أخيرا وصلتْ سيارة "البيكوب" إلى آخر منعرج من المنعرجات المسكوكة مثل أسورة هندية حول الجبل الشامخ..وتنفس إبراهيم الصعداء وهو يلتفت إلى زوجته زينة التي تجلس إلى يمينه كالصنم..بدا له وجهها ممتقعا وقد اختفت عن وجنتيها تلك الحمرة التي كانت تلازمهما ليلا ونهارا..ولكن جمالها البدوي الساحر لم يتأثر بهذه الساعات الأربع المتواصلة في رحلة جهنمية مرهقة..أدرك أن سفرها الأول هذا سيكون صعبا ومريرا بالنسبة إليها هي التي لم تغادر قمة الجبل منذ نعومة أظفارها..واستغرب كيف استطاعت أن تغالب الدوار الذي لا بد أن يصاب به كل من ركب مع دّاعلي سيارته "البيكوب" المهترئة والتي يستغرب الجميع من أين لها هذه القدرة العجيبة على تسلق الجبال والنزول منها يوميا دون أن تصاب بعطب..
التفت نحو دّاعلي القابع إلى يساره فإذا هو قد سوّى من جلسته بعد أن كان طوال المنعرجات اللامنتهية يمسك المقود بيديه المعروقتين وقد انحنى نحوه قليلا كأنه يتأهب لأي طارئ قد ينبثق فجأة خلف كل منعرج..رآه يتكئ إلى الخلف بظهره المقوس بعد أن أمسك المقود بيد واحدة ، ثم رفع قدمه اليسرى فوق لوحة القيادة ، وبدا كأنه متكئ فوق حصير..
- هل أنتِ بخير؟ سنصل قريبا .. وها أنتِ سترين المدينة التي طالما حلمتِ بزيارتها..وستتيهين على نساء القرية بما ستشاهدينه فيها من أشياء وأناس يختلفون تماما عن أناس القرية..سترين..
وعندما رأى دّاعلي يُنزل قدمه اليسرى ويعيدها إلى مكانها أدرك أن مدخل المدينة قريب وأن حاجز الشرطة على مرمى حجر..ثم رآه يُخرج من جيب سترته الورقة النقدية التي لا بد أن يستعملها في هذا الحاجز مثل المفتاح الضروري للدخول من الباب..وهمس بكل ذلك في أذن زوجته التي يبدو أنها لم تدرك منه شيئا..وما أن بدأت المعالم الأولى للمدينة تظهر حتى أخذت زينة تستنفر كل حواسها استعدادا لالتقاط كل شيء جديد في هذا العالم الذي انتظرت الوصول إليه طويلا..وعندما توقفت السيارة عند مشارف المدينة لفظت ركابها وأمتعتهم المتنوعة فمضوا مندفعين نحو الداخل مثل جيوش غازية..أمسك إبراهيم بيد زينة بعد أن انتظر لحظة حتى سوّت جلبابها الأحمر القاني ومنديلها الأخضر الذي استعارته من ابنة خالتها وأحكمت شد الحذاء الأسود الذي ترتديه لأول مرة مع جوارب صفراء فاقعة..ووجدت صعوبة كبيرة في المشي لأنها لم تألف سوى تلك الأحذية البلاستيكية التي تلتصق بالأقدام كالعلك..قال إبراهيم:
- نحن الآن في المدينة..إنها عالم غريب عنا..الناس هنا غير الناس في قريتنا..كل شيء لديهم هنا مختلف..انظري إلى تلك المرأة..إنها شبه عارية..ولا تجد حرجا في ذلك..الفساد هنا يا زينة منتشر بشكل رهيب..والرجال هنا يتحرشون بالنساء والفتيات على مرأى ومسمع من الجميع..انظري إلى ذلك الرجل كيف يلاحق تلك الفتاة بكل وقاحة ولا أحد يوقفه عند حده أو ينهاه عن منكره..
ثم أضاف هامسا فيما يشبه التحذير:
- لذلك أنصحك: أمسكي بيدي جيدا..وإياك أن تكوني مثل نساء المدينة..إذا أحسست بشيء يتغير فيك أخبريني فورا..
شدت زينة على يده بقوة إيذانا بأنها استوعبت المطلوب منها..أثارها ذلك المشهد الغريب الذي ذكرها بفعل التيس حين يغازل عنزاته بإصرار وعناد ، فبقيت تتابع أطواره كالمشدوهة..وعندما أحست بيد إبراهيم تجرها بلطف راعها الممر الفسيح الذي يسير فيه الناس مختلطين جيئة وذهابا..وقد اصطفت على جنباته دكاكين منسقة ونظيفة..وسيارات تمر بتتابع ونظام..ومباني كبيرة طليت كلها بلون واحد..ورجال ونساء بملابس أنيقة وجذابة ذات ألوان متناسقة..وبدأت لأول مرة تحملق في هذه الوجوه كأنها تستكشف سر اختلافها عن الوجوه التي خلفتها في القرية والتي تعلو معظمَها سمرة هي من مخلفات أشعة الشمس الحارقة..وجوه نحَتَ الزمن وقساوة الطبيعة على صفحاتها تجاعيد عميقة كأنها الأخاديد التي تتركها السيول على وجه الأرض..رأت لأول مرة وجوها صافية ومشرقة تنضح بالبشر والراحة..ومضت تتأمل هذه القسمات التي بدت لها مرسومة بإتقان فاكتست مسحة من الملاحة والجمال..لم تكن تميز في تأملاتها بين الرجال والنساء..بدا لها الجميع على قدر من الوسامة والحسن..وأحست في داخلها باضطراب غريب وهي تتفرس في الوجوه كمن يبحث فيها عن سر دفين..وانتبهت إلى أن شخصا على مقربة منها ينظر إليها بشراهة وتكاد عيناه تقفزان من محجريهما..ظلت هي كذلك تنظر إليه بفضول..رأت معالم ابتسامة ترتسم على شفتيه..ثم تراءت لها إحدى عينيه ترف في حركة ماجنة..أحست بشيء غريب يسري في جسدها ويدغدغ حواسها..غشاها شيء غامض هو بين الرغبة والرهبة..بين التمتع والتمنع..بين الاشتهاء والانتشاء..شيء لم تحسه من قبل إلا في حضرة إبراهيم..تسارعت أنفاسها..وتلاحقت ضربات قلبها..واضطرب خطوها..وكادت تتعثر وهي تتابع حركات الرجل الغريبة وتحديقه المتواصل في عينيها وإصراره على إثارتها..وعندما أقالها إبراهيم من عثرتها سمعها تتمتم:
- إبراهيم...إبراهيم...
- نعم..ما بك؟ كدتِ تسقطين..
- أحِس بشيء غريب ينتابني..أعتقد أنني بدأت أتغير..يبدو أنني أصبحتُ مثل نساء المدينة..
وما أن سمع إبراهيم جملتها الأخيرة حتى استدار على عقبيه على عجل ، وجرها بعنف من يدها ومضى يعدو بها في اتجاه سيارة دّاعلي التي ما تزال رابضة في مكانها تنتظر عودة القرويين من غزواتهم في المدينة..
المصطفى السهلي - سلا الجديدة - المغرب.