بادئ ذي بدء، يتعين علينا بداية أن نعلم أن قضية الشغل من القضايا التي يواجه فيها الحيوان الناطق على مستوى وجوده في هذا العالم المادي قلقا مستمرا، فهذا القلق هو ما يجعل الإنسان في صراع دائم مع ذاته، ومع وغيره حول كل ما توفره الطبيعة من حوله من ثروات طبيعية بغية استغلالها لصالحه من أجل البقاء، فهو يشقى من أجل الاستمرارية ليس إلا! إن بين الإنسان والشغل علاقة جدلية تربط بينهما منذ اللحظة الأولى التي وعى الإنسان بها شغله، الذي يبذل فيه جهدا سواء كان جسميا أو فكريا، مقاوما بذلك كل ما هو خارج ذاته في هذا العالم بغية تجاوز قلقه. إن هذه القضية القاسية وهي- الشغل- وعلى حد تعبير الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) "ستجعل الإنسان يتحمل الشعور بالتعب الذي يكره، كما سوف تجعله يمارس التألق الكاذب الذي يحتقره، وستنسيه حتى قضية موته التي ترعبه"[i] .
إن أنطولوجيا الشغل بالنسبة للإنسان تجعله في قلق دائم وهو ما يجعله في بحث مستمر عما يبقي عليه حيا منذ الوهلة الأولى التي قذف به إلى هذا العالم، وكأنه خلق ليشتغل فقط ! ولعل قلقه هذا، هو ما يثير مجموعة من الإشكالات التأملية-الفلسفية في الموضوع، سواء على مستوى أنطولوجيا الشغل قديما - أو على مستوى قضية الشغل راهنا، فهذا الراهن الذي تعرف فيه قضية الشغل تغيرات جديدة على مستويات عدة تمس مجمل مناحي حياة الأفراد اليومية، هو ما جعلنا نحاول إعادة أشكلة مفهوم الشغل وتحليله وتفسيره من منطلق إشكالات الراهن وذلك عبر- مقاربات جدلية متعددة في الموضوع - فلسفية، اقتصادية، اجتماعية... انطلاقا من النظر في قضية الشغل من خلال إشكالات ذات طبيعة فلسفية وجودية، بالإضافة كذلك إلى تداخل الإشكالات الأخرى، السوسيولوجية، الاقتصادية، الاجتماعية، السيكولوجية، السياسية، والثقافية ... في موضوع الشغل، وذلك على أساس أنه ظاهرة إنسانية، اجتماعية.
عندما ننظر في موضوع الشغل من الناحية الفلسفية، فنجده يعتبر من المواضيع التي لم تفكر فيه الفلسفات السابقة بشكل أوفر ولم تعطى له أهمية كبيرة في ذلك، خاصة عند فلسفات ما قبل عصر الأنوار - الفلسفة اليونانية القديمة - كانت تتحدث في الموضوع بصفة عامة، وذلك باعتبار الشغل يمثل الحيوانية في الإنسان لأنه يقوم على المجهود الجسدي وبالتالي فهو يحتل مراتب دنيا في الواقع الاجتماعي، وهذا ما نجد كل من (أفلاطون) و(أرسطو) يتفقان عليه، كما يذهبا به إلى حد التحقير -الشغل- على أساس أنه ينعكس بالسلب على ماهية الإنسان لأنه يمثل الجانب الحيواني فيه، وهكذا دواليك، مرورا بفلسفة العصور الوسطى، -الفلسفة الحديثة -وصولا إلى عصر الأنوار، مع بروز هذا العصر الذي سيتناول فيه فلسفة الشغل كقضية إنسانية ق 18 - ومع انطلاق الثورة الصناعية ق 19 - وكما هو معلوم فعصر الأنوار أو قرن الأنوار كما يطلق عليه، عرف الفكر فيه تطورا لا على مستوى الفكر الفلسفي، السياسي، أو الاجتماعي، إذ ظهرت بالأخص حركة فلسفية جديدة قادها مفكرون وفلاسفة اتخذت من الإنسان وواقعه وحقوقه موضوعا لهم، ومن هذا المنطلق الجديد لعصر الأنوار الذي اعتمد فيه العقل معيارا لكل شيء. بدأ التفكير بعقل تنويري في كل ما يتعلق بالإنسان وقضاياه الإنسانية، ومن هاهنا اعتبر موضوع الشغل قضية إنسانية واقعية واجبة التفكير في عمقها مادامت جزءا لا يتجزأ في حياة الإنسان، وهذا الأمر هو ما نتج عنه طرح إشكالات جديدة في الموضوع انطلاقا من أسئلة ذات طابع فلسفي - وجودي، ومن قبيل أهم هذه الإشكالات ما يلي - ما الشغل ؟ هل للشغل قيمة ؟ ما علاقة الإنسان بالطبيعة من خلال الشغل ؟ على أي أساس يتأسس الشغل ؟ هل الشغل ضروري للإنسان ؟ كيف يؤثر عليه ؟ أين تتجلى قيمة و تأثير الشغل على مستوى البنية النفسية، الاجتماعية، الاقتصادية للإنسان ؟ ما علاقة الشغل بالسياسة ؟ هل الشغل يحرر الإنسان أو يستلبه ؟ هل يمكن القول أن الإنسان يحقق ذاته في شغله أم العكس ؟
هي إشكالات عديدة تطرح نفسها في الموضوع ولعلها كذلك إشكالات كلاسيكية- جديدة تواكب الراهن وتساؤلاته على البحث عن أجوبة شافية، وهي إشكالات كما أشرنا الذكر سابقا قد سبق لها أن طرحت في قرن الأنوار مع مفكري وفلاسفة الأنوار (- فولتير -ديدرو- شافتسبى، هاتشيون، آدم سميت، كانط ..) وفي الفترة الحديثة مع كل من (هيجل) على وجه التحديد والفلسفات المعاصرة، (كارل ماركس) و(انجلز) إلى فلسفات ما بعد الحداثة، (ميشيل فوكو) .. وهي تشق طريقها إلى يومنا هذا، وما تزال الأسئلة ذاتها تطرح نفسها بإلحاح شديد، ومن هذا المنطلق الإشكالي رأينا، أنه وجب علينا نحن البشر أن نعيد دائما طرح بعض الإشكالات التي تقلقنا والتي لم يتجاوزها واقعنا بعد ؟ وبهذا يمكننا إعادة صياغة بعض هذه الإشكالات الأنطولوجية بما يواكب قلقنا اليومي في هذا الاتجاه ونقول، لماذا نعمل أو لا نعمل ؟ إن كنا نشتغل، فمن المسؤول عن شغلنا ؟ وإن كان العكس، فمن المسؤول عن عدم شغلنا ؟ ماذا نشتغل ؟ وكيف نشتغل ؟ و نحن نشتغل هل نشعر فعلا أننا نشتغل ؟ و لصالح من نشتغل ؟.هل لصالح أنفسنا أم لصالح ذلك الآخر ؟ ماذا يستفيد الإنسان من الشغل ؟ ما الدافع إلى الشغل ؟ وهل ما يزال دافع الاستمرارية هو الدافع للشغل؟
إن الشغل كقلق يومي مستمر يواجهه الإنسان يتحدد وبالعودة إلى المعجم الفلسفي، يتحدد من خلال ثلاث مجالات محورية، - السيكولوجي،الأخلاقي، الاقتصادي- إذ، "أن مفهوم العمل أو الشغل على مستوى المعجم الفلسفي - فهو يعني من الناحية السيكولوجية نشاط تلقائي أو مكتسب، ذهني أو جسمي ويطلق على ما يحدثه الفاعل نفسه دون تأثير خارجي أو على ما يحدثه هو في غيره. أما على المستوى الأخلاقي فهو ما يهدف إلى غاية ويصدر عن إرادة، ويخضع لحكم أخلاقي. وما تحدثة الطبيعة يسمى أفعالا. كفعل الحرارة أو فعل البرودة ولا يسمى أعمالا بحال. وأما على المستوى الاقتصادي فهو كل مجهود يبذله الإنسان لتحصيل منفعة، ومنه الأعمال الهندسية والأعمال الصناعية."[ii] إن هذا التعريف الاصطلاحي لمفهوم العمل أو الشغل يضعنا أمام مفهوم مركب ومعقد، بل ومتعدد الدلالات إذ نجده في حقول متعددة كالحقل - الاقتصادي، السيكولوجي، الأخلاقي، الاجتماعي، السياسي، الفلسفي ... وهذا ما يجعله متعدد ومتنوع الإشكالات، إذ يبقى مفهوم - الشغل - موضوعا مفتوحا للدراسة أمام مجموعة من الحقول الابستمولوجية المتعددة . إننا نشاهد كيف يتجسد هذا المفهوم على مستوى أنطولوجيا الراهن، حيث يتمظهر على أرض الواقع من خلال الاستيلاب والقهر الذي يلاحق الإنسان المعاصر، إذ كتب على الإنسان في زمن التكنولوجيا أن يشيء ويفقد المعنى أكثر من أي وقت مضى، مما يجله ينعكس بالسلب على مستوى ماهيته ووجوده، وهذا يرجع إلى تغلغل وتفحش النظام الرأسمالي في المجتمعات. حيث صار مفهوم الشغل لا يفهم إلا من داخل منطق الأداة- التقنية، السالبة المشيئة لكل شيء. وهذا ما نرى له أثرا واضحا من الناحية الأخلاقية، إذ قد نجد أن عملا ما على سبيل الذكر قد يحمل هدفا معينا، لكنه لا يصدر عن إرادة. وهو ما يخالف الدلالة الأخلاقية التي يكون فيها العمل صادرا عن إرادة معينة. وبالتالي فغاية المجتمع الصناعي المعاصر حسب ما يؤكده الفيلسوف الألماني (هاربارت ماركيوز) في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) تتحدد في "أن غاية العقلانية التكنولوجية هدف يسع المجتمع الصناعي المتقدم أن يحققه. بيد أن الميل المعاكس هو البارز الآن - فالجهاز الإنتاجي يثقل بوطأة متطلباته الاقتصادية وسياسته الدفاعية، والتوسعية على زمن العمل وعلى الوقت الحر في ميدان الثقافة المادية والفكرية. إن المجتمع الصناعي المعاصر يميل، بحكم طريقة تنظيمية لقاعدته التكنولوجية، إلى النزعة الاستبدادية الكلية."[iii]
إن هذه الثورة التقنية - الإيديولوجية، على مستوى الراهن قد عملت على طمس فكرة الشغل كحق إنساني- طبيعي، حيث عملت على تحويل الإنسان إلى مجرد آلة يعمل وفق المنطق الأداتي فحسب، إذ فرضت على العامل التنازل على مقومات كرامته، وإخضاعها لقانون السوق، والقبول بالفتات جراء التهميش الاجتماعي الذي يفرضه السوق الرأسمالي، وبالتالي هذا ما ينتج عنه استيلاب الإنسان لذاته وإنسيته، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى عدم وعي الإنسان لوجوده. في حين يلاحظ كذلك أن الشغل في سياقه السياسي الذي هو جامع مانع بلغة المناطقة لعدة حقول معرفية، يتخذ فيه الشغل طابعا أيديولوجيا، بحيث نجد أن السلطة السياسية اليوم كما يشير في ذلك (ماركيوز) في نفس كتابه السابق الذكر "أن للسلطة السياسية اليوم مطلق السلطة على الصيرورة الميكانيكية وعلى التنظيم التقني للجهاز فحكومات المجتمعات الصناعية المتقدمة والمجتمعات التي في سبيلها إلى أن تصبح كذلك تحافظ على بقائها وتحمي وجودها شريطة أن تعبئ وتنظم وتستغل الإنتاجية التقنية والعلمية والميكانيكية لمجتمع صناعي."[iv]
إن هذا التحكم السياسي في العمل، يعمل على إفقار واستغلال العامل من جهات متعددة، فهو ينتج نوعا جديدا من العمل المتحكم فيه حسب ما تقضيه المصلحة وفي ذلك البطالة - مقنعة، التي ما هي في العمق إلا مجال متحكم فيه وفق الحاجة فقط. وهذا ما يجعل الإنسان في صراخ دائم يبحث فيه عن الشغل، ما سيجعله على قيد العيش، ولو كان ذلك على حساب ماهيته وإنسانيته، إذ هاهنا لم تعد طبيعة العمل وشروطه تحترم إنسانية الإنسان وكرامته كإنسان من حقه أن يعمل في ظروف جيدة ومقبولة. إن نتيجة هذا النوع من الأشغال المتحكم فيه وفق المنطق المادي، لا ينتج عنه حسب لغة الماركسية، ما يسميه (كارل ماركس) بالاغتراب الاقتصادي الذي يتحول الإنسان بصدده إلى شيء، إذ يتحول العامل إلى آلة، وهذا الاغتراب الاقتصادي حسب ماركس يقسم الإنسان إلى أربع أنواع – أولا: الاغتراب على منتج العمل، حيث قد نجد عاملا على سبيل المثال يشتغل في مصنع للسيارات وهو لا يمتلك سيارة ؟ ثم يليه بعد ذلك الاغتراب عن العمل، وهذا النوع ينطبق عن هؤلاء الأشخاص الذين يشتغلون في مجال غير مجالهم، أستاذ مادة الفلسفة مثلا يدرس مادة التربية الإسلامية ... ثالثا، نجد كذلك ما يسميه كارل ماركس بالاغتراب عن الجنس البشري، وهذا نلمسه من داخل المجتمعات الإنسانية، وفي ذلك المتسولين، أوضاع عمال النظافة ... حيث يتجسد ذلك الاغتراب من خلال البؤس والفقر الذي يعيشونه، وأخيرا الاغتراب عن الآخرين، وهذا يتعلق بسوء النية تجاه الآخر واتخاذ كامل الحيطة والحذر منه. وهذا مرده إلى التعامل الذي ينبني على أساس المصلحة وسيطرة القيم الرأسمالية التي تعمل على أساس المبدأ الميكيافلي. الغاية تسوغ الوسيلة. وبالتالي ففلسفة الشغل على مستوى الراهن التقني تسير وفق المنطق المصلحي الربحي ولو على حساب الطبيعة والإنسان ذاته، ضاربة عرض الحائط إنسية الإنسان وكرامته، مجردة بذلك مفهوم الشغل من مدلولاته، الأخلاقية-الإنسانية المتعددة، مما ينعكس بالسلب على مجمل مناحي حياة الإنسان اليومية، الاقتصادية، الاجتماعية، النفسية، السياسية، الثقافية ... وليبقى الشغل في الأخير من كل هذا، بالنسبة للإنسان بكل آماله وآلامه صراعا مع الذات والطبيعة من أجل البقاء !
[i] [i] "الفكر الإسلامي والفلسفة،" للسنة الثالثة الثانوية (الشعبة العلمية)، دار النشر للمعرفة للنشر والتوزيع، مطبعة المعارف الجديدة،طبعة 1993م -1414 هـ، ص137
[ii] مذكور إبراهيم، "المعجم الفلسفي"، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، ط،1403هـ -1983م القاهرة، ص128
[iii] ماركيوز هاربارت، "الإنسان ذو البعد الواحد"، ترجمة، جورج طرابشي، منشورات دار الآداب بيروت، ط، الثالثة 1988، ص 39
[iv] ماركيوز هاربارت، المرجع نفسه، ص 39