جلس في ركن قصي في المقهى لكي لا تدركه عيون العواذل الذين يتناسلون هذه الأيام مثل إناث القطط، فتح كتابا كان يتأبطه وغرس بصره بين دفتيه، وكان لا يحيد ببصره عن هذا الكتاب إلا ليشعل سيجارة من بقايا أخرى أو ليرتشف من فنجان القهوة رشفة ذات طنين مثل صرير باب قديم، كان يدون في مذكرته جملتين جناهما بعناية الريفيات من الكتاب حين لمح في الطاولة التي تقابله أنثى ترتدي معطفا شتويا أحمرا وتوشح جيدها الطويل بشال يتناغم مع أسود حذائها ذي الكعب العالي، وكانت رواية " انا كارنينا" لتولستوي تنام على ظهر مائدتها بغنج الأميرات، فرك عينيه اللتين غزا السواد أرصفتهما، واسترق النظر إليها لكي يتيقن من أن هذه الأنثى ليست شخصية من رواية نسي عنوانها.
دفن رأسه بين دفتي الكتاب يحرث صفحاته بفرحة الطير بالبيادر النضار، ولم يخرجه من سياحته في عوالم هذا الكتاب إلا صوت نسائي، لم يكن ذلك الصوت الشجي كهديل الحمام إلا لتلك الأنثى، مدت يدها إلى ولاعته معتذرة عن إزعاجه بلطف لذيذ كنسيم الفجر، نده بابتسامة مرتجلة تفضح ارتباكه، فكر ان يدعوها لتشاركه فنجان القهوة لكن خوفه القديم من النساء أجهض هذه الفكرة التي استوت مضغة في ذهنه، كان ينفث دخان السيجارة في الهواء حين لاحظ أن تلك الأنثى تدخل دورة المياه، قوة ما تدفعه ﻷن يتصفح رواية " أنا كارنينا" التي تركتها على المائدة، قد تكون فضولا لمعرفة ما خطته تلك الأنثى من ملاحظات في حواشي صفحاتها ، أما هذه الرواية فقد قرأها منذ كان طالبا في الجامعة ولم يعد يتذكر حتى شخوصها بل مفاصلها الكبرى، حرص أن يلقي على هذه الرواية نظرة سريعة قبل أن تعود ذات الكعب العالي من دورة المياه، اكتشف وهو يتصفح هذه الرواية أن غلافها الذي يحمل اسم "تولتسوي" و"أنا كاترينا" طبع بالخطإ على ظهر هذا الكتاب الذي توضح صفحته الأولى أنه كتاب في تفسير الأحلام لمؤلف مجهول، أعاد الكتاب إلى موضعه على الطاولة، تأبط كتابه وخرج من المقهى وهو ينفث الدخان في السماء متسليا بما يرسمه من بقع في الفضاء.