالـ " الفاعلية " الدائبة له ، بسيطرة الإستعداد الدائم للتعامل معه ، ما يمكن أن نسمّيه بـ " التهيؤ " المستمر للرحيل كموظف خافر يطلب منه التحفز الدائم للتعامل مع أي طاريء في مساحة وجوده . ويتشعرن التهيؤ في العديد من القصائد ، غير المصنوعة ، بمعنى أنها تأتي عفوية ومتواشجة مع النسيج العام للوحة الإنهمام الكلي المسيطر . والياسري في قصيدة " غروب " يرسم في الحقيقة لوحة تشكيلية ، وهذا يحيلنا إلى أهمية الثقافة الموسوعية للشاعر الحديث ، فالشعر الحديث لم يعد فطرة بل ثقافة وصنعة ، والفطرة قد تناسب الشاعر الكلاسيكي لكنها لا تناسب الشاعر الحديث الذي يجب أن يلم بأصول الشعر وموسيقاه والفن التشكيلي وألوانه والسرد وأصوله ... إلخ . كل هذه المهارات تتجمع ويتكثف تفاعلها المغرّب ليقدم مقطعا هو خليط عجيب وسحري من خلطة لا تجزأ من عطايا التشكيل والسرد والعين السينمائية بمشهديتها الحركية ، والصورة الشعرية التي تلفظ أنفاسها تقريبا عند حافة المشهدية الأخيرة ، خلطة مركبة بدراية من أجل غاية نهائية تتمثل في ضربة الصحوة القاضية على حقيقة أن الشاعر لا يدري بأنه وحيد .. وأن أحبته غادروه إلى الأبد .. وأهمهم الجنوب الذي كان يحمله فوق أكتافه ، والأخطر هو أن الحبيبة قد اختفى حضورها نهائيا ، ولم يعد لها وجود مؤثر وباتت تتلاشى مع تنامي حركة القصيدة التي أمسكت بها قبضة " بنية التلاشي " ، من عنوان النص الذي يعكس التلاشي الطبيعي بشكل صارخ : " غروب " ، الذي يمزج باضمحلاله تلاشي المكونات الرئيسة في حياته :
( تهبط الشمس للقاع
يهبط الحقل
لون المنازل يهبط
يا امرأة لازمتني كظلي
يطول غيابك
طال غياب القرى
وتباعد النهر عن ضفتيه كثيرا
فمن سيؤخر إبحار هذا الغروب
ويسرق منه الشراع .... ؟ - شتاء - ص 15 )
ويتحول الشاعر في اللوحة الثانية ليتحدث عن ذاته بضمير الغائب ( وهو الضمير الحاضر شعريا ) فيكشف طعنات وجوده الغائرة النازفة ، والقيود المميتة التي تلجم أي انطلاقة عزوم لطائر إرادته ، وهو يسعى للإفلات من قبضة الواقع الخانقة لمواجهة عاصفة الموت :
( طائرا ... ربطته الصخور بأوتادها الحجرية
كان يحاول أن يبلغ النهر قبل
حلول المساء الأخير
يحاول ... أن يوصد الباب في
وجه عاصفة الموت
أن يلتقيك ِ بمركبة من مطر – ص 15و16 )
وفي كل حالة إحباط تلطم آمالنا في رشدنا وتشعرنا بالعجز ، نتراجع إلى استذكار فضاءات الطفولة الذهبية ، وآمالها الوردية الصاخبة . وها هو الشاعر يستذكر طفولته التي لم يكن فيها شيء عصي على أحلامه . فهو يحمل الأقواس القزحية في راحتيه ، ليلون شعر حبيبته ، ولطاقته الهائلة كان حتى نهر " أبو بشوت " يركض في إثره . كان عونا للمتعبين جميعا ، أما الآن فهو :
( سيّد المتعبين
أريحيه فوق ذراعيك
سيغلق نافذة القلب ... ثم يغادر
تحت رذاذ الظلام – ص 16و17 )
لكن اللوحة الفذة النهائية لتي هي خلاصة كل الخيبات المستعصية المعبر عنها بالأجناس الفنية المناسبة ( يتساءل أحد النقاد الإنكليز : كيف نرسم صرخة إنسان مثكول بعد منتصف الليل ؟! نحتاج هنا إلى فن مضاف ) ، والتي تمتزج بها ، وبفنية عالية ، ملتحمة ، كل النوازع النفسية التي ستتشكل بعد عبور مرحلة " قبل الشعور " في هيئة نتاجات تأخذ تصميمها النهائي " فكرية ، سياسية ، شعرية ، مسرحية ، ........ إلخ حسب ملائمة هذا الجنس أو ذاك لضغوط غريزة معينة ( خصوصا الآثمة ) ارتسمت على لوح الروح الطفلة البيضاء ، وارتبطت بها بصورة شرطية " نفسية " شديدة التعدد رغم حاكميتها الجائرة ، الموروثات الجمعية التي ستوفر منسربا " شرعيا " ذا عدة شعب تمتزج بهدوء ، بل بصورة هامسة ، مثل ما كانت عيون الماء الخيطية تنحدر من قمم جبال شمال العراق ، لتمتزج وتتحول إلى شلالات هادرة ، وقد صعدت لاهثا أقتفي أثر الشلال الهائل في " سولاف " فوجدته ضئيلا بعين صغيرة وهو يسخر مني ! . ومهمة الشاعر المجيد أن يذكرك بخساراتك الباهظة .. الموجعة وجروحها التي لا تبرأ . يذكرك بها بالكلمة واللون والصورة والاستعارة ، والأهم بمزيج " كيمياوي " منها كلها ، يلتحم ويتفاعل ولا يبقى منه سوى العامل المساعد الذي يدخل معركة التفاعل ويخرج منها سالما ولكن ليس غانما ، وهذا العامل المساعد يتجلى في أعلى حضوراته الفاعلة في شخصية الشاعر ، فهو الذي يخدع مسؤول المختبر الشعري بأنه يدخل المعادلة ويخرج منها كاملا في حين أنه يتمزق ، وفي كل منازلة شعرية يضيع جزءا من روحه المتهالكة أصلا . هذه الروح تتفصل الآن ، وبهدوء مرير ، في كولاج يخلطه الياسري بطريقة لا يفيها حقها الشرح اللغوي ، والترصين النقدي ، والتشخيص اللوني وغيرهم ، ولا تكتمل الصورة إلا إذا التحمت هذه القدرات الفنية كلها ( ألم نقل أن الفطرة الكلاسيكية ضد الصنعة الشعرية الحديثة ؟ ) لتقدم صورة كلية لا تستطيع فصل أي جزء منها عن أجزائه الأخرى ( حاول أن تفصل أضلاع المربع القصيرة بدعوى عدم أهميتها كأجزاء صغيرة !) ، وهذا ما يلحم أجزاءه الكولاجية التي تضيع في أحشاء كلّ يغيّبه ويضيّع خصائصه الفردية . ولم يأتي ( من ) يستطيع تأخير إبحار الغروب ويسلب منه الشراع ، وصار الرحيل مؤكدا ، رحيل الشاعر الذي لم يرتب حقائبه للرحيل ، فهو ينسى أن إقامته مؤقتة ، وقد خسر عكازي وجوده المتينين ، فالجنوب لم يعد بيته الأبوي ، والمرأة العون الدافيء في شتاءات الوحشة :
( الغروب وشيك
الطيور تسارع صوب مهاجعها
والزوارق تتوسد أحضان شاطئها .. والرياح
تتباطأ في ركضها
وحده لم يرتب حقائبه
كان ينسى أن إقامته هاهنا مؤقتة
وبأن عليه التخلي عن البيت للقاطنين اللذين
يجيئون من بعده
تفاجأ – إذ أعتم الأفق –
أن أحبته غادروه
وأن الجنوب الذي كان يحمله فوق أكتافه
لم يعد بيته الأبوي
ولا أنتِ خمرته الدافئة – ص 17و18 )
وما الذي سيتشكل كنتيجة نهائية لكل هذه الخسارات وحالات الغياب المتطاولة ؟ إنه " غروب " وجود الشاعر ذاته ، فناؤه الذي لا مفر منه . ومثلما تهبط الشمس .. ويهبط ظلام الزوال ، سيهبط هو أيضا . وفي المقطع الخامس والأخير يعود الشاعر إلى فعل الهبوط لأنه يحكم بنية قصيدته الكلية ، ليس لأنه كرّره ست مرّات حسب ، فقد يكرّر الشاعر فعلا ما مرّات عديدة وهو يقصد نقيض معناه ، أو أنه يذكر ما يعاكسه ولكن الإيحاء الدلالي يكون مطابقا للأول . وهنا تتجلى جوانب من مهارة الشاعر الذي يقابل الآن بين الهبوط والطفو :
( تهبط الشمس للقاع
يهبط الليل
لا شيء يطفو سوى خوفه
قصاصات فوضاه
إهماله
إنه يهبط الآن نحو القرار
حطب صوتهُ
والزمان غبار – ص 18 )
لكن طفو ( ولاحظ أن من معاني الفعل طفا قاموسيا هو الموت بخلاف ما نعتقده من صعود وخلاص من الغرق أو انسيابية الزورق مثلا ) مخاوف الإنسان على سطح وجوده هو نفسيا هبوط من نمط آخر ، هبوط في قدرته على المواجهة ، وبذلك تكون الصورة الكلية النهائية هبوط شامل يصيب الفرد ومحيطه والموجودات ، ولهذا تحول الشاعر من ( تهبط الشمس للقاع ، يهبط الحقل ، لون المنازل يهبط ) في المقطع الأول والتي عبر به عن حالة الغروب الجزئية ، إلى ( تهبط الشمس للقاع ، يهبط الليل ) في المقطع الختامي ليرمز بظلمة الليل إلى " الغروب " الكوني الكلي .
ج - قلق الموت .. الموت حيّا
والشاعر ليس قلقا من الموت حسب ، بل يصل مستوى يعلن فيه أنه ميت لا محالة ، وأن المثكل قادم إليه لا محالة . إنه يرتعد .. بل يتوسل إليه أن لا يستعجله ، ويعترف له أنه هدر الكثير من وقته .. يرجوه أن يمنحه فرصة لقراءة كتب لم يكملها بعد ، لبكاء أحبته الراحلين .. وهي طلبات لا وقت لدى الموت لسماعها ، فهو في عجلة من أمره دائما . وحين يدرك أن كل هذه الإلتفافات الشعرية لن تجدي ، يرجوه أن يختار له – على الاقل – دربا أقل جحيما :
( تذكّر
يا آخر ضيف يطرق بابي
إني محتشد بالحزن البشري
وهدير طواحين الماضي
فاختر لي دربا
أقل جحيما
أرجوك
اجعله أقل جحيما – شتاء – إترك لي بعض الوقت – ص 90 )
الشاعر يعتقد أن الموت أمر فيه سيناريو شعري مثل الذي رسمه أبو العلاء المعري في " رسالة الغفران " أو الأخ دانتي في " الكوميديا الإلهية " حيث جهنم طبقات ، وغرف ، وطرق فيها مراعاة في القسوة ووجبات شجرة الزقوم .
والغريب أن الشاعر يؤسس لمفهوم جديد لمعنى الحيوية العمرية ولمفهوم الشباب ، فهو يرى أن العشرينات هي ليست ذروة فاعلية الفرد وحيويته ، يل أنها دورة الحياة الوحيدة وأن الإقامة بعد رحيل الأعوام العشرينية هو الموت بعينه . ولذا فهو – وبعد رحيل أعوامه العشرينية – الميت الحي الذي لم تبدأ شيخوخته بعد الستين مثلا كما يحصل علميا ، ولكن بعد طي صفحة العقد الثاني !! . وسنوات عقده هذا– خلاصة عمره – لم تنقضي كما تغيب سنوات عمار الآخرين كحساب زمني وتقاويمي، ولكنها فرّت مفزوعة منه وكأنها حركة غادرة انتزعت روحه بصورة غير مباشرة :
( كحلم أدركه صبح
صاخب
كقبّرة مذعورة
فرّت أعوامي العشرينية
...........................
كان عليها أن تحمل
أمتعتها
ومدّخرات منازلها
أن تحملني - مجموعة صمت الأكواخ – قصيدة العشرينات )
وبرسوخ هذا الشعور فإن الشاعر الذي يرى أن لا خلاص ، وأنه ولد ليخسر ، وولد ليموت ، سوف يتدرب على الياس .. سوف يدخل مرحلة اكتئاب ، مرحلة ينظر فيها إلى الحياة من ثقب باب الموت . وهذا الحزن الشديد هو من سمات نص الياسري الصارخة التي لا نجد مبررات ضاغطة للغوص فيها ، قد تكون محاولتنا فيها – وعذرا – استهانة بعقل القاريء . ولكن يمكن أن نشير إلى بعض أوجه تدمير الذات التي تترتب عليها ويتمثل جانب كبير منها في استعجال الموت ، فهو يوافق على تعويذات ابنته جمان كلّها ، تلك التعويذات التي ملأت بها جيوبه ، كي تكون حياته أكثر تفاؤلا وتصالحا وإشراقا في نظرتهات إلى الغد . وإذ سمعت جمان أباها يبكي كل غروب صارت تبتهل للشمس أن لا تغرب ، وإذ علمت منه أنه يبكي حطام طفولته الضائعة ، أصبحت تطلب من أسراب البط العائدة أن تعيد لأبيها أيام طفولة القصب والبردي . وكان الأب يوافق على كلّ دعواتها ، حتى التي تُشم منها رائحة مؤامرات " إلكترا " المباشرة التي قد " تخرّب بيته " حين تصلّي جمان للرب كي يمنح أباها صداقة أكثر من امرأة كي تمنع عنه الشيخوخة . أمنية واحد يرفضها الأب الشاعر ، ويعبر رفضه عن اشد أشكال السوداوية ، فهو رفض مكافيء للنزعة الإنتحارية غير المباشرة :
( في الليل تضع
تحت وسادة نومي تعاويذا
تدعو لي بمزيد من السنوات
هنا أقبلها وأقول :
جمان ، لا تتمني لي هذا )