على شواطئ الغربة هدّمت خيامك الحزينة ، طويت القهر ورميته خلف الدهر، ورتبت أزمنة جديدة في حقيبتك ، لتعود قافلا إلى مضجعك الأول، تكمل بالنيابة مشروع الأب الذي التقمته في ليلة طائشة إحدى الطلقات غير نادمة ،لتلملم شتات الأم والفراخ الزغب ….
توجهت إلى المطار، وفي يدك آخر مشرط لذبح الفاجعة ، من أقاصي عينيك تنط الفرحة ، ولهفة الوصول تضرب أوتار القلب، بك عزيمة تخطي المدن الفاجرة ، والأعاصير، وزرقة البحر، لتوقظ أقاليمك من نعاس الأنقاض، تزرع في صخرها حقول القرنفل ، تغتال على عتبته الإيقاعات الغبنة أتعابا فرخت بلا حدود. فبعد أن ملأت سلالك بنواضج التمور ، تحاول مَدّ سواقيها إلى المدن الجائعة بالوطن….هكذا توقدت بنات الأفكار …
التهجير كان مرغما .. فرارك من أجساد تعشق الرقص على أسقف البيوت المهدمة لم يكن بأمر منك، ولا الرعشات المثيرة جراء أنين المفجوعين من دواعي اختيارك ..طوحتْ بك كغيرك قسوةُ القتل لتنفلت بجلدك من أياد مصاصي الدماء..
انزويت بركن الجامعة مستظلا بظُلمة الإحسان ،لا تأبه بمباغثات الوضع الجديد ، يحترق دمُك باحتراق اللحظات ... بشراهة تلحس ما في الكتب، وما في دماغ الأساتذة ، لتبلغ زمردة تبرق وتغيب بين قلائد الأحزان .... فراق الوطن صعب ، قتل الأبرياء صعب ، التشرد صعب ، انتزاع الفاكهة من حضن التعساء صعب ... هكذا كنت تتفوه حين تجرفك لحظة غياب ... كنت تقتات من جلدك والتراب ، قافزا على الكهوف والأنفاق ، لتتخطى مرحلة مذنبة ، فَتفوز بأخرى ندية .. لم تكن تعنيك نفسك بقدر ما يعنيك وطنك ؛فركبت سفن التحدي في تأفف وقتلت اللحظات المتكالبة بنجاح ....
أخذت مقعدك في الطائرة ، وما إن استويت حتى شرعت أقراط الذكرى تنهال: صخب متلاحق، أصوات ، طلقات ، صراخ ،أحداث تتناسل ، الأطفال يخمدون رؤوسهم بين أكتافهم برعب ...
"الصهاينة كلاب ، حشرات لادغة اندست في صفوفنا لتقرض برتقال المودة بين العرب ، وتستأصل حلقات التلاحم" ...
"لا أدري من أين رمتهم ريح صرصر ليشردوا شعبنا ، ويغتصبوا أرضنا" هكذا كنت تحاور نفسك في صمت مطبق ...
تنتفض مذعورا للسعة مجنونة ، تمرر أناملك على شعرك ، تستفزك تنهيدة عميقة تنفيسا عما يحترق في قاع الأعماق ، تلتفت يمنة : دوي المدافع ، لحم بشري يتراقص في الهواء ، أو عالق بفوهات بنادق ؛ تلتفت يسرة ،أتربة ممزوجة بالدماء ، جثث متعفنة ، نساء تعوي ، صبية يثغون ، دَبّابة تخدش وجهَ التاريخ ، لتدنسه بحلم محبوك ، رسمتْه كفوف الرغبات العاهرة ، ((إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات)) ...فتهيء للذَبْح من القفا، وبقْرِ بطون الدول العربية.. السماء تنشق عن اللعنات ، والأرض تتجرع كؤوس المساءات الرهيبة .. يزهر الألم في ساحة الأحداث ، فتنزلق من عينيك بلورات تتدحرج بين مفاصل الخد ، يرافقها أنين موجع ، تمصمص الشفتين في حنق ، ثم تعود أدراجك إلى جو أزيز الطائرة خارجا والصمت المخيم داخلا ….
وصلت بسلام ..المسافرون يرتبون للنزول..ترمي معطفك على كتفك ..تأخذ حاجاتك ..تندلق من رحم الطائرة ..تقف مشدوها تسرب ناظريك في فضاء اعتقله الزبانية ، وأرض تفرز بين جذوعها مستنقعا بطعم الموت ،وشمس ملفوفة في ثوب الرحيل ،وهواء عطن بريحة الجيفة …يبتلعك الفراغ ..تقل سيارة أجرة إلى المكان الذي تركت فيه قدميك ، ونبضك ..المسافات تطول ..الطريق تنجر إلى الخلف ..والوقت يتمرن على الحبو …بلغت المكان ..ناولت السائق ثمن الرحلة .. وقفت تتفرس بدهشة في المتسع ..تحمل حقائبك مرة أخرى ..تتابع السير أماما ..تنعطف إلى اليمين ..إلى اليسار.. يستوقفك شارع آخر ..تضع الأمتعة ..تبرق أمامك لحظة اشتعال المشاعر ..بسمة أمك ..عيون إخوتك المتدلية من عالطش ..قلوب أحبة تحتفي بنشوة اللقاء …أنت المنتظر، مَن سيحتضن مخلفات الزمن الهارب في درب المشقة الطويل.. يجتاح سمعَك صوتُ أخيك الأصغر يركض نحوك بملامح منشرحة :
- أخي جاء أخي جاء ..
- تهرول الأم في دهشة عميقة ممسكة أذيالها بكف، وبالأخرى تلوح هاتفة داعية ، منقادة بحبل غريزة الأمومة الرابض في الأحشاء …أنت القادم تسارع الخطو ..الأم تصيح ..الإخوة يتسابقون للفوز بأول قبلة …تضع الحقائب ..الإخوة يتجاذبون جذعك ..الأم في عناق حار توزع فراشات القبل على خديك وجبينك ….تنتبه على جرس سيارة …. تعبر إلى الجانب الآخر .. الدرب هو الدرب ،الرصيف ليس هو الرصيف ،الأشجار ليست هي الأشجار …شظايا منازل ..خراب ..سَرتْ في جسدك رعشة خطفت من حلقك الرحيق ..تسمرت في صمت ، وعاتية عصفت بملكة التدبير ..غاب عنك الاتجاه ..تابعت رهيف الخط متجولا بين الأتربة المكدسة وأظلاف الحطام "هنا بيتنا" …" لا بل هنا" .." ربما هنا " .."يا إلهي " ..أسئلة تتلاحق.. تصورات مربكة .. توتر ..آخيرا تتوجه إلى أحد الفنادق… وفي قلبك جمرة الفاجعة ...
من مجموعة ((مدن تحت المجهر ))