أقيم الحفل.قلت لا بد أن يكون حفلا خليقا بالحدث ,, قال والدي ؛ سيكون عرسا عظيما. سأذبح للوافدين عجلا وخروفا. وسيكون حفلا بهيجا . ثلاثة نهارات بلياليها.. ستدق الطبول وتصهل المزامير في المنزل والساحة والحيّ والبلدة بأسرها . أعدكم بذلك سيكون حفل ختان بهيج .
وتقدم والدي من أحدهم يحثّه على الاسراع و تعليق موثّثات مشهد الزينة في فضاء فناء الباحة الواسعة التي بلّطت منذ أشهر استعدادا للحدث,وعلى اتقان عملية التزيين.
ـ ارفع جيّدا هذا الحبل,وآشدد سلك الكهرباء الى تلك الشجرة .اسحب الى ذلك الغصن بما يسمح بتدلّي الفوانيس /.على كامل محيط المنزل وجوانبه . هيّا. أريد أن يغمرالضوء أرجاء المكان ,أريد أن يرقص الضوء مع رقص النساء والرجال والأطفال في الساحة . أريد أن يتحوّل اللّيل الى بهرة ليكون الحفل مشتعلا بالفرح والبهجة.
انتبهت إلى تواتر كلمة بهيج وبهجة . وجعلت أحرفها تنزل في النفس وتقطر بالدلالة عميقا في الحنايا .
وشعرت أنّ والدي يعني مايقول , ويقول اللفظة في صدق والعبارة بأمان, لا يراوغ ,لا يزوّر ,لايمين. قالت شقيقتي وفي عينيها ضوء من غبطة :
هذه فرصة فرح حقيقيّ. سنرقص إلى ما بعد الفجر . سأرقص حتّى يتطاير النقع .سنزغرد حتّى تتصدّع الحناجر.
ـ بلى سوف نرقص ونغنّي ونستدعي الجميع . كانت أيّامنا كلّها دمعا. لقد مللنا الحزن.
قاسمتهما الشعور والموقف :
ـ خلدون ابنكمْ فافعلوا ماباستطاتكم, لن أحول دون رغبتكم .
قالت شقيقتي:
ـ سنفرح على طريقتنا. الولد ليس ولدك وحدك .عليك أن تتخلّى قليلا عن قناعاتك وكليشهات ثقافتك..دع ما يتعلّقُ يتعلّق بطرق تنظيم الحفل وطرق الاحتفاء بالحدث .. وأنا أقول لكم من الآن سأ فرح حتّى الثمالة رقصا وغناء طربا وأكلا و شربا.
ضحكت مذعنا فيما عاد الوالد من الطواف ومن رحلة تفقّد الزينة , ثمّ دنا منّا مستفهما و مديرا وجهه نحوي:
ـ ماذا كانتا تقولان لك ؟
ـ لا. لاشيء. أردت أن أقول فقط لا ينبغي أن نضخّم الاحتفال وأن نتجاوز امكانيّاتنا
ويحسن الاستغناء عن...
قاطعني:
ـ دعك من هذا الكلام . إن كنت تخشى الخسارة فسأتكفّل بالنفقات بمفردي .
ـ لا. لم أعن هذا تماما.. وانّما...
ـ دعك من هذا .. خلدون ليس ابنك . بل هو ابني , ومقدار محبّتي له يتجاوز كلّ حد . ولا أريد أن تكون وصيّا عليه بشكل قد يزعجني ويغضبني. وهذه المسألة لا تعنيك.إنّه حبيبي وكفى..
وجدتني محاصرا بمواقف الأسرة . وألفيتهم قد تعاضدوا علي.. فقلت وكأنّي قد فهمت مواقفهم ودوافع كلامهم:
ـ أنا أنسحب وتصرّفوا.
ونظر الوالد مستنكرا, وقرأت في عينيه وحركاته لغةً تقول في سخرية :
ـ أنت أيضا صرت أبا ! وصرت تصوغ قرارت .إنّك مازلت تحتاج إلى تربية وتأديب ورعاية .
وأحسست في لحظة أنّني ماأزال فعلا بحاجة الى رعاية أبويّة وعطف عميق وحنوّ ينتشلني من هزّات ذعر بالغة الرجّ.ّوأنّني في زمن القتل والرعبأحوج ما أكون إلى الحنوِّ .. لكنّي وأنا أنصرف لقضاء بعض الشؤون المنقوصة , ولشراء بعض لوازم الاحتفال ردّدتُ مواقف الأسرة في داخلي لاسيّما موقف الوالد.و وجدتني مقتنعا أو شبه مقتنع بمبرّرات كانت لإبداء وجهة نظر مماثلة.
كان أبي قد اشترى لخلدون زيّ الختان منذ ما يزيد عن أشهر ثلاثة: جبّة وشاشية وشروال قصير و"بلغة" ومسلتزمات ذلك من الملابس الداخليّة . وظلّ يردّد وهو يتمعّن في مشترياته : أمّا هذا الزيّ فليوم الختان . ليكون العريس خلدون في أبهى مشهد .سيكون حبيبي أجمل الاطفال والرّجال على الإطلاق..أمّا بعد أن يتماثل للبرء, ويدخل في مرحلة التماسك فسيلبس زيّه هذا,,ويسحب من خزانة الملابس كسوة كاملة: قميصا أشبه بقمصان الرجال الأنيقين, وبنطالا وربطة عنق وحذاء. ويظلّ أبي يتأمّل ا لزيّــيّـن في غبطة واشتهاء..وأحيانا يطول به التفحّص, وتعنّ له خواطر لا يفتأ أن يترجمها في تعبير صريح:
ـ سيكبر. ويشتدّ عوده. سيتحوّل إلى رجل فحْل مُـخْـصب, وأنا أحبّ الرجال المخصبـين . وخلدون فحل.في ملامحه ما يدلّ على ذلك. على أنّه كثير الانجاب . وذريّته سيغمرون المنزل وسيسدّون الفراغات. سيكون له نسل مدهش , نسل من الأقوياء. لا يهمّ إن كان أبنائي قليلي الولادة والإخصاب . واحد كخلدون سيعوّض كلّ احساس بالحرمان وسيتقافز الأبناء كجراء الذئاب, وسيملؤون الأرض ويخترقون الجبال كالنّسور وينتشرون هنا وهناك يحمون الدّار والجدار ويذودون عن الأرض والحقل والمزرعة..."
ظلّ أبي مولعا بذلك الحلم ..وتحوّل عنده شيئا فشيئا إلى أمل فيقين ينبغي أن يضمن له الحماية والعناية الكافيتين . وتحوّل عند كثير من أفراد الأسرة إلى حقيقة ينبغي عليها أن تنخرطَ في نسيج الواقع اليوميّ، لذلك كانت مشاهدة زيّ الختان تحرّض فينا شهوة الاستمرار والخلود. حتّى أنا نفسي والدُ خلدون، هيمنتْ علي ّفكرةُ الامتداد وأنا اخطو في أسواق المدينة منتقيا لوازم الاحتفال..حتّى ردّدتُ لا إراديّا في نفسي :
إنّه ولدي الوحيد . عليَّ أن أوفّر له كلّ شروط الطمأنينة ..كلّ عناصر إبهاجه. وعليه أن ينتشي منذ الطفولة..فمتى صلحت تلك المرحلة المبكّرة من العمر صلح كلّه. ومتى فسدت فسد. فالطفولة فترة النّشوات الذهبيّة.. وألق الآتي رهين زهو القديم، والذّاكرة متى صفت في البدايات صارت عند التضج أكفأ في الانتاج والخلق .
قلت لزوجتي:
ـ ولدي خلدون نسخة واحدة وعليه أن يتكرّر,أن يصبح جمعا,أن يتعدّد.
قالت:
ـ ما الذي تعنيه؟ أتعيّرني بقلّة الإنجاب؟
ـ لم أقصد ذلك. إنّما أحدّثك عن معنى الامتداد. عن كيف تتحوّل الندرة إلى كثافة . وعن كيف تستحيل الوحشة إلى أنس..وأنا و خلدون قليل. وعلى خلدون أن يغيّر الحالة. أن ينفخ في العقم فينفجر حبلا ومخاضا وإنجابا وانتشارا..
ـ هذا الكلام,ليس لك,وسابق لاوانه.
ـ ولكنّه يقنع .وعلى أيّ حال أردت أن أقول شيئا آخر , وأن ألفت نظرك إلى أمر هامّ.
ـ وأيّ أمر هذا؟
ـ على الطفل أن يتغذّى جيّدا, وأن يكتمل نموّه حتّى ييفع ويصلب. عليه أن يتحوّل إلى رجل كما أتصوّر. ونحن من يهيّء له ذلك.أنا وأنت من يعدّ له مناخ النموّ.. أنا أوفّر متطلّبات نشأته وترعرعه, وأنت تسهرين على نظام غذائه.تسهرين وتعتنين وتهتمّين بذلك بشكل مميّز.
نظرت زوجتي في برود .وقالت والاستغراب في لهجتها جليّ:
ـ لم كلّ هذا الحرص على العناية بخلدون ؟ دع الأمور تمض على طبيعتها.سيكبر الطفل بشكل تدريجيّ.فلا تجعل هذا الانشغال همّا وهاجسا.. والأجدر بك الآن أن تستعدّ لختانه قبل التفكير في أيّ أمر آخر.
قلت في سريرتي: "ناقصات عقل ومنطق ومحدودات النّظر أمّا البصيرة فعمى مطّرد".
ثمّ توجّهت إليها وأنا أتظاهر بالمزح والدّعابة :
ـ لأنّك سطحيّة يا حبيبتي لم تتبيّني أ نّ الأمور متّصلة ببعضها عى اختلافها ومفضية إلى نتيجة واحدة على تشعّبها .
لكنّها ردّت في غضب من أحسّ بالتحقير:
ـ أنتم الرّجال دائما تعقّدون الأمور وتميلون إلى المبالغة ,ولا تحقّقون من النّتائج إلاّ التّافه الرديء .
ـ ربّما ,من كان يجهل أسبابي الدفينة وأحاسيسي الخبيئة, لا يعدّ الأمر جللا ولايراه خطرا كما أراه.. المهمّ أنّني أعي المسألة وأدرك الدّوافع . ولست مطالبا بشرحها لك.ا الفرق بيننا أنّ
ما أراه عميقا ترينه عاديّا
ـ هذا الكلام لا يعنيني, وهذه العقليّة المتخلّفة لا تتناسب وثقافتك. أم أنّ ذلك محض ادّعاء؟
ـ ولكنّ هذا الأ مر يعنيني.ولست مضطرا للدخول في التفاصيل , فحسبي أنّي أنظر إلى المسألة من زوايا لا تدركينها .
ـ فكّر كما يحلو لك.. المهمّ ماذا جلبت لنا من أغراض؟
ـ انظري . قارورتي عسل. وخاطبتها في حبور و ضرب من الصرامة ملحوظ: انظري,هاتان قارورتان من عسل حرّ,لخلدون .لا أسمح لأحد بأن يلعق منهما ولو لعقة صغيرة واحدة ..خذي هذا واحتفظي بهما لما بعد الختان مباشرة .وهذه كمية من اللّوز والفستق, أمسكي. اعملي على دقّ هذه البقول جيّدا,ثمّ اخلطيها بالعسل.وواظبي على إطعامه ملعقة عند الصباح وأخرى قبل النّوم,دون أن تنسي كأس حليبه بالطبع..
ضحكت زوجتي وهي تقول :
ـ كأنّي اقف أمام أحد الشيوخ الطّاعنين..حبّك الجارف لولدك يبدو لي غريبا نوعا ما.بل مبالغا فيه . أمّا حركاتك هذه فتذكّرني بوالدك تماماـ نبرة الصوت ولهجة الوثوق, وجديّة اتّخاذ الموقف في أمر بسيط لا يستحقّ الاهتمام.
{sidebar id=6}
شاركت زوجتي الضحك لأنّها أحالتني على نحو خفّيّ إلى مشهد والدي وهو يصرّعلى صناعة قرارات غالبا ما تكون واهية. ولكنّ هذا الأمر بدا لي في لحظة قويّا مفحما..حملقت فيها برهة . ووددت أن أ قول لهاـ ولعلّني قلته في صمت ـ لم لا تحسّين نفس إحساسي؟ لم لا ترين في خلدون ما ينبغي أن تري؟ لم لم تدركي أنّ خلدون عدّة المستقبل ؟ كيف لم تفهمي أنّ الأطفال إذا توالدوا صاروا حماة لظهورنا من أيّ غدر ؟ وصاروا درعا يقينا من الموت المبكر؟ ؟ لم لا تفهمين أنّ الحضارة لا تنهض إلاّ على الاستمرار والتّناسل؟.علينا أن ننجب الكثيرين لمجابهة أعدائنا..أمّتنا أحوجُ إلى نسْلٍ يقيها كيْدَ الكائدين أؤلئك الذين يسعوْن بما أتيح لهم مِنْ دهاء وحقد على أن يجعلونا قوما عقيمين. أمّا العقمُ فجالب للعقم. والفراغ يفضي إلى فراغ . ومن الوحشة تنسل الوحشة ..
أردت أن أقول لها ما لا تعلمُ عن أحزمة التعقيم الصهيوني وعن محاولات اإبادة الجماعيّة عبر مختلف المجازر التي ارتكبوها.. وددتُ تذكيرَها بصبرا وشاتيلا، وقانا مكرّرة وجنوب لبنا وغزّة ..والبقيّة تأتي ..
وددتُ أن أقول لها: تصوّري أزمنة الشيخوخة والهرم يوم نردّ إلى أرذل العمر , ويوم يصيبنا التراكم والوهن ,وتبرد حرارة الدّنيا في نفوسنا. فمن يعيد إلى بقيّة الروح حرارتها,بعض وداعتها؟أيّ نفح يغذّي عظامنا إذ تتهيّأ للتفتّت والانسحاق؟أردت أن أقول أشياء كثيرة لولا أنّي خشيت تعكير أجواء الاحتفال , وأمزجة الفرحين..
ورأت زوجتي أنّني وأنا أتملّاها,أقول كلاما كثيفا. وكمن ودّ قطع المحاورة تناولت القفّة من بين يديّ وقالت:
ـ سأستخرج بقيّة الأغراض في المطبخ,بمفردي .
قلت لها مردّدا :
ـ ايّاك أن تتغافلي عمّا أوصيتك به , غذاء خلدون وعسل خلدون .من هنا فصاعدا لن يغيب العسل عن دارنا. ولن نهمل أيّ مقوّم من مقوّمات غذائه,بكلّ أنواعه وشروطه.
سحبت القفّة وومضت وعليها ملامح الانزعاج والاستغراب والنّقد الصامت. وسحبتُ سيجارة من أعماق جيبي وأطعمتها النّار, وعبرت إلى ساحة المنزل مكتشفا جديد التّزويق والزّينة, وأنا أدسّ دخانها في باطني .وكما أحسستُ تحوّل لفافة التّبغ إلى دخان ذائب أحسستُ تحوّل كثيرمن المرئيّات عن حالاتها الأولى التي تركتها عليها منذ مدّة ليست طويلة.
أخيرا ازّيّنت الأرضُ.. نُضّدت الأشياءُ المهملة في أماكن لا يتاح للزّائرين التّفطّنُ لها . سُـوّيت المقاعد على شكل دائري ّوسيع,بما يسمح بالفرجة من مختلف الزّوايا, وبما يسمح للرّاقصين بالرّقص بحريّة وجنون. ونظّمت مجالس النّساء وفُرِشتْ بحُصُر عدّةٍ و زرابي مختلفة.. وتناظرت على ذلك النّحو, مجالسُ من يقتعدْن أرض الحُصُر, ومجالسُ الكراسي المرصوفة بطريقة تحيط بالمساحة المخصّصة للرقص , والمساحة الأخرى المخصّصة للأكل حيث جهّزت الموائد بالصحون وبأواني الخبز والملاعق والأكواب وغيرها ...
أمّا فضاء سطح المنزل ففيه امتدّت الفوانيس وتألّقت بأضواء مختلفة التلاوين جعلت ـ حين أمر والدي بتجريبهاـ تبهر الرّائي بتراقصها , و تكاد تخطف الأبصار بلطف .وعلى واجهة الجدار الأماميّ علّقت الأبواق ومضخّمات الصّوت ,وأعدّت الشان ستيريو, وجــهّـِـزت الأشرطة التي بها سوف يتم ّتنشيط السهرة ..
دلفتُ إلى الباب، كان بعض الوافدين قد حضروا حين أوشك اللّيل على الولوج سلّمت عليهم فيما انهمك والدي في الحديث والملاطفات . واتّخذت مقعدا بجوارهم. ودار الحديث حول مواضيع عديدة كان محورَها الختانُ .
قال أحدهم:
ـ العاقبة للنّجاحات والمسرّات الكبرى.
قلت:
ـ بارك الله لكم في أبنائكم, وجازاكم خيرا.
عقّب والدي:
ـ نردّها لكم في الأفراح..
ثمّ أضاف:
ـ هذه الفرحة الصّغرى . أمّا إذا تخرّج طبيبا أو محاميا فسأزوّجه إمرأة نادرة الفتنة. وربّما زوّجته أكثر من واحدة .
ضحك الجماعة ونظر بعضهم إلى بعض ,وتغامزوا ثمّ تدرّجوا في الهمس حتّى القهقهة.
قال والدي جادّا:
ـ سيكون خلدون ذكرا فحلا.. سينكح ما طاب له من نساء مثنى وثلاثا ورباعا , وأكثر أن شاء . وسوف يكفيهنّ كلّهنّ. سأعلّمه الرماية, ولن يرميني..
وانفجر الجلساء ضحكا.. أحسستُ أنّ الموقف يتحوّل الى رهانات جنسيّة ولم أخف مع ذلك ضحكي. ولكنّي تظاهرتُ بنداء خلدون واستدعائه.. فجاء.. وسلّم على الحاضرين طفل كأنّه يعلم أنّه سيتحوّل منذ الغد إلى رجل تنضج فيه الرّجولة تدريجيّا فتضحي فعلا لا صفة..
ربّت أحدهم عليه كالمستبشر .وأدخل يده في جيبه وأخرج عشرة دنانير ودسّها في كفّ خلدون قائلا:
ـ هذه من عند عمّك.. وكذلك فعل جارنا عبد السّلام . فقد سحب ولدي من يده , وقبّله قبلة على جبينه , ثمّ قدّم إليه هديّة صغيرة في علبة ملفوفة , ودسّ بعد ذلك في جيبه ورقة نقديّة. فقبلها الطفل وقد أومات إليه ووالدي بذلك..
أمّا أبي فقد جعل يلحّ على أن يقدّم للجماعة العشاء قبل أن يكثر الزّائرون وخشية أن تختلّ الأنظمة , وينسى بعضهم في زحمة الإقبال والانصراف وحركة الاستقبال والتّوديع. وتقدّمت بعض نساء الحاضرين وقبّلن ولدي وأعطينه نصيبا من النقود.. وتقدّمت زوجتي وراحت ترشّ الحاضرات والدّاخلات بالعطور . بينما فاحت في أرجاء المكان عجاجة من بخور , وغمر المكانَ طيبٌ ..وصلوات على النبيّ انفلتت فجأة من ألسنة الجماهير التي جعلت تتوافد علينا في كمّ ملحوظ.. واتّخذ كثير من النّاس مقاعدهم في الساحة.وتحلّقت نساء وفتيات فوق الحصر . ودبّ فوق الزّرابي بعض الصبية الصغار .. وانهمك الضّوء في التّراقص تتناوبه لعبة التبادل والتّداول.
وحين دخلت أمّي مسلّمة على الحاضرين. ثمّ انزوت قليلا عن ممرّ الدخول, رفعت يدها الى بين الخطم والفم , وأطلقت زغرودة طويلة حادّة كانت إشارة لانطلاق سيمفونيّة بدويّة من زغردات نساء البلدة .
في تلك الأثناء همست أختي في أذني :
ـ صلّي على النبيّ. ما بالك صامتا ؟
ـ صلّى الله عليه وسلّم. عاديّ .
ـ لا ليس عاديّا, ولا ينبغي أن يكون عاديّا. ابسط أساريرك . وافرح واستقبل القادمين بأريحيّة وهدوء وحفاوة ...
ـ حاضر. أمركم مطاع وأنا رهن الاشارة.
ابتسمت ثمّ أردفت :
ـ ما رأيك لو أفتح الشان الآن؟
ـ أرى أن يتمّ الجماعة العشاء وبعد ذلك افعلي...
ـ إذن كما قلت لك انبسط فكأنّي أراك منزعجا أو مهموما أو ما شابه ذلك.
ـ انصرفي , فأنا على ما يرام, انصرفي.
و تظاهرت بدفعها مداعبا.. ولمّا انصرفت فكّرت فيما قالت ووجدت أنّها صادقة. فقد كنت في زحمة الأعراس والاحتفالات وفي خضمّ الرقص والابتهاج, أغْمَرُ بحالات غريبة من الحزن ونوع قاس من الاغتراب. ولكن هذه المرّة عليّ أن أخرج عن حالاتي القديمة وأنفض الحزن وأخترق الاغتراب .. وقلت في نفسي :
"انّه فرح خلدون الاوّل . فليكن فرحا كهذه الأضواء الرّاقصة فوق رؤوسنا. ولينتقل هذا الرّقص المضيء الى داخلي "..
وسارعتْ دون تهيّؤ مسبق إلى فتح الشّان وزرع الشريط داخلها..حتّى إذا ماانطلق الصوت عاليا والإيقاع سريعا, تدافع الشبّان والفتيات إلى الحلبة , وطفق الرّقص والاستدارات والالتواءات تتسارع. وابتهج اللّيل في تلك اللّحظات بالضّوء والرّقص والغناءوالزّغردات.
وأحسست بالنّشوة تسري ثملـةً في دواخلي. واندفعت دون أن أشعر بذلك إلى حثّ بعض الشبّان على استئناف الرّقص.ثمّ همست لوالدي بضرورة إطعام من تأخّر عن العشاء أو من فاتهم شربُ الشّاى وتناولُ الحلويّات .
ومضى والدي يستضيف ويحْـــتفي بطريقته, فيحلف مستبقيا بعض الزّائرين , ويلحّ في تقديم الشّاى ... ويعنّ له من حين لآخر أن يجالس ضيوفا جددا لم يسبق له أن حادثهم. وتتداعى شجون الأحاديث فتعدل عن مقامها وتنزاح عن سياقها.فيتحوّل الحديث عن أجواء الفرح والاحتفال إلى أجواء المرض وأطوار العمليّات الجراحيّة التي خضع لها والدي فترة من حياته. ويتحوّل والدي إلى طفل هشّ,تغرورق عيناه بالدّمع, يزدحم , يتلاطم , ثمّ يذوب في قطرة أو قطرتين سرعان ما تنزلق على ساحل خدّه فتتلقّفها أنمله بالمسح . ويتدارك لسانه حرجَ المشهد فيلهج:
ـ الحمد للّه, الحمد للّه. لولا ثقتي باللّه لكنت هلكت..
يقول بعضهم :
ـ احمد اللّه. غيرك قضى من عمليّة واحدة .
وينظر آخرون إلى بعضهم البعض كالمتهامسين في تغبّن :
ـ تبارك اللّه ستّ عمليّات جراحيّة وفي كلّ مرّة يخرج سالما.فيردّ والدي وقد تفطّن إلى أنّ الكثير منهم يستعجل موته ويندهش لنجاته ويضمر له حسدا ثقيلا :
ـ سأدفنكم جميعا ثمّ بعدئذ أموت على مهل .
ويتحوّل الموقف إلى مزح والجماعة يتضاحكون.. ويتناهى إلى سمع النّسوة القر يبات الحديث فيساهمن بالضّحك .لكنّ أحد الرّجال يسارع فيعيد المشهد إلى سياقه والحديث إلى إطاره فيحرّض النّسوة على الزّغاريد فإذا بهنّ يستجبن . ويندفع إلى حلبة الرّقص الرّاقصون بمجرّد انفجار الشّريط الصّاخب . ويفجّر المراهقون و المراهقات في رقصهنّ كبتهم. ويطير غبار كثير وقد اندس ّفيه ضجيج الفرح وسخرية الحاسدين وبعض أصوات الأ نين الكتيمة, وبعض أنفاس الشّهوات الخرساء التي توشك على الافتضاح متى تحاكّت الأجساد متّخذة هيئات مختلفة تعلن عن صرخات جنسيّة مشلولة ,مثّل الرّقص مناسبة نادرة لتفزيعها وتفريغها في حركات مجنونة تضرب الأرض في عطش وعنف..
وتفد عمّة خلدون تحمل بيدها آلة تصوير . تمرّ بين الجماعات تلتقط من المشاهد ما حلا لها انتقاؤه .وهي تضحك وتقول نكاية في بعض الذّين يشزرونها :
ـ هذه الصّور هي التي تخلّد الحدث في الذّاكرة , حتّى إذا كبر خلدون أحسّ أنّه محفوف بالأحبّة مغمور بالحنوّ مطوّق بالرعاية ... ثمّ تشير إلى والدتي بضرورة إضافة البخور إلى النّار لطرد الشّياطين وإبطال مهارات شرورهم.. ويصعد البخور دخانا .وتلتقط شقيقتي المشاهد من خلل الليل والدّخان والرّقص. وتصنّف المقرّبين وفق عدد صور الفيلم . الوالد و الوالدة وقد توسّطا الضّيوف .الوالد وخلدون والوالدة صورة ثانية.. الوالد وخلدون محمولا بين ذراعيه صورة أخرى.. عمّات خلدون اللّواتي لم يتزوّجن وخلدون مبتسما في خجل, تقبّله إحداهنّ هامسة في أذنيه:
ـ غدا تتحوّل إلى رجل صغير.صورة أخرى.. خلدون ووالده ـ وكنت منتشيا في صمت , مأخوذا بالتماعات آلة التّصوير وهي تتابع ,ترجم الظّلمة في زوايا بعض الأمكنة المقصاة عن النّور.. والليل مليء بالضّوء والشّهوة والتّشويق . وفي عيون أهلي , خصوصا والدي , بريق أفهمه غالبا, وأحيانا يغمض عليّ وينفلت بالمعنى قصيّا .والفضاء موسيقى إيقاعيّة صاخبة ترضخ لذوق الجمهور فينقاد لها بالرّقص . وآلة التّصوير تشهد التماعاتها خبوا مباغتا فـتعد شقيتي بتعميرها في الغد مجدّدا, كما تعد بجلب كاميرا تصويرترسّخ الصّوت والحركة معا حتّى يكون المشهد أشدّ حرارة إذا عوود ذات مستقبل...
وكان الغدُ غدُ خلدون شبيها له في البهاء والبراءة والرّجولة والابتهاج. ففي وجه خلدون تمتزج براءة طفل برجوليّة كهل ناضج. في عيني خلدون بريق وداعة وطفولة يتداخل مع صرامة وعي . وثمّة في أحداقه كذلك فرح طالع من غدير حزن أنيق الصّمت . وأشياء كثيرة أخرى في هيكله, في هيئته, في جبينه , في صمته , في ضوضائه.. في حاضره الصّغير , في ماضيه القريب , في مستقبله المتوقّع...
يتزيّا خلدون بجبّته فيضيء مع الصّباح. يلبس سرواله القصير المفضفض عند الأفخاذ ,المنحسر عند الرّكبتين فيتحوّل إلى شيخ يسربله الوقار وتفوح رائحة الحكمة من هالته .. يضع عل عنقه ربطته الصغّيرة فراشيّة الشّكل فيحلّق في عيوننا نقيّا غضّا..
يتقدّم الوالد الموكب الصّغير ويعدّل شاشيّة خلدون على رأسه . تقول له زوجته بعد أن تصلّي على النّبيّ:
ـ لقد كانت أجمل .أنت لا تعرف التّعديل ولا التجميل.
ينهرها الوالد بصمت وفي غير اكتراث, ثم يستأنف نشوة خالصة وهو يأمر الموكب بالتريّث . ويتغيّب والدي للحظات فتقول الوالدة وبعض المرافقين وقد استبطؤوه:
ـ كان عليه أن يؤجّل ما سيفعله إلى ما بعد العودة من الطّبيب .
ـ صحيح, سنتأخّر في الوصول . وربّما وجدنا العيادة مكتظّة , وسيتأخّر الختان.
قلت :
لا أحد يعارض والدي أو يقف ضدّ رغبته خصوصا في هذه الأثناء. فلا أحد يستطيع أن يفهمه ولا أن يقدّر مدى جذله وانتعاشه في لحظات كهذه..
ولم تكد تمرّ على الموكب الصّغير هنيهات قلائل حتّى لمحنا شقيقتي تحمل كاميرا تصوير صغيرة وسمعناها تحثّ الوالد على الإسراع . فإذا به يخرج من غرفة كالاسطبل فسيحة ويمسك بيده لجام حصان صغير يحاول قوده... يتلكّأ المهر في المشي . فيتراجع أبي , وقد أرخى العنان , ثمّ يلكز المهر من أعلى قوائمه الخلفيّة حتّى يذعر . ولكنّه يعود بملامسات من يد الوالد إلى التّؤدة . ثمّ ينسجم عنده الخبب الخفيفُ .
كان ذلك على مرأى من عدسة كاميرا شقيقتي , وعلى مرأى من الموكب الذي أخذ يملّ إبطاء التنفيذ وينبهر بالمهر في آن..
وتقدّم والدي بالمهر حيث أدرك ما يشبه الدّائرة التي تحفّ بحفيده خلدون . وتقدّمت شقيقتي لتتموضع في مكان يسمح بالتقاط الصّور من زاوية استراتيجيّة . وهلّل البعض وفاحت رائحة الزّغاريد . وتوقّف المهر للامتطاء. كان رأسه مرفوعا في التواءة كبرياء وزهو .وتطايرت من حول عنقه خصلات طريّة لامعة زكّت غروره وميّزت ألق الشّموخ في وقفته .وبدا لونه الرّمادي ّمشوبا بلطخة من بياض ينصع عند الظهر ولكنّه , وهو يذوب في أطرافه وأعالي قوائمه إلى حدود الرّكب , وعند ظاهر الصدر , يتحوّل إلى أبيض رصاصيّ. وكانّ اللّون لون فضاء غائم موح بالأضداد وهي تلوح معا ..أمّا الحركة فهي بين الاطمئنان والتّوتّر, بين الرّضوخ الذي يضمر جفلة , وبين الجموح الذي يضمر الوداعة ختلا ومراوغة .. وفيما النّاس مغمورون بالصّدفة والمفاجاة بالجمال يطلق الوالد صوته جهوريّا مليئا بالانتصار وبالدّليل على الحضور الجليّ:
ـ خلدون, هذه هديّة جدّك سيكون موكبك على هذا المهر . الآن أحوّلك إلى فارس, إلى بطل كما أتصوّر سأراك رؤيتي الخاصـة . سأجعل الحلم محسوسا . اصعد إلى ظهر الحصان . .. وأنت ...