إن السؤال حول ماهية الفعل أي فعل بشري ينبغي أن يطال كل ما نقوم به من أفعال، وهو فرصة لمراجعة وتقييم الذات سلوكاتها وأفكارها ومساءلة مدى فاعليتها في كل لحظة من لحظاتها ،وبالتالي أن نوازي بشكل دائم بين ما نقوم به ونفكر فيه وبين مدى فاعليته ونجاعته بالنسبة لنا ،هل فعلا يجلب إلينا المتعة أم لا ؟وهل ينبغي أن نستمر فيه ؟ فمثلا نجد من يشتغلون بالفلسفة، فمع أنهم يشتغلون داخل الحقل الفلسفي وينتجون معرفة فلسفية معينة، فهم بالضرورة يهتمون بسؤال الفلسفة وبحاجة الناس إليها،بل يسائلون بشكل نقدي صريح دور الفلسفة وماهيته ،ولماذا ينبغي أن أن تستمر الفلسفة ؟ ونفس المنطق ينطبق على الأنساق المعرفية التي تنشغل بهموم معرفية ما ،وهو نفسه ما ينطبق على الممارسات والأفعال الإنسانية وحتى إن كانت أفعال بيولوجية طبيعية محضة.
فمثلا ممارسة الجنس هي ممارسة وحاجة بيولوجية للإنسان يسعى من خلالها إلى بلوغ اللذة والمتعة، لكن ذلك لا يعفيها من السؤال والمقاربة بالإضافة إلى أن أننا نحاول أن نضفي عليها الطابع العقلاني والأخلاقي ،مثلا تحرير الممارسة الجنسية من شكلها البدائي (زواج الأقارب والجنس المفتوح على التعدد بين الذكور والإناث)إلىى مؤسسة مدنية مؤطرة بقوانين معينة في إطار مؤسسة الزواج ، بعد أن تم التفكير في ماهية الجنس وفي الوظيفة التي ينبغي أن يقوم بها حسب ما يسمح به السياق الإجتماعي السائد ، بعد أن عرضنا لمثالين المثال الأول هو الفلسفة وهي ممارسة دهنية يكتسبها الإنسان وطريقة في التفكير والتأمل، والمثال التاني هو الجنس هو طبعا فعل وحاجة بيولوجية للإنسان ،والمثالان طبعا متناقضان من حيث الأول فعل ثقافي مكتسب والتاني فعل بيولوجي محض ،لكن سؤال الماهية والوظيفة والمتعة ضرورة في الجنس كما هو ضرورة في الفلسفة ، فلماذا نمارس الجنس ؟ ولماذا نتفلسف؟ ولماذا نقرأ ؟ كل هذه الأسئلة تذهب بنا إلى قلب المواضيع (الفلسفة /الجنس/القراءة ) وتطرح عليها سؤال الجدوى والغاية و تضعها أمام مهمة تحديد مصيرها.
أعتقد من وجهة من وجهة نظري الخاصة أن التصور الجديد للفلسفة ولمهمتها، وانطلاقا مثلا مما فهمته من أفكار الفيلسوف الفرنسي لوك فيري في كتابه الرائع "أجمل قصة في تاريخ الفلسفة " أن غاية الفلسفة لم تعد تعني بالوظيفة النقدية الكلاسيكية، بقدر ما أصبحت مهمتها هي بلوغ الحياة الطيبة والسعي إلى التأسيس لروحانية لائكية ،وكيفية مواجهة الخوف من الموت باعتباره وضعا تراجيديا للإنسان، بمعنى أن ماهية الفلسفة ذات طابع جمالي يعنى بأسلوب الحياة وفن العيش، أن تحب الحياة وتستمتع بها، أي أن محبة الحياة كموضوع وانشغال الفلسفة ،ونفس الأمر ينطبق على حاجة القراءة كذلك، فبالإضافة إلى كونها حاجة من أجل المعرفة والإستفادة وتطوير الجانب المعرفي لدى الإنسان ،فهي أيضا تمنح المتعة والحياة للإنسان وتنقذه من معضلة الضجر والملل والرتابة, أي أن السعي إلى المتعة يظل في صميم فعل التفلسف والقراءة ويكون في قلب الفعل البشري.
القراءة كمتعة وفن للوجود
إنطلاقا مما كتبناه حول أهمية الفلسفة كحاجة روحانية ومتعوية للإنسان لتحقيق حياة طيبة وبلوغ الخلاص في الحياة ، يمكن أن نقول نفس الشيء عن القراءة التي تبقى في الأصل ممارسة وأداة للمعرفة وتطوير قدرات الإنسان اللغوية وتمكنه من فهم العالم والأشياء فهما يتجاوز المعرفة الحسية العادية إلى معرفة ذهنية مجردة، فماهي وظائف القراءة وغاياتها الجمالية ؟
أعتقد أن القراءة كتجربة وجودية فردية في السياق المعاصر لم تعد تكمن في وظيفتها في الإستفادة والمعرفة بقدر ما تجاوزتها إلى تحولها إلى طقس معاصر شبيه يمكن أن يكون بديلا للطقس الديني، أي يمكن أن نضفي عليه الطابع الجمالي والروحاني ، فلم تعد تجربة القراءة لدى الإنسان اليوم تجربة معرفية محضة وخالصة، بقدر ما صارت تدخل فيها رغبات ومشاعر نفسية ،حيث ما عادت رغبة المعرفة وحدها في القراءة كافية، بل يمكن الحديث عن الرغبة في المتعة والإستمتاع باللحظة باعتبارها تدخل كذلك في طقس القراءة، وبالتالي يمكن إعتبار تجربة القراءة بكونها لا تختلف كثيرا باقي التجارب الحميمية للإنسان في الوجود( كالتجربة الجنسية مثلا ) إذ تكون لحظة القراءة عند الإنسان تتصف بنوع من الجمالية التي تسمو بالإنسان إلى بلوغ شكل من المتعة كما وصفها بذلك المفكر الفرنسي رولان بارث" بتحقيق لذة النص ".
إنطلاقا مما سبق يمكن الخروج بخلاصة بسيطة مفادها أننا يمكننا الحديث اليوم عن غايات جديدة للقراءة والفلسفة، ليست بالضرورة غايات معرفية ونقدية كما في السابق، بقدر ماهي غايات جمالية ووجودية للإنسان للاستمتاع بالحاضر والسعي إلى تحقيق المتعة في الحياة. تعلم الفلسفة من أجل متعة الإنسان وخلاصة وكذلك الأمر في تجربة القراءة أي القراءة من أجل المتعة الفردية .