عدنا إلى الدار أنا وحبيبتي بعد أن أمضينا يوم أحد ربيعي مشمس نتجول في الغابات. استلقيت على الكنبة في الشرفة المطلة على الحديقة. تناولت جريدة أمس، واندهشت أن جميع صفحاتها بيضاء إلا من إعلان كبير يملأ صفحة بكاملها:
(مخازن الحلم الكبرى) تعلن عن تخفيضات نادرة لسعر القمر.
وقد حدد الموعد مساء اليوم التالي أي الاثنين.
شعرت بنوع من الإثارة معتبرا هذا الإعلان استجابة لحيرتي منذ أيام لاختيار هدية مناسبة لحبيبتي في عيد ميلادها. فقلت: هاهي السماء تدعوني أن أهديها القمر.
كتمت الأمر عن حبيبتي. وفي اليوم التالي ذهبت وحدي في الموعد المعلن في الساعة السابعة مساء. تبين أنها ليلة اكتمال القمر. فعلا وجدت آلاف الناس مجتمعين في الحديقة الكبيرة المطلة على البحيرة ينتظرون بزوغ القمر مكتملا متلألئا وسط السماء منعكسا على مياه البحيرة تحيطه النجوم مثل عريس ليلة زفافه.
كان السعر المعلن خارقا للعادة في رخصه (99,9) يورو. وبما أن الجميع قادر على الدفع فقد ارتأت إدارة المخازن إجراء قرعة. فكل من يرغب يأخذ رقما، ثم الفائز يحق له شراء القمر.
ومن غرابة الصدف أن يكون رقمي أيضا (999). وكانت لحظات ترقب سماع الرقم الفائز، ساد صمت بين الجموع المحتشدة، فلا تسمع غير همهمات خفيفة وأصوات أطفال وهفيف ريح وقرقعات مويجات البحيرة. فجأة ارتفع من مكبرات الصوت صوت رقيق ضاحك لفتاة تعلن الرقم الفائز. وكان رقمي (999)!
بقيت لحظات صامتا لا أستوعب الحقيقة، لولا أن نبهني من بجانبي وهم يشيرون إلى رقمي.
كانت دهشة الجميع عندما أعلن عن بدء عملية إنزال القمر من أعالي السماء. وفعلا رأيناهم يشغلون محركا كهربائيا دوارا يسحب حبلا معدنيا لم يكن مرئيا قبل ذلك. طرفه الآخر غائب في عتمة السماء. وإذا بنا نشاهد حصول ما لم يصدقه العقل:
القمر يهبط بالتدريج على طاولة البيع حيث تجتمع سبع فتيات جميلات ضحوكات مع أوراق ملونة للتغليف. ما أن حط القمر على الطاولة حتى شرعن بكل براعة في تغليفه وربطه بخيوط ذهبية وفضية ملونة على شكل وردة. ثم قامت إحداهن وهي شقراء بعيون عسلية، بتقبيلي وتهنئتي وسط تصفيق الحشود وأهازيجهم، ووضعت القمر المغلف بين يدي.
لم يخطر ببالي أن يكون القمر بهذا الحجم والثقل حتى إني عجزت عن حمله أكثر من عشرة أمتار. اضطررت أن آخذ "تاكسي" ليقلني إلى بيت حبيبتي. عبر نافذة السيارة انتبهت فإذا بالسماء حالكة والنجوم رغم توهجها صارت شاحبة حزنا على فراق القمر.
عندما فتحت حبيبتي المغلف وشاهدت القمر، ارتمت علي مقبلة شاكرة. ولم أتوقع أن تقول لي:
ـ شكرا لك حبيبي، لكني بالحقيقة كنت أظن أنك ستهديني الشمس..
لم أفهم قولها، أهو تعبير عن دلال أم سذاجة؟ أجبتها بجدية وبنوع من الغضب المكتوم، وأنا غاصب نفسي على ابتسامة:
ـ لكني يا حبيبتي خفت أن تحرقك الشمس!
وإذا بي أستيقظ على قبلات حبيبتي وهي تقول:
ـ اصح يا حبيبي العشاء جاهز. لكن أخبرني بماذا كنت تحلم.. سمعتك تهمس بالشمس والقمر..
فتحت عيني وإذا بي أندهش من أن وجهها الذي فوقي تحيطه تماما دائرة القمر في السماء، فبدا وكأنه وجه القمر..
فهمست وأنا شبه غائب:
ـ أنت قمري يا حبيبتي..
فهمست هي:
ـ وأنت شمسي يا حبيبي.