قبل البدء بقراءة مارتن هيدجر لمقولة هيراقليطس، سنعرض وعلى سبيل التقديم لهذا الموضوع، بعض الأمور المهمة والتي ستساعدنا على فهم وإدراك أهمية هيراقليطس في مسار الفلسفة عموما وفي لحظتنا الآنية أو المعاصرة على الخصوص.
تعد هذه المقولة الفلسفية لهيراقليطس ،الأشهر في تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية وقد جرى تداولها واقتباسها وشرحها وتأويلها من قبل كثير من الفلاسفة والمفكرين، وعلى أساس هذه المقولة انقسمت الفلسفة والفلاسفة إلى فريقين، الفريق الأول يتبع مقولة الوحدة والثبات البارمنيدسية (من بارمنيدس)، والفريق الآخر يناصر ويتبع فلسفة الصيرورة والتغيّر التي تولدت من مقولة هيراقليطس –التي نحن بصدد مناقشتها- وفلسفته عموما. وقد عادت هذه الفلسفة إلى الظهور مجددا وبقوة من خلال أعمال فردريك نيتشه لاسيما في كتابه حول (الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي)، ونيتشه وقَبْلَهُ هيغل يُعدّان الأساس الذي اعتمدت عليه التيارات الفلسفية المابعد حداثية، وإن كانت أهمية نيتشه أقوى وأكثر تاثيراً من هيغل، فالعودة إلى نيتشه هي عودة استلهام وأخذ وتأثير وتقليد وهذا ماحدث مع (هيدجر، فوكو،دولوز، دريدا، ليوتار) فهؤلاء (أقتبسوا وشرحوا وأوّلوا) نيتشه، بينما فعلوا على عكس ذلك مع هيغل، إذ أنّ همهم كان الخروج من عباءته، وقلب أفكاره ومعارضتها، وأحيانا إعلان البراءة من الانتماء إليه، ومثال ذلك ما طرحه (دريدا ودولوز) بأنّ (الاختلاف هو الأصل، وأنه أسبق في الوجود من الهوية، إذ أن الاختلاف هو ما يصنع الهوية).
وهذه الفكرة تأتي معارضة لما طرحه هيغل في فلسفته من أن الهوية هي الأصل، والمطابقة والوحدة هي المآل، فالصيرورة تُوظّف لجعل المختلف في الجدلية ينتهي إلى المؤتلف في الوحدة، ومن ثم تتكون الهوية لدى هيغل على الشكل الآتي: (إن العلاقة بين ( أ) و (ب) هي العلاقة نفسها بين (ب) و( أ)، أي أنهما وجهان لعملة واحدة، فيكون (أ)=(أ) ).
نأتي بعد هذه المقدمة إلى بيان رأي هيدجر المخالف في قراءة أو تأويل مقولة هيراقليطس في الوجود: (لا يدخل المرء النهر مرتين) فما المقصود بذلك؟
اتفق أغلب الفلاسفة والمفكرين عبر مختلف العصور، أن المقصود من تلك المقولة الهيراقليطيسية: أن العالم أو الوجود في حالة تغيّر وسيلان وصيرورة وتدفق مستمر، وأن لاشيء يبقى على حالته الأولى أو التي كان عليها، ومن ثم فإن الهوية والثبات ينعدمان، ويصبح الاختلاف وسرعة الزوال والتغيّر الصرف أصل الوجود وحالته الدائمة.
لا يتفق مارتن هيدجر مع هذه القراءة السابقة لفلسفة هيراقليطس أو لمقولته على وجه الخصوص. ويعتبر ما قيل فيها أو تلخيصها في مقولة (التغيّر والسيلان أو الصيرورة) من الآراء العابرة ويرى أنها من باب الشروع والبداية، لا أن تكون المنتهى، فيتوقف عندها وتصبح البديل الكامل لفلسفة هيراقليطس، بل لا تشكل هذه المقولة سوى البداية، والانطلاقة لقراءة وفهم المشروع الفلسفي الكامل لهيراقليطس الذي يتسم بالغموض والنزعة إلى التصوف.
ولقد فهم هيدجر مقولة هيراقليطس على النحو الآتي: إن الموجود يُلقى به إلى الأمام وإلى الخلف، و الإلقاء يشمل الموجود في كليته، وهذه الحركة إلى الأمام وإلى الخلف كما يتبين عند هيدجر، هي حركة من النقيض والمقابل إلى النقيض والمقابل، وكأنها حركة مكانية للموجود، فالتغيّر لا يحدث في جوهر الشيء الواحد، أو أنّه يحافظ على هويته ولكنّ الذي يحدث هو تبادل في المواقع داخل هذا السور أو الحدود، في مكونات الشيء ذاته، فيحل النقيض مكان النقيض، ويحل المتقابل مكان المتقابل، فيبقى النقيض نقيضا، والمتقابل كذلك يحافظ على حالته، وبذلك يدور بين الحالتين صراع وتناقض حركي، فكل شيء لا يبقى في مكانه والموجود في كليته في حركة دائمة إلى الأمام وإلى الخلف، وماء النهر مثلا لا يدوم في ثبات بل يدوم في حركة لا يمكن القول بعدها أن ماء النهر الذي لمسته الآن هو ماء النهر الذي سألمسه بعد ساعة، ولكن يمكن القول أن هوية ماء النهر الذي لمسته الآن هي ذات هوية الماء الذي سألمسه فيما بعد، أي أن كل جزيء من الماء يتكون من (H2O) ذرتي هيدروجين وذرة اوكسجين.
ويمكن الاستدلال بمقولة الفيلسوف اليوناني (بلوتارخس): ((لأن مياهاً جديدة تتدفق فيه)) والتي علّق فيها على مقولة هيراقليطس، يمكن الاستدلال بها على صحة قراءة هيدجر لتلك المقولة، (فالمياه تتدفق) وهذا لا يعني التغيير المستمر وسرعة الزوال، بل يتعلق معنى ذلك بالحركة والحدوث، والتكرار الدائم لذلك. ويجب القول أن ذلك لا ينفي معنى الصراع والتناقض والقلق، وبهذا يكون اللوغوس عند هيراقليطس وبحسب مارتن هيدجر يعني ( الجمع والوحدة) فلا يدع الاشياء في حالة من التشتت والفوضى، بل يعمل على جمع المتناقضات، والوجود هو جمع التعارض والتضارب والصراع، والحفاظ على هذا الأخير (الصراع)، لئلا يكون التجمع بمعنى التراكم والتكدس ولئلا تكون الوحدة في اللوغوس صداقة للسير معا، بل يبقى الصراع داخل هذا الجمع (الوجود).
*ملاحظة: هذا المقال أعتمد في فكرته على ما ورد في كتاب مارتن هيدجر (مدخل إلى الميتافيزيقا)، ترجمة:عماد نبيل (2015). ويتكوّن الكتاب من محاضرة تحمل عنوان الكتاب وهو (مدخل إلى الميتافيزيقا) وقد ألقاها هيدجر في جامعة (فرايبورغ) في الفصل الدراسي الصيفي (1935).