تمهيد:
في آخر كتاب لســـــتيفن هوكينــغ الموسوم ب «التصــميم العظيم «الصادر عام 2012، نجد إشكالية الواقع مطروحة بحدّة[1]، فالسؤال الذي يوجّه ستيفن هوكينغ في جزء مهمّ من هذا الكتاب، هو التالي: مـا هو الواقع؟ وهذا السؤال يحيل إلى إشكالية أعمق و أعمّ تخص "الواقع" بأل التعريف، سواء من حيث ماهيته وطبيعته، وهو جانبٌ متعلّق بالسؤال الماهوي الذي طرحه ستيفن هوكينغ في هذا الكتاب (ماهو الواقع؟)، أو من حيث خصائصه وسماته، أو من حيث معاييره ومقاييسه، وهذا ما نلاحظه جليّا في نظرية المعرفة الحديثة، أو من حيث استراتيجياته وألعابه، وهذا ما تضمه الكتابات الفلسفية المعاصرة بخصوص مفهوم الواقع، خصوصا مع ميشيل فوكو وجاك ديريدا، ومع جان بودريار بدرجة كبيرة، أو من حيث أبعاده وحدوده، وهنا يتداخل ماهو فلسفي محض بماهو علمي خالص.
وفي هذه المقالة، سنركّز على السؤال الماهوي، تبعا للسؤال الذي طرحه ستيفن هوكينغ، إلا أننا سنكتشف شيئا فشيئا مع قراءة الجزء المعني في هذا الكتاب، أن هوكينغ ينفتح في إجابته، على معانٍ ودلالاتٍ أخرى تتفرّع عن سؤال ماهو الواقع؟ تخصّ إشكالا عريضا له تاريخ، وهذا ما يستدعي وضع إسهام ستيفن هوكينغ هذا في سياقه النظري.
السياق النظري[2] لسؤال ستيفن هوكينغ: ماهو الواقع؟
ماهو الواقع؟
لهذا السؤال تاريخ طويل، إذ لازم الإنسان منذ البدء، ولكن بدرجات متفاوتة و تم النظر إليه من زوايا مختلفة، إذ لا شك في أن الخطاب الأسطوري أيضا، حاول قبل التفكيرين الفلسفي و العلمي، أن يفهم الواقع، وأن يفسّره ويوضحه، لكن رغم وحدة الغاية، فالاختلاف بيّن، و ذلك تبعًا لزاوية النظر.
لا مجال إذا لإنكار أهمية لحظة الأسطورة في هذا السياق، باعتبارها حلقة أساسية في سلسلة النظر إلى الواقع، إذ لا يمكن بالبت والمطلق، تجاوز هذه اللحظة في مسار القراءة التاريخية التكوينية لتشكل مفهوم الواقع. صحيح أنه لا يمكن الحديث عن مفهوم للواقع قبل بداية فعل التفلسف، بل قبل العصر الحديث مع هيجل بالتحديد، وطالما أننا نبحث في السياق النظري، أي في الشروط النظرية بالضرورة، فما الداعي إلى استحضار لحظة الأسطورة؟ نعم، قد يكون لهذا القول هنا منزلة محترمة من المعقولية، إلا أن الحديث هنا عن الواقع في الخطاب الأسطوري، ليس إلا بحثا في طفولة مفهوم الواقع، لكن الطفولة هنا ليست بالمعنى المعرفي والأخلاقي، ومن ثم النظر إليها باستهزاء و احتقار، كلاّ، إن القصد من الطفولة هنا، قصدٌ أركيولوجيّ بالمعنى الدقيق للكلمة، أي محاولة لاستكشاف الطبقات الأولى لرؤية الإنسان للواقع، أو لنقل الماضي التاريخي للواقع باعتباره مفهوما[3].
سؤال: ماهو الواقع؟ إذا، سيكون له وضع خاص ومميّز في الفلسفة و العلم، نظرا لكون زاوية النظر قد تغيّرت، إذ حلّ العقل محلّ الأسطورة، والسببية محلّ المخيّلة... لذلك سنجد بأن الواقع لم يعد ينتج إلا داخل الذهن وبأدوات عقلية، لكن رغم ذلك، فقد ضلّت بعض التيارات الفلسفية، ترى بأن الواقع موجود موضوعي، لا يمكن البرهنة عليه ذهنيا، لذلك بقيت ملتصقة بالواقع، وهكذا، تشكّلت معظم التيارات الواقعية، أما الفلاسفة و العلماء الذين آمنوا بأن الواقع، فكرة عقلية قبل كل شيء، فقد أسسوا لأفكارهم بصدد الواقع، في تناقض تام، مع النزعة الواقعية، فنعت بذلك مذهبهم بالمثالي أو المثالية.
هذه إذا، أهم أسباب العودة إلى لحظة الأسطورة في قراءتنا لتاريخ مفهوم الواقع، لكي يكتمل تصورنا عن هذا الإشكال الذي أرّق تفكير الإنسان ولا يزال. إلا أن هذه العودة ليست هي الهدف، في حدّ ذاته، بقدر ماهي ضرورة منهجية و معرفية لإنارة التصور الفلسفي بتعدده و تنوعه بخصوص الواقع.
إذ قام الفكر الفلسفي منذ البداية، كمحاولة نظرية لإقامة هندسة جديدة للعالم من شأنها أن تعيد تنظيمه و ترتيبه وفقا للعقل، بعد أن غالت الأسطورة في التفسيرات الغرائبية و الخيالية.
هكذا انتقلنا مع الخطاب الفلسفي من الكاووس إلى الكوسموس، من العالم الفوضوي السديمي، القائم على الصراعات و التوترات و المأهول بالكائنات الغريبة، إلى العالم المنظم و المرتّب و المتّصف بالجمال.
إلى حدّ أن الفوضى عند الفلاسفة اليونان سيكون لها معنى سلبي، وستتم محاربتها باسم النظام و العقل، بل وباسم الأخلاق أيضا، ففلسفة أفلاطون بأكملها، محاولة للقضاء على الفوضى و نفيها، فنداؤه للفلكيين"أنقذوا الظواهر" ، الذي سيعرف فيما بعد ب"الأمر الأفلاطوني" دعوة صريحة للبحث عن النظام الذي تضمره الفوضى.
الفوضى إذا، ستُرفض بشكل قاطع من قبل أفلاطون وجميع الفلاسفة اليونان الذين أتوا بعده، باستثناء المدرسة الكلبية، بل ستحمل معنى لا أخلاقيا في "الجمهورية"، فالفوضى ضد النظام، لاسيما في معناها السياسي و هي عنده مرادفة للشّر.
هكذا إذا تأسست المعقولية النظرية على البحث على النظام ومواجهة الفوضى. من هنا تغيّرت بشكل جذري تصوّرات الإنسان للعالم و المعرفة وكذلك نظرته للواقع.
ما يهمّنا هنا هو التصوّر الجديد الذي أتت به الفلسفة اليونانية للواقع و علاقته بالواقع كما صوّرته الأسطورة.
غير أن الأسئلة التي طرحتها الفلسفة اليونانية، بخصوص إشكالية الواقع، كانت مرتبطة بالأسئلة الأنطولوجية المهيمنة آنذاك، خاصة سؤال: ما أصل الكون؟ أي طبيعة العالم، لذلك، فإن الواقع نُظر إليه من زاوية كوسمولوجية[4]، فحتى أفلاطون الذي عرف بالطوباوية وبنظرته المقلوبة عن الواقع -حسب الواقعيين-، ظلّ أسير هذه الرؤية الكوسموسية، ولم يتم النظر إلى الواقع أبدا، وهو مفصول بشكل حاسم عن الكوسموس، و
الفرق بين أفلاطون وأرسطو مثلا، هو أن المعلّم الأول وضعه في الأسفل و اعتبره عالما محسوسا وملموسا، أما صاحب "الجمهورية"، فقد وضعه في الأعلى واعتبره عالما مجرّدا، غير محسوس و غير ملموس، يتم إدراكه بالعقل و بالتذكر، عبر الجدل الصاعد الذي يتعالى على المادة صوب الصورة، و ينتقل من المحسوس نحو المجرّد.
وقد استطاع التصور الكلاسيكي المستند إلى نظرية أرسطو في الإبصار، أن يفرض نفسه لمدّة لا تقل عن عشرين قرنا، وفي هذا المستوى ظل الواقع، كلا متكونا من أشياء الموجود الطبيعي.
إذ صمدت هذه النظرة الكوسموسية للواقع، رغم التعديلات التي تمت خصوصا للنسق الأرسطي، سواء مع الفلاسفة اليونان المتأخرين أو الفلاسفة والعلماء المسلمين، خاصة رواد مدرسة مراغة ( الطوسي نموذجا)، إلى جانب ثورة ابن الهيثم في البصريات التي تعتبر بتعبير ذ عبد المجيد باعكريم "أول محاولة لترييض الطبيعة" وهي أيضا أول محاولة لتمييز الشيء عن الموضوع، وهذا التمييز سيلعب دورا أساسيا في تشكل مفهوم الواقع الحديث، إذ لم تعد نظرتنا للشيء مطابقة للشيء في حد ذاته، من هنا بدأت بوادر تشكل مفهوم جديد للواقع، يلغي التطابق والتماهي، ويقعّدُ لواقع مبني ومؤسس تأسيسا ذهنيا رياضيا، غير أن هذا البناء الذهني، رغم تقاربه مع التصور المثالي الأفلاطوني، إلا أن له جدّته و خصوصيته، ومرورا أيضا بالنزعة الاسمية عند الفلاسفة الوسطويين أمثال "أوكام" و "دان سكوت"، إلى أن تصدّع العالم وتفرقع مع كوبرنيك"هدم حدود العالم"، وتم توحيده مع غاليلي.
لقد عمل العصر الحديث على تخليص الواقع مما ليس واقعيا، إذ عمل على طرد الأشباح والأوهام، وعلى استبعاد الخرافة والأساطير، مكوّنا بذلك مفهوما خالصا للواقع.
وهذا العمل انطلق مع كوبرنيك فلكيا ومع ديكارت فلسفيا، فقد استطاع النسق الحديث في وقت ليس بقليل، انطلاقا من ديكارت أن يفرغ المادة من الفكر، ومن ثم تعطيلها. هكذا إذا ستصبح الطبيعة مع "صاحب التأملات" طبيعية، وبذلك انهار المبدأ المنتج لما يمكن تسميته باللاواقع(الخرافة، الشعوذة، التنجيم، الوهم، الأسطورة...)، وهو الخوف من الطبيعة، ومادامت الطبيعة طبيعية فلا داعي للخوف منها.
كما أن تعطيل المادة، وإفراغها من الفكر، نسف أي إمكانية للحديث عن أفعالها، فمادامت عاطلة عن التفكير، فهي إذن ساكنة ومنفعلة وبالتالي فليس لها القدرة على الفعل.
مفهوم الملاحظ، في فلك كوبرنيك، سيسهم بشكل أساسي في تشكل المدلول الحديث للواقع، إذ بيّن أولا: أن ما نلاحظه من مظاهر الفوضى في السماء(من تقهقر و...)، ليس حقيقيا، لأن حركتنا على الأرض هي السّبب، بمعنى أخر، فإن عين الملاحظ هي التي كوّنت ذلك الواقع الفلكي الفوضوي، في حين أن ما يجري في السماء لا علاقة له بتمثّلاتنا عنها.
مع ديكارت سنجد امتدادا لمفهوم الملاحظ هذا، وذالك في مفهومي 'الأنا' و'الذات'،إذ أصبحت الأنا أو الذات المفكّرة والواعية، هي مسكن الحقيقة واليقين، وأصبحت النظرة الواقعية الساذجة تتلاشى بتهميش الحواس التي شكّلت عمودها الفقري، فإذا كان أرسطو في نظريته في الإبصار يرى أن عين الإنسان ترسل نورا باتجاه الشيء المعني، فتنتزع صورة الشيء وتبقي على المادة، ومن ثمة، فالحواس هي بوابتنا عن العالم، والواقع معطى لا ننتجه، بل نتعرف عليه بواسطة الإحساسات.فّإن هذه النظرة الواقعية الساذجة، سَتُنْسَفُ أسسها "البصرية" مع ابن الهيثم، إذ إن هذا الأخير في كتابه الموسوم "بالمناظر" يؤكد على أن كل نقطة في الشيء ترسل أشعةً، وعينُ (الملاحظ) تتلقى الشعاع المتعامد فقط مع العين، وكلما غيّرنا زاوية نظرنا إلا وتغيّرت الرؤية. والثورة الكوبرنيكية وميتافيزيقا ديكارت انطلقتا من هذا الأساس العلمي، لذلك فابن الهيثم أثّر كثيرا في النسق الحديث حسب ذ عبد المجيد باعكريم، إلى حدّ يمكن القول بأنه لو لا ابن الهيثم لما انهار النسق الأرسطي.
هذه هي أهم العناصر التي ساهمت في تكوّن مفهوم الواقع الحديث، وهذا المفهوم رغم كونه يحمل دلالات عامة، تجعلنا نتحدّث عن تصور حديث بأل التعريف، إلا أنه، شهد اختلافات و تعارضات إلى درجة التناقض الجذري في بعض الأحيان، بين تيارات فلسفية أساسية، من قبيل ثنائية العقلانية و التجريبية، إلا أن هذه الثنائية ومثيلاتها بقيت تشتغل من داخل نسق واحد، نسقٌ، تحكمه رؤية نظرية واحدة يوجّهها إشكال واحد، هو ما أصل معارفنا؟، ومستندة إلى ثلاثة أقطاب تتمثّل في (الفلك والفيزياء والميتافيزيقا)، إذ رغم كون العديد من الفلاسفة قد عارضوا ديكارت، إلا أن إسهاماتهم لم تغادر الأرضية التي أقامت عليها الفلسفة الحديثة صرحها النظري، فشكّلت بذلك أرائهم وأفكارهم محاولات لحل إشكالات عالقة من داخل نسق الفلسفة الحديثة.
مثل تصور بركلي(1685-1753) الذي اختزل الوجود في الإدراك، إذ ذهب أبعد من ذلك وقال لا يوجد أي شيء غير العقل وأفكاره. وقد دعّمه المؤلف والمعجمي الإنجليزي د. صامويل جونسون (1709-1784) مؤكدا أن ادعاء بيركلي لا يمكن أبدًا تفنيده، يقال إن جونسون ذهب إلى حجر كبير، وركله بقدمه، وصرح: "أنا أستطيع أن أفند هذا". بالطبع الألم الذي شعر به جونسون في قدمه كان أيضًا عبارة عن فكرة في عقله، وتصرفه هذا وضح وجهة نظر الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776)، الذي كتب أنه بالرغم من أننا لا نملك أي أساس عقلاني لنؤمن بالواقع الموضوعي، فإننا لا نملك أي خيار إلا أن نتصرف كأنه حقيقي.
مع كانط، سيتم التمييز بين النومين والفينومين، أو بين الشيء في ذاته والشيء كما يظهر، أي بين الباطن والظاهر، وسيتم النظر إلى الواقع من منظور حدود التجربة، الواقع عند كانط تبعا لهذه المرتكزات، يتم تمثّله بواسطة الحساسية ولكن بعد أن نظمه الفهم ورتّبه وهيّئه على شكل تصورات عقلية معقولة،مع كانط إذا، سيكتمل التصور الحديث للواقع، وذلك بانسداد إشكالية نظرية المعرفة الحديثة، و سيبدأ تصور جديد في التشكّل مع الفيلسوف الألماني فريديريك هيجل، فمع مفهوم "المطلق" سيتوحّد الموضوع بالذات، و الواقع بالعقل "فكل ماهو واقعي-عند هيجل- فهو معقول، وكل ماهو معقول فهو واقعي"، وهذا ما يدلّ على أن إشكالية فلسفة هيجل لا تنتمي إلى الفلسفة الحديثة، ومن ثمة، فهيجل فيلسوف معاصر، وإشكاليته حسب ذ عبد المجيد باعكريم- معاصرة، والدليل على ذلك، أن الفلاسفة المعاصرين، ينطلقون منه، وأقربهم إلينا جان بودريار، إذ يؤسس لنظريته حول الواقع-المضاعف أو الواقع-الفائق، بناءا على معطيات هيجيلية.
مع القرن التاسع عشر إذا، ستعرف العلوم (الحقّة) أزمات بنيوية همّت أسسها ومبادئها الأساسية، فقد وقعت الرياضيات في أزمة الأسس مع الهندسة اللاأقليدية طبعا، كما وقعت الفيزياء في أزمة اليقين.
بالنسبة للأزمة الأولى التي لحقت الرياضيات فقد بيّنت بالملموس كيف أنّ الواقع الرياضي الذي اعتبرناه النموذج الوحيد لليقين، ماهو في واقع الأمر إلا إمكانية من جملة إمكانيات عدّة، ومن ثمّة انهارت أسطورة الفضاء المتجانس، ولاحت في الأفق، أسئلة ماكرو فيزيائية جديدة زعزعت يقينيات تصورنا الفلسفي التقليدي عن الواقع، الموروث عن الفلسفة الحديثة مثل إمكانية وجود عوالم موازية. أما بخصوص الأزمة الثانية التي لحقت الفيزياء، فقد وضّحت كيف أن الواقع الميكروفيزيائي متردّد واحتمالي، إذ نستنتج انطلاقا من علاقات الارتياب لدى شرودنجر وفيزياء الكوانتوم، أنه بمجرّد تسليط الضوء على الإلكترون بغرض قياس سرعته، إلا وتتغيّر وضعيته وسرعته كذلك، من هنا صعوبة القبض عليه، هذه المعطيات الفيزيائية الدقيقة، أثّرت كثيرا في الخطاب الفلسفي المعاصر، وجعلته ينتج خطابات فلسفية تؤكّد على الطابع اللايقيني والمتردّد للواقع.
بهذا المعنى نفهم، كيف أن الخطاب الفلسفي و الإبستمولوجي المعاصرين، فكّرا في الواقع، من منظور ريبي واحتمالي، بل ونقدي جذري أيضا، إذ نجد هذا الخطاب قد تأسس على مفاهيم من قبيل الواقع المضاعف، الواقع الثاني، الواقع المصطنع، الواقع الفائق، الواقع الجديد...
و مع نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، ستحدث ثورات تكنولوجية وتقنية همّت مجالات تطبيقات العلم، من قبيل (الفيزياء التطبيقية، المعلوميات، الإلكترونيات والميديا...)، هذه الثورات استطاعت في وقت وجيز أن تغيّر طوبولوجيا الإدراك الإنساني، وذلك عبر الصورة التي عوّضت سلطان العقل، وشكّلت لنا بذلك تصورا جديدا للواقع قائم على ميتافيزيقا السطح وفيتيشية الصورة، إلى جانب استبداد السيمولاكر ونهاية أقطاب المعنى و المعايير و المقاييس التي كان يشتغل بها الواقع التقليدي.
في هذا السياق، واستنادا إلى كل هذا السياق النظري، فكّر ستيفن هوكينغ في إشكالية الواقع، إذ من غير المعقول استيعاب معاني و أبعاد سؤال هوكينغ، من غير الوعي بهذا السياق، ورغم أن السؤال المطروح يبدوا بسيطا في تركيبته، بحيث يمكن أن نجد شخصا من القرن الرابع الميلادي قد طرح مثل هذا السؤال، إلا أنه مع ذلك ليس شبيها به، فسؤال هوكينغ خاص ومتميّز، رغم التشابه في اللفظ، لأنه يقف على أرضية صلبة، وينطلق من معطيات نظرية (علمية وفلسفية)، و ليس من فراغ.
وقد يتساءل سائل قائلا: أليس سؤال ستيفن هوكينغ(ماهو الواقع؟) سؤالا علميا محضا، لا علاقة له بهذه الشروط النظرية التي تجمع ماهو علمي بما هو فلسفي؟ والإجابة سنجدها في كتاب"التصميم العظيم" إذ يرى هوكينغ أن هذا السؤال هو من جملة الأسئلة التي حيّرت البشر ولا تزال، أسئلة كانت الإجابات عنها وحتى إلى وقت قريب، مقتصرة على الفلاسفة، ليبين كيف أن العلم أصبح اليوم يملك الإجابات على بعضها، وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على أن العالِم المقْعَد، واعٍ كل الوعي بهذه الشروط وبهذا السياق، وهذا ما دفعه في هذا الكتاب الذي شاركه الفيزيائي ليونارد ملودينو في تأليفه، إلى الـتأريخ للعلوم الفيزيائية، من حيث تطورها، من اللحظة الإغريقية، مرورا بالنظريات الفيزيائية الحديثة، وصولا إلى الفيزياء المعاصرة، إلى جانب تناوله لمسار تطور تاريخ العلوم باختصار، والعناصر التي شكّلت عوائق بالنسبة لهذا المسار.
ورغم أنه يصرّح بأن مهمة الإجابة عن تلك الأسئلة الكبرى، ملقاة الآن على عاتق العلم، وبالخصوص العلوم الفيزيائية، بعد (نهاية الفلسفة)، فهذه الأخيرة حسب هوكينغ قد ماتت، والسبب في رأيه، راجع إلى كون "علم الفلسفة" على حدّ تعبيره "لم يواكب التطورات الحديثة في العلوم، وبالأخص في علم الفيزياء، فأصبح العلماء هم حاملي شعلة الاكتشافات المعرفية"، إلا أن هذا لا ينفي كون هوكينغ يفكّر من داخل براديغمٍ نظري تتداخل فيه الأسئلة والأجوبة الفلسفية والعلمية، بل وانطلاقا من معطيات الكتاب، نجد بأن هوكينغ قد اتخذ موقفا فلسفيا، ينتمي من الناحية النظرية إلى التاريخ الموضوعي لإشكالية الواقع، ويمثل امتدادا له، ورغم كل هذا فهوكينغ لم يصل بصدد سؤال:(ماهو الواقع؟)، إلى إجابة شافية ومانعة، بقدر ما استطاع أن يعمّق السؤال، مناقشا النزعات الواقعية واللاواقعية.
بعد هذا، يمكننا فعلا، أن نعرض لتصور ستيفن هوكينغ بخصوص الواقع، وهنا فقط، يمكننا أن نفهم مدلول سؤال صاحب نظرية الأوتار الفائقة السالف الذكر و أبعاده العلمية والفلسفية أيضا.
الواقع من وجهة نظر ستيفن هوكينغ:
1 ـ هل نملك تصورا حقيقيا ويقينيا عن الواقع؟
انطلق ستيفن هوكينغ في عرضه لموقفه من الواقع مجيبا عن سؤال:(ماهو الواقع؟)، من واقعة غريبة نوعا ما، حدثت قبل سنوات قليلة بإيطاليا، تتمثّل في إقدام مجلس مدينة (منزا) "على منع ملاك الحيوانات الأليفة من وضع السمكة الذهبية في أحواض مقوسة"، وقد أكّد راعي القرار إلى أنه "من القسوة وضع السمكة في حوض ذو جوانب مقوسة لأن السمكة سيكون لديها فكرة مشوهة عن الواقع".
ويعلّق ستيفن هوكينغ على هذه الواقعة، معمّقا الإشكال، قائلا:"لكن كيف نعرف –نحن-، أنه لدينا الصورة الحقيقية والغير مشوهة عن الواقع؟ فإذا كان الحوض المقوّس، قد يشوّه صورة الواقع بالنسبة للسمكة الذهبية، فمن يضمن لنا نحن أيضا، أننا نملك تصورا حقيقيا ويقينيا عن الواقع، مادمنا أيضا نسكن كوكبا هو بمثابة حبّة رمل في مجرّتنا، وهذه الأخيرة بمثابة فقاعة صابون صغيرة، ضمن ملايير الفقاعات التي يتشكّل منها الكون، كونٌ، لا ينفكّ يتمدّد و يتّسع باستمرار.
لكن، من يضمن لنا أيضا أننا نعي أبعاد وجودنا في العالم الفيزيائي، "أليس من الممكن أن نكون نحن أيضًا في حوض أسماك كبير، ورؤيتنا مشوهة بواسطة عدسة هائلة؟ صورة السمكة الذهبية عن الواقع مختلفة عن صورتنا، لكن هل نستطيع أن نتأكد أنها أقل واقعية؟".
إذا كان شكل الحوض قد يؤثّر على طبيعة تصور السمكة الذهبية للواقع، أي للعالم المحيط بها، سواء من حيث ماهيته أو من حيث أبعاده، ارتباطا بالمفاهيم المجاورة له، ومن ثمة، من الممكن أن تكوّن السمكة تصورا مشوّها عن الواقع، فإن أبعاد وجودنا في العالم الفيزيائي ستكون هي أيضا متحكّمة بشكل كبير في طبيعة تصورنا للواقع عموما، ومادام أننا لم نستطع بعد أن ندرك بشكل تام ونهائي طبيعة هذه الأبعاد، فإن تصورنا النهائي عن الواقع سيظل مؤجّلا.
صحيح أن رؤية السمكة لن تكون مثل رؤيتنا نحن، غير أنها مع ذلك حسب هوكينغ "ما زالت تستطيع أن تصوغ القوانين العلمية التي تحكم حركة الأشياء التي تلاحظها خارج الحوض الذي توجد فيه، على سبيل المثال، ونتيجة للتشويه، فالشيء الذي يتحرك بحرية والذي نراه نحن يتحرك في خط مستقيم، سوف يلاحظ بواسطة السمكة الذهبية كأنه يتحرك في مسار مقوس"،وهذه نتيجة منطقية، فالسمكة ستدرك كل الأشياء و العناصر التي تتحرك في الخارج، تبعا لطبيعة الفضاء الذي تقيم فيه، وسيكون إدراكها للمسافات والأحجام وكذا الأشكال، مرهون بأبعاد الحوض، فالعالم بالنسبة للسمكة الذهبية، تبعا لشكل الحوض كما أسلفنا الذكر، سيكون مقوّسا.
ولكن هذا الذي يتحرك بحرية خارج الحوض، والذي نراه نحن في خط مستقيم، هل ندركه فعلا كما هو؟ أم أن أبعاد فضائنا هو الذي يحتّم علينا أن نراه على هيئة مستقيمة، في حين أنه في طبيعته الحقيقية قد يكون مقوّسا أو مقعّرا أو محدّبا...الخ؟.
إن السمكة من خلال "إطارها المرجعي" المتمثّل في طبيعة الحوض وأبعاده، الذي نعتبره نحن مشوّها، "تستطيع(...) أن تصوغ قوانين علمية من خلاله (هذه الأخيرة، أي القوانين العلمية) ستكون دائمًا صحيحة وستمكن السمكة من عمل تنبؤات مستقبلية عن حركة الأشياء خارج الحوض".
وحسب نظرتنا لأبعاد الفضاء، الذي تنتمي إليه السمكة الذهبية، فإننا نعتبر بأن "قوانين (هذه) السمكة ستكون أكثر تعقيدًا من القوانين التي نصوغها (نحن) من خلال إطارنا، لكن البساطة هي مجرد مسألة ذوق، فلو قامت السمكة الذهبية بصياغة هذه النظرية، يجب أن نعترف أن تصورها، هو تصور صحيح للواقع".
هوكينغ هنا، يفكّر من داخل الخطاب المواضعاتي، قريبا جدا من إبيستمولوجيا بونكاري، فمادام أن السمكة تفكّر من خلال أطر فضائها، وتبعا لطبيعة وأبعاد الحوض، أي من خلال ما يسميه "الإطار المرجعي"، فلا مجال لتكذيب قوانينها ونسفها من وجهة نظرنا نحن، طالما أننا أيضا محكومين بإطار مرجعي خاص، أي بفضاء معيّن، له طبيعة مميّزة وأبعاد خاصّة، لذلك فتصور السمكة لمحيطها، ولكل ما يجري خارج الحوض صحيح، لكونه منسجم مع ما انطلقت منه وملائم له، ومن ثمّة فتصوّرها للواقع عموما صحيح أيضا.
ويقدّم ستيفن هوكينغ مثالا شهيرا للتصورات المختلفة للواقع، يتمثّل في "النموذج الذي قدمه بطليموس (85-165) حوالي عام 150 بعد الميلاد ليصف حركة الأجرام السماوية. نشر بطليموس عمله في دراسة من ثلاثة عشر كتابًا معروفة عادة باسمها العربي المجسطي".
Description : 4115860027 32d8cc9dd5 b thumb ستيفن هوكينج يسأل: ما هو الواقع؟
هذا النموذج، يضع الأرض في مركز العالم "والكواكب والنجوم تتحرك حولها في مدارات معقدة تستخدم أفلاك التدوير، كعجل يدور على عجل". ويشرح بطليموس "أسباب التفكير في أن الأرض كروية وساكنة وموجودة في مركز الكون، وصغيرة لا تذكر إذا قورنت بالمسافة إلى السماوات"، معتمدا على أمثلة حسّية من قبيل أن الأرض، لو كانت تدور، لتاهت الطيور عن أعشاشها(...).
وتجدر الإشارة، إلى أنه، باستثناء نموذج أرسطرخسaristarque ، لمركزية الشمس، فإن هذه المعتقدات اعتنقت بواسطة معظم الإغريق المتعلمين على الأقل منذ عهد أرسطو، غير أن نموذج أرسطرخس لم يقبل في ذلك الوقت، واعتبر أكثر من ذلك حماقة.
يبدو هذا النموذج واقعيا، إذا فهم الواقع فهما ماديا، ذلك "لأننا لا نشعر بأن الأرض تتحرك تحت أقدامنا (إلا عند الزلازل) والتعليم الأوروبي كان مبنيًا على المصادر الإغريقية التي مررت إليهم، لذلك كانت أفكار أرسطو وبطليموس هي أساس الفكر الغربي، فقد تبنت الكنيسة الكاثوليكية نموذج بطليموس للكون واعتبرته المذهب الرسمي (مانحة له الشرعية) لمدة لا تقل عن أربعة عشر قرنًا".
ولم يظهر أي نموذج بديل، إلا بحلول عام 1543 على يد كوبرنيك في كتابه "دوران الأجرام السماوية"، الذي نُشر فقط في نفس السنة التي توفي فيها، من خلال فرضيته حول دوران الأرض ومركزية الشمس، إذ افترض كوبرنيك لتجاوز الفوضى المسجّلة في السماء، (تقهقر وتحيّر الكواكب...)كما أسلفنا، فكرة دوران الأرض، إذ يكفي حسب كوبرنيك تحريك الأرض لتحلّ جميع المشاكل.
كوبرنيك إذا، "مثل أرسطرخس قبله بحوالي سبعة عشر قرنًا، وصف العالم بحيث تكون الشمس ثابتة والكواكب تتحرك حولها في مدارات دائرية"، وبالرغم من أن فرضية كوبرنيك تشبه كثيرا فكرة أرسطرخس، إلا أن السياق يختلف، فالأولى ستبقى حماقة والثانية ستكون محطّ نقاش، لكون شروطها النظرية قد اكتملت، وحان ميقاتها.
فرضية كوبرنيك سترفض من طرف الكنيسة وسيعتبرها رجال الدين رأيا مخالفا لتعاليم المسيحية، إذ "اعتبر نموذج كوبرنيك متعارضًا مع الكتاب المقدس، الذي قال بدوران الكواكب حول الأرض، رغم أن الكتاب المقدس-حسب هوكينغ-لم يقل هذا صراحةً ". غير أنه في الحقيقة "في الوقت الذي كتب فيه الكتاب المقدس كان الناس يظنون أن الأرض مسطحة".
وسيتابع كل من قال برأي كوبرنيك، وسيحاكم، وهكذا تم حرق العالِم والفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو بتهمة الهرطقة والرّدة عن تعاليم المسيحية عام 1600، وستتم محاكمة غاليلي أيضا عام 1633، بنفس التهمة ، إذ استطاع هذا الأخير بفضل المنظار أو التلسكوب،أن يبيّن بأدلة فيزيائية كيف أن القمر به تضاريس أيضا، وأن نجوما تظهر ثم تختفي مما يعني أن قوانين الأرض هي نفسها قوانين السماء، وهكذا توحّد العالم وانهارت الثنائية القائمة على الفوق والتحت.
وستنتهي محاكمة غاليلي، بإعلانه مذنبا، فوضع تحت الإقامة الجبرية لما تبقى من حياته، وأجبر على التراجع عن أفكاره، ويقال أنّه تمتم قائلا "لكنها ما زالت تدور"،ولم تعترف الكنيسة الكاثوليكية بجرمها في حق العلماء إلا عام 1992 حين اعترفت بأنها كانت مخطئة لإدانتها غاليلي.
بعد هذا يتساءل هوكينغ، "أيهما حقيقي إذا؟ النظام البطليمي أم النظام الكوبرنيكي؟" ويجيب قائلا: " بالرغم من أنه من المألوف أن يقول الناس أن كوبرنيك أثبت أن بطليموس كان خاطئًا، فهذا ليس حقيقي"، كوبرنيك إذا في نظر هوكينغ لم يثبت بأن نموذج بطليموس للكون خاطئ، هذا في نظره شبيه "بحالة تصورنا العادي مقابل تصور السمكة الذهبية، إذ يستطيع المرء أن يستخدم أي التصورين كنموذج للكون، حيث أن ملاحظاتنا للسماوات من الممكن أن تفسر بافتراض أن الأرض أو الشمس في حالة سكون، وذلك بغض النظر عن دورها في الجدالات الفلسفية حول طبيعة كوننا، فالميزة الحقيقية لنظام كوبرنيك ببساطة هي أن معادلات الحركة أبسط بكثير في إطار المرجعية الذي تكون الشمس فيه ساكنة".
هنا إذا، تتضح بجلاء النزعة المواضعاتية عند هوكينغ، فهو لا يقول بصحّة أحدهما وغلط الآخر، بل يبقي على صلاحية كلّ منهما، ويعتبر بأن امتياز النموذج الكوبرنيكي هو في بساطته، عكس النموذج البطليمي الغارق في التعقيد، غير أن البساطة في نظره، ليست سوى مسألة ذوقٍ ليس إلاّ.
إن التساؤل عن أيّ النموذجين هو الحقيقي، يجرّنا إلى إشكال أعقد يكمن في طبيعة تصورنا للحقيقي، هل نعني به الواقعي؟ وهل الواقع دائما حقيقي؟ أم أن مفهوم الواقع اتسعت رقعته لتشمل عناصر اعتبرت إلى وقت ليس ببعيد غير واقعية من قبيل الوهم والخيال... ؟
وهنا يطرح هوكينغ نموذجا آخر للواقع البديل نجده في فيلم ماتريكس The Matrix أو المصفوفة الذي نظّر له الفيلسوف الفرنسي جان بودريار، مفاده أن "البشر يعيشون في واقع خيالي بدون أن يعرفوا ذلك، واقع تمت محاكاته بواسطة كمبيوترات ذكية كي تحافظ عليهم مسالمين وقانعين، بينما تمتص الكمبيوترات طاقتهم البيوكهربائية".
وهذه رؤية مجازية، للنظرية التي عرضها جان بودريار في الكثير من كتبه، والقائمة على كون الواقع غذى مشبعا بنقائضه، إذ اتسعت رقعته ليشمل ما اعتبرناه ليس واقعيا، وهذا ما عرضه في نظريته عن الواقع-الفائق.
وتستند نظرية بودريار عن الواقع الفائق، إلى أساسين: الأول فلسفي صرف، والثاني يتعلّق بنتائج التقدم العلمي خصوصا في مجالات تطبيقات العلم.
بخصوص الأساس الفلسفي، فهو مرتبط بالسيرورة النظرية لتطور إشكالية الواقع، وبالخصوص كل من هيجل ونيتشه، بخصوص هيجل فإن بودريار استطاع أن يستثمر مفهوم الواقع عند هيجل باعتباره مطابقا للمطلق ومتماهٍ معه، ومن ثمّ تصبح جميع الأحلام واليوتوبيات متحقّقة على أرض الواقع، وهذا ما يحيلنا إلى الحديث عن ماوراء النهاية(...) أما بخصوص نيتشه فقد أحدث ثورة كبرى في الفلسفة، إذ بقلبه للأفلاطونية، استطاع أن يوحّد الذهن البشري مثلما وحّد غاليلي العالم، إذ أنهى التراتبية التفاضلية في الذهن بين الحقيقة والخطأ من جهة، وبين الحقيقة والوهم والخيال، وهكذا فإذا كنّا قد نظرنا منذ غاليلي إلى العالم كوحدة، فمنذ نيتشه بدأت بوادر النظر إلى الذهن البشري كوحدة كذلك.
مع نيتشه إذا، تضخّم مفهوم الحقيقة ليشمل الوهم والخيال وكذا الاستعارات...،نفس الشيء بالنسبة للواقع، فقد اتسع مجاله ليشمل هذه العناصر، بل إنه أكثر من ذلك، أصبح المستقبل قطبا من أقطابه، وهذا المدلول النتشي للواقع باعتباره جريانا وتدفقا لا متناهيا، سيكون له تأثير كبير على رؤية جان بودريار وفي بلورته لنظريته عن الواقعية-المفرطة.
أما الأساس الثاني، فقد مثّلته نتائج التقدم العلمي وبالخصوص الثورة التكنولوجية والتقنية التي لحقت مجالات تطبيقات العلوم كما أسلفنا، إذ أصبحت الحياة البشرية تُنْتَجُ في العالم الافتراضي ومُتَحَكّم فيها من طرف الصورة عبر وسائل الميديا، "ليس هذا بعيد الاحتمال، طالما أن أغلبية الناس – حسب هوكينغ- يفضلون قضاء وقتهم في واقع محاكي في مواقع الانترنت مثل Second Life".
[1] وهذا دليل على أن مشكلة أو إشكالية الواقع، اخترقت التفكيرين الفلسفي و العلمي طولا وعرضا، وغذت أهم اهتمامات الفلسفة والعلم المعاصرين.
[2] السياق النظري يحيل إلى تتبُّع السيرورة التاريخية لنمو إشكالية نظرية ( فلسفية-علمية) من داخل تاريخ أشمل وأعمّ هو تاريخ الأنساق النظرية بوجه عامّ، وهذا مجال اشتغال المفكر المغربي عبد المجيد باعكريم، أستاذ الفلسفة والإبستومولوجيا بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس.
[3] قد يحيلنا هذا الكلام إلى إشكالية أساسية، مرتبطة بالقطيعة بين الفكر الفلسفي و العلمي من جهة و الخطاب الأسطوري من جهة ثانية، ومن ثم، ما الداعي إلى قراءة المدلول الأسطوري للواقع كماض تاريخي لنظيريه الفلسفي و العلمي، إن كان هذين الأخيرين قد قطعا مع الأسطورة عموما، ومن ثم تستحيل بداية فعل التفلسف هي الطفولة الحقيقية لمفهوم الواقع، و تصبح علاقة لحظة الأسطورة طبقا لهذا التحديد معهما علاقة تمايز.
[4] لِعلم الفلك دور كبير في تاريخ تطور الأنساق النظرية، سواء النسق الكلاسيكي الأرسطي، أو في النسق الحديث مع الثورة الكوبرنيكية في ما بعد.