كُتب و مقالات عديدة دبجت في التواضع في معناه المعرفي و ليس الأخلاقي و إن كانت الحدود بين المعنيين رقيقة و رفيعة إلى درجة أن أغلبيتنا ربما لا ترى أي فارق يذكر بينهما، من منطلق أن التواضع تواضع و كفى، فهو حكم معياري يصدر في حق الفرد جملة واحدة دون تمييز فيه بين ما ينتمي إلى هذا الجانب أو ذاك. و مع ذلك نحن نقصد بالتواضع المعرفي إدراك المرء و إقراره بأنه لا يُحصل من المعرفة و من العلم على وجه التحديد إلا النزر اليسير بل حتى ذلك النزر لا يصل فيه مطلقا درجة اليقين و إن بلغ مرتبة الصحة، و بين الصحة و اليقين فرق لا ينبغي إغفاله يعادل الفرق بين النسبي و المطلق أو بين المؤقت و الدائم.
التواضع المعرفي أو العقلي يفيد، إلى حد ما، ما يسميه بوبر باللامعصومية التي تعني الإقرار بأن العقل البشري ليس معصوما من الخطأ، بل هو عرضة له في كل حين، و هو رفيق اجتهاده، إذا تجنبه حينا فهو ملاقيه حتما حينا آخر. و في مقابله يقف مفهوم آخر مناقض له يسميه بوبر بالنزعة التعالمية التي تشي بنوع من الغطرسة العقلية و التي يعرفها قائلا: هي "نظرية إضفاء السلطة على المعرفة و العارف، على العلم و العلماء، على الحكمة و الحكيم، على التعلم و المتعلم. "[1]
مسعانا في هذه الورقة يتحدد في الوقوف على المفهوم الأول، نقصد مفهوم التواضع العقلي أو المعرفي من خلال منظور كارل بوبر بالخصوص الذي عبر عنه في مؤلفه "نحو عالم أفضل"، مسلطين الضوء في عجالة على بعض اللحظات من مشوار المعرفة الطويل الذي كشف من خلاله بعض من ساروا في دربه و اعتلوا ذراه على أن المعرفة مهما بلغ صاحبها من الدقة و سعة الاطلاع، تبقى معرفة دون مستوى اليقين، لذلك لا لزوم لأية غطرسة معرفية في مجال العلم و المعرفة ما دامت هذه الأخيرة تشعرنا بضآلة حجمنا فتلزمنا شئنا أم أبينا بالتحلي بالتواضع المعرفي.
يحدد بوبر بداية، كما جرت عادته في تدقيق مفاهيمه و أطروحاته، شروطا ثلاثة للمعرفة تخول لصاحبها إن هي استوفتها أن يقول "أنا أعرف"، هذه الشروط هي كالتالي:
1- صحة ما أدعي معرفته.
2- يقينه.
3- وجود أسباب كافية لذلك.
و تجدر الإشارة إلى أن هذه الشروط هي التي كانت تحدد ما بات يصطلح عليه اليوم بالمعرفة في صيغتها الكلاسيكية، أي تلك المعرفة التي كانت تميز من يملك (معرفة) و من لا يملك و تقيم وزنا لأصحابها و تسبغ عليهم سلطة، و هي ذاتها المعرفة التي حاربها سقراط حين ادعى عدم معرفته أي شيء على خلاف غطرسة تلميذه أفلاطون. و قد روى هذا الأخير في محاورة "الدفاع" ووصف لنا دهشة معلمه و انزعاجه من الجواب الذي قدمه راهب معبد دلفى على سؤال طُرح عليه مضمونه "هل هناك من هو أحكم من سقراط؟" قال: "ليس هناك من هو أحكم منه."[2] و يعزى انزعاج سقراط إلى انه كان لا يرى نفسه حكيما، بل و لا يرى نفسه حائزا على قليل الحكمة فما بالك بكثيرها، و هذا ما دفعه إلى مساءلة السياسيين و الشعراء و الصناع عن حدود علمهم حتى يتمكن من موقعة نفسه بالمقارنة بما يعلمون و بحجم المعرفة التي يحوزون، و النتيجة التي خرج بها أن هؤلاء صنفان؛ صنف يعرف أمورا يسيرة و لديه انطباع من يعرف كثيرا، و صنف آخر أفسدت غطرسته معرفته على قلتها. و قد مكنه هذا، بعد جهد جهيد، من تفسير نبوءة دلفى على نحو أمكن معه القول أن الإله أبوللو إنما كان يقصد بقوله "أن أحكم الرجال هو من يدرك مثل سقراط أنه ليس في الواقع حكيما." بمعنى أن الوعي بالجهل هو ما رأى سقراط انه يميزه عن غيره ممن يدعون المعرفة رغم جهلهم، و يجعله حكيما و إن افتقد للحكمة، لذلك قال قولته التي أصبحت على كل لسان: "إنني أعرف أنني لا أعرف شيئا، و حتى هذا أكاد لا أعرفه". و هذا الإقرار من قبل سقراط بالجهل هو الذي جُعل فيصلا بين حكمته و حكمة تلميذه أفلاطون؛ ففي الوقت الذي ارتبطت فيه الحكمة لدى سقراط بالتواضع العقلي و الذي مقتضاه إدراك المرء، مهما عظم شأنه، لضآلة ما يعرفه، اعتبر تلميذه أن الحكمة تعني امتلاك الكفاءة و علو الكعب في مجال الثقافة.
و لعل غاية ما سعى إليه بوبر في بحثه في مجال المعرفة الإنسانية، تتمثل في إعادة المساءلة من جديد لهذه العلاقة التي ربطت الإنسان بالحكمة /المعرفة على مدار قرون من الزمن، من خلال الانتقال بها من المعنى الأخلاقي السقراطي، إلى المعنى العلمي الخالص، هاجسه في ذلك معرفة إن كانت العلوم الطبيعية الحديثة قد تجاوزت الجهل السقراطي و قوضت شعاره المشهور "لا أعرف شيئا"، أم أن الجهل المطلق يمثل قدر الإنسان الذي ليس له من سبيل غيره اللهم إلا معرفة نسبية يركن إليها حينا من الدهر، ليتجاوزها و يضرب عنها صفحا بعد ذلك في رحلة يتبادل فيها الخطأ و الصواب أدوارهما؟
يستهل بوبر الحديث في العلم الحديث بنظرية نيوتن في الجاذبية ناعتا إياها بالفتح الجديد في العلم و المعرفة، فهي نظرية قد تمكنت بالفعل حين تبلورها من خلق وضع عقلي جديد تجاوز التفسير الوصفي الديكارتي للحركات الكوكبية و استطاع تحقيق ما حلم به الفلاسفة الطبيعيون و لم يقووا على أكثر من ذلك، و تمكن من تفسير قوانين كبلر و صححها في بعض المواضع، و هو لم يكتف بذلك بل استطاع أيضا أن يفسر الميكانيكا الأرضية أي حركة الأجسام على سطح الأرض.
لهذه الأسباب لم يكن مستغربا أن يلاقي هذا الكشف العقلي النيوتوني إطراءا منقطع النظير، و ثناء أعرب عنه العلماء قبل غيرهم، و قد وصفه الجابري قائلا: "يمكن القول بصفة عامة إن الفكر العلمي بمختلف جوانبه ومنازعه – وكذا الفكر الفلسفي- قد بقي، طوال القرنين الماضيين، يتحرك داخل البنيان الذي شيده نيوتن، وذلك إلى درجة أن الأفكار والنظريات العلمية التي ظهرت خلال المدة المذكورة، لم تكن تقبل، أو على الأقل لم يكن ينظر إليها بعين الارتياح والرضا، إلا إذا كانت مندرجة في النظام العام الذي أقامه صاحب نظرية الجاذبية."[3]
و لا أدل على هذا القول من الاستحسان الذي أبداه في حق هذا الكشف الجديد صاحب الثلاثية النقدية و رائد الفلسفة الألمانية إيمانويل كانط حيث عده إبداعا قل نظيره للفكر البشري، و ليس مجرد ثمرة للمنهج التجريبي أو الاستقرائي. بمعنى أن "قوانين نيوتن لا تقرأ من الطبيعة، و إنما هي من فعل نيوتن، إنها من منتجات عقله، من ابتكاره: إن عقل الإنسان يبتكر قوانين الطبيعة."[4] و قد ذهب أبعد من ذلك حين عد هذه النظرية أول علم استوفى الشروط الثلاثة للمعرفة بالمفهوم الكلاسيكي؛ المتمثلة في الصحة و اليقين و كفاية المبررات، و ربما لهذه الاعتبارات اعتبر البعض أن فلسفة كانط النقدية ليست في حقيقتها سوى صيغة فلسفية لفيزياء نيوتن.
بيد أن ثقة كانط هذه في المعنى الكلاسيكي للعلم كمعرفة صحيحة يقينية مبررة بما يكفي، سوف لن تصمد أمام توالي الضربات النقدية و أمام السعي الحثيث للعقل البشري نحو تطوير معارفه؛ فقد أوضحت نظرية إنشتاين في مستهل القرن العشرين أن المعرفة في معناها الكلاسيكي، المعرفة اليقينية التي لا تشوبها شائبة و التي لا يأتيها الباطل من أمامها و لا من خلفها، معرفة مستحيلة، و تمكن إلى جانب ثلة من العلماء الآخرين من التوصل إلى أن المعرفة العلمية بالخصوص هي معرفة حدسية، إنها تخمين جريء، أكيد، لكنها تخضع باستمرار للتهذيب و التشديد من طرف النقد العقلي، الأمر الذي يعجل بزوالها و فسح المجال أمام أخرى و هكذا دواليك، في مسار يذكرنا بمقولة غاستون باشلار الشهيرة "تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم".
هذا و قد كشفت المقارنة بين نظريتي نيوتن و إنشتاين عن نتيجة مهمة، سيكون لها دورها في قلب منظور العلماء للعلم خاصة و للمعرفة عامة، مؤداها أن التناقضات بين نتائجهما التجريبية هي من الصغر إلى درجة أن الشواهد التي تدعم نظرية نيوتن لها ما يعادلها من الشواهد التي تدعم نظرية إنشتاين، الأمر الذي دفع بوبر إلى استنتاج مقتضاه أنه "حتى أفضل النظريات العلمية اختبارا و تعضيدا ليست سوى حدس، فروض ناجحة، و ستظل إلى الأبد حدسا أو فروضا."[5] فالمعرفة و إن كانت تتغيأ الحقيقة و تتوفر على شرط الصحة، فإنها لا تصل أبدا حد اليقين و لا تجد إليه سبيلا. و هذا، يقول بوبر، ما أدركه زينوفانيس شاعر الملاحم قبل سقراط بمائة عام تقريبا، حين قال:
"أما بالنسبة للحقيقة اليقينية، فلم يعرفها احد
و لن يعرفها احد، لا عن الآلهة، و لا عن كل ما أتحدث عنه من أشياء
و حتى لو حدث بالصدفة أن نطق
بالحقيقة الكاملة، فلن يعرفها هو نفسه:
فكل شيء ليس إلا نسيجا محبوكا من التخمينات."[6]
يثمن بوبر موقف زينوفانيس هذا، مضيفا أننا لا نصل إلى الحقيقة مطلقا بل نحن نقترب منها فقط، و هذا الاقتراب يقوم على مسار تصحيحي للأخطاء التي تنطوي عليها فروضنا، ما يجعل من العلم نشاطا نقديا لا يعتد بصحة فرض جديد إلا إذا استطاع تفسير ما تمكن الفرض القديم من تفسيره، و إلغاء بعض أخطاء الفرض القديم و تفسير، حيث أمكن، أشياء لم يفسرها الفرض القديم أو لم يتنبأ بها. و هذه الأمور الثلاثة هي التي يعدها بوبر معيار التقدم العلمي. و ما ينطبق على العلم ينطبق على الحقيقة في المجمل؛ فإذا ما تمكن الفرض من الثبات أمام الاختبارات النقدية بصورة أفضل فإنه يكون قد اقترب من الحقيقة أكثر من الفروض التي سبقته. و بهكذا معنى نضمن بحسب ما ذهب إليه بوبر أننا إذا لم نستطع معرفة ما إذا كنا قد بلغنا الهدف المتمثل في الوصول إلى الحقيقة، فإنه يكون لدينا على الأقل من الأسباب القوية ما نفترض معه بأننا قد اقتربنا منها أكثر.
صفوة القول انه و منذ إرهاصات البحث العقلي الأولى في أمور المعرفة، وقفنا على صنفين من العلماء و المفكرين؛ صنف ادعى حيازة المعرفة في مجال معين، بالمفهوم الكلاسيكي للمعرفة الذي أبنّا عنه عاليه، و هؤلاء كثر، و صنف آخر آمن بأن المعرفة شيء لا نصل فيه إلى اليقين أبدا بل إن أقصى طموحنا بخصوصه يقف عند حدود معرفة صحيحة صحة مؤقتة سرعان ما تطيح بها سهام النقد الذي هو خصيصة التفكير العلمي، فنعيد الكرة من جديد، و إلى مثل هذا ذهب نيوتن بقوله "أنا لا أعرف كيف أبدو للعالم، لكنني أبدو لنفسي كما لو كنت طفلا يلهو على شاطئ البحر، يطرب بين الحين و الآخر إذ يجد حصاة أنعم أو صدفة أجمل، بينما يمتد أمامي محيط الحقيقة المجهول الهائل."[7] و اعتبر إنشتاين نظريته في النسبية العامة شيئا مثيرا يُنسى بعد حين، و على نفس الدرب سار قبلهما بزمن طويل سقراط حين أعلن جهله و هو أحكم أهل زمانه.
إن هؤلاء حين أدركوا هذا اقتنعوا بأن العلم بحر لا قرار له، فَوَقاهم ذلك شر السقوط في الدوغمائية التي تشل العقل و تسد منافذ كل تفكير نقدي، و قادهم إلى "تبصر هام مضمونه أننا نختلف كثيرا بالنسبة للتفاصيل الطفيفة فيما قد نعرف لكننا جميعا متساوون في جهلنا المطلق."[8]
[1] كارل بوبر، بحثا عن عالم أفضل، ترجمة محمد مستجير، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999، ص 50.
[2] نفسه، ص 48.
[3] محمد عابد الجابري: "مدخل إلى فلسفة العلوم، دراسات ونصوص في الابستمولوجيا المعاصرة"، الجزء الثاني: "المنهاج التجريبي وتطور الفكر العلمي"، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1982، ص: 45.
[4] بحثا عن عالم أفضل، مرجع مذكور، ص 55.
[5] نفسه، ص 56.
[6] نفسه، ص 57.
[7] نفسه، ص 59.
[8] نفسه، ص 59.