في أفق هذه المقاربة الإبستيمولوجية الأولية، يمكن إستحضار الأطروحة التي تقول: "ان فلسفة المعرفة العلمية فلسفة مفتوحة. إنها وعي فكر وهو يؤسس ذاته في خضم كشفه عن المجهول، وبحثه في الواقع عما يتعارض مع المعارف السابقة."(غاستون باشلار)أجل، لقد بلغت الفلسفة إلى الذروة في قطعها لمسافات معرفية كبيرة لا تخلو من التأمل والطرح المستمر للسؤال، وذلك باعتمادها على مقوم العقل والمعرفة والتفكير، في سبيل إدراك مسار العلوم وما يخلفه من نظريات علمية نظرية وتجريبية ومسائل مركبة حول الوجود، هذا هو حال الفلسفة كبحث مستمر عن تجليات الوجود في رمته، فهي تجرد من نفسها صورة ثانية لكي تتأملها وتناقش معاني الحياة البشرية. فتحوجها الضرورة فتضطر إلى إبداء ما توصلت إليه من تأملات وإستنباطات حول موضوعات متعددة كالعلم، الطبيعة،المنهج، القيم، السياسة... فالفلسفة تسمو عن محاولة إعتبارها علما من العلوم الطبيعية أو كونها نظرية من النظريات، فهي تفكير عقلي مستمر لا متناهي في مختلف حيثيات الوجود البشري المتغير بإستمرار.
تعمل الفلسفة على التوضيح المنطقي للأفكار العلمية، وتصبح كفاعلية شمولية تضم الأفكار إليها وتناقشها وتحددها بكل دقة وترصد الاشكالات المبهمة الغامضة، إن مسار الفلسفة هو مليئ بالتشعبات والتفرعات، أي أننا نجد الفلسفة حاضرة في كل أصناف العلوم، من علم طبيعي، إلى علم إنساني تطرح نفسها بإلحاح وتلقي بأفكارها النظرية حول مرامي وتجارب تلك العلوم وتكشف أخطائها ومعارفها وتفند فرضياتها بطرح أسئلة جديدة.
وفي سياق الحديث عن علاقة الفلسفة والعلم، يمكن التطرق هنا،الى مسألة الرياضيات كعلم من العلوم الحقة (الوضعية) الذي ظهر منذ القدم، حيث كان الإنسان يعطيها أهمية كبرى في حياته، بكونه يعتمد عليها للتعرف على بعض الحالات الواقعية، فيحاول استعمال منطقه قدر الإمكان ليدرك حقيقة أمر ما، ويبني على إثر ذلك سلسلة من العمليات والتصورات الرياضية العقلية. فعلم الرياضيات يمكن إعتباره كأداة تكشف عن ظاهرة طبيعية مثل حركات الأشياء، الزمان، المكان... فبالتالي هذا لا يمنع من محاولة مقاربة مسألة الرياضيات والوقوف على أسسها العقلية إعتمادا على التفكير الفلسفي، فالرياضيات لعبت دورا بارزا في تنمية الحس الفكري العلمي لدى الانسان، مما جعله يبتكر ويبدع في جميع الميادين المرتبطة بواقعه ومحيطه.
إن عالِم الرياضيات بقدر سعيه الحثيث في تفسير بعض العناصر الطبيعية منطقيا، فهو في الآن نفسه يحقق ضروبا من الاستخلاصات والمدركات الذهنية، عن طريق طرح فرضيات بسيطة وقواعد منطقية "تتنبأ تنبؤا دقيقا مضبوطا بتفاصيل جميع الحركات والأشياء الموجودة". (محمد سبيلا، عبد السلام عبد العالي) لكن ما يفسر نجاح علم الرياضيات، هو تلك التراكمات والقطائع الابستيمولوجية السابقة التي قدمت قواعد ونتائج وإستدلالات يتم إستثمارها دائما في استمرار العلم وتطوير نظريات رياضية جديدة.
لقد بدأ علم الرياضيات برسي دعائمه الأولى في العهد اليوناني، و بالضبط في مرحلة قبل الميلاد حيث ظهرت معالمه على شكل تصورات وتمثلات وبصمات هندسية تجريبية، والتي كانت في حقيقة الأمر منطقية نسبيا، وهذا ما تجلى على سبيل التحديد، في ما توصل إليه كل من "طاليس" و"فيتاغورس" و"أقليدس" من نظريات وإستنتاجات وتصورات كانت تشكل فعالية رياضية في تلك الحقبة التاريخية.
في سياق هذه المقاربة، نستحضر عالما يونانيا من هؤلاء العلماء الثلاثة، الذي لمع في فضاء الرياضيات وأبدع فيها بكيفية منطقية عقلية، وهو العالم "فيتاغورس"،الذي جسد تجارب عدة وآليات وعمليات رياضية حسابية جوهرية، فكيف يرصد "فيتاغورس" هذه العمليات الرياضية ويفسرها؟ على أي أساس تقوم فلسفته الرياضية؟
1. فيتاغورس والمنطلقات الرياضية الاولى :
كان فيتاغورس حكيما، ملما ببعض الحقائق، لكن فلسفته الصميمية وحكمته الفردية كانتا بمثابة ممرات تسعى نحو إدراك تصورات حول طبيعة الأشياء وحركاتها، فقد حاول في بداية الأمر دراسة الاشكال الهندسية كتفسيره لعلاقة القطر المربع بضلع نفس المربع، والتعبير عنها بطريقة عددية أو "كلما كان يتقدم في القسمة كان لا يتوقف، فتبين له أنه لا يوجد نسبة متناهية بين هذا القطر وهذا الضلع" (نجيب بلدي)، فحاول إظهار هذه العملية إلى من حوله من المهتمين وهي أن العدد قد يكون لا متناهي، مما عبر عنها "فيتاغورس" بأنها تشكل نسق اللامحدود الذي يكون حاضرا في الأمور المنبوذة من الأشياء، يتبين أنه كان "لفيتاغورس" تصور غريب أي أنه يربط الأشياء بالأعداد ويجعلها تتماثل جنبا إلى جنب لتشكل شكل معين.
وفيما يخص مظاهر التفكير العلمي لفيتاغورس، نجدها تتوزع إلى نوعين وهما : نوع خاص بالطبيعة حيث ينظر "فيتاغورس" بنظرات تأملية إلى العالم وتصوره وكأنه عبارة عن نفس كبيرة، تمتص الهواء القريب منها (العام) وشيئا فشيئا تبدأ بالانفصال في العالم لتتكون أجرام السماء. ومن خلال هذا التصور الفيتاغوري نجده يلمس عنصر من العناصر الأربعة التي تكون العالم (الهواء، الماء، النار والأرض)، وهي تسمى بنظرية العناصر التي تعود إلى عالم وحكيم سبق فيتاغورس، وهو "أنباذوقليس" الذي عبر عنها بوضوح، لكن هذا التصور قد يعكس لنا نسبات صحيحة، إذ نقول أن العالم محيط بالهواء مليء بالذرات وهذه الأخيرة هي جزء من عملية الدوامة تعكس أصل العالم حسب إعتقاده في تلك الحقبة التاريخية.
أما النوع الثاني يسميه "فيتاغورس" بفلسفة الرياضيات أي أنه خاص بالرياضيات وتطبيقاتها في دراسة الطبيعة (نجيب بلدي). حيث سيبدأ فيتاغورس هنا بتصور بعض مظاهر الوجود و إعطائها عددا رياضيا،بمعنى أن هناك كل مظهر أول بعدد معين، أي أن كل عدد له صورته في الواقع.
يرى فيتاغورس أن العلاقة تكون وثيقة بين الأعداد والأشكال الهندسية، فمثلا نقول أن المثلث يمثل أعداد معينة أو العكس، وهذا ما يجسده أثناء تسميته للأعداد 3 و6 و10 أعداد مثلثة، أي أنها تترتب نحو شكل مثلث:
* *
*
و الاعداد المربعة، لأن النقط ترص فيها على شكل مربع من 4و8.
* *
* *
ثم أعداد مستطيلة، لأن النقط ترص فيها على شكل مستطيل من 6 و12.
* * *
* * *
يتبين لنا أن الأعداد الفيتاغورية، أعداد ميتافيزيقية مغلقة على الفضاء، لكن ما يفسر صحة بعض منها هو شكل الأرقام الذي يحمل مرة شكل مربع مثل العدد 4 والعدد 12 على شكل مستطيل، فهذا تصور تخميني لكن في بعض الأحيان يلمس جزءا من الحقيقة.
بالإضافة إلى هذه العمليات، نجد أن فيتاغورس مهتم بالنسب الموسيقية التي اكتشفها هو وأصحابه من الفيتاغوريين، فقد أسسوا علم الصوت في صورته الرياضية، وانتهوا إلى تحقيق نسب ترجموها كالتالي :
التناسب القائم بين 12 و8 و6، أي أن العدد الأوسط أصغر من الأكبر بثلثه، وأكبر من الأصغر بثلثه أيضا، هنا تتضح العملية :
6/3 + 6 = 12-12/3 = 8
نقول أن العدد 3 يشكل نصف العدد ستة 6 ويشكل أيضا ثلث من العدد 12، عملية هي الأخرى تلمس نوعا من الصحة والوضوح، لكن في الرياضيات الحديثة نقول إن العدد 8 أقرب إلى العدد 12 أي أنه يمثل العدد 4 للوصول إلى العدد 12.
كما نجد من جهة أخرى نظرية فيتاغورية تجسد مثلث القائم الزاوية التي وضحها "نجيب بلدي" و"مصطفى غالب" كالتالي: "المربع المرسوم على الضلع المقابل للزاوية القائمة يساوي المربعين المرسومين على الضلعين الآخرين من المثلث"، وهذا منطقي، نقول ضلع مربع يساوي ضلع لآخر وإذا فصلنا بين نقطة ونقطة أخرى من المربع في الوسط نحقق مثلث له ضلعين متساويين"، وهذا ما يوضحها الشكل التالي :
في المثلث يلاحظ أن زاوية القائمة واحدة، لكن يستحيل لأي كائن أن يضيف زاوية قائمة جديدة إلى المثلث، لكون أن المثلث المركب من زاويتين قائمتين موجود في الميتافيزيقا عند قوة كبرى تستطيع رسمه بكل سهولة.
1. المظاهر الرمزية للأعداد :
إعتبر الفيتاغوريون أن لبعض الأعداد صفات وميزات رمزية سحرية، فمثال العدد 7 يدل على الفرصة والعدد 4 على العدالة، وهذا ما تم تفسيره كالتالي : العدد 4 يمثل نقطة من المربع وأن المربع له أضلع متساوية متعادلة، أي أنه يمثل عدل أو عدالة، كما نجد العدد 10 الذي يسمونه العدد الكامل الذي يتكون من مجموع الأعداد الأربعة الأولى : 1+2+3+4=10، ويعتبرونه عددا سحريا.
أترث نظرية الأعداد الفيتاغورية على باقي الشعوب بشكل كبير لكونها حققت بعض الغايات المنشودة واستعملت لدراسة بعض الظواهر المعاشة كما هو الشأن عند المصريين واليهود الذين تأثروا بالرقم 7 واستعانوا به ليدرسوا معاني كثيرة كمعنى الأيام.
2. موقف الحكمة الفيتاغورية، موقف الانسجام العددي، وموقف القسم
موقف الانسجام العددي، يمثل كيفيات الاجسام والألوان، فكل لون يتحقق بفضل انسجام عددي، "إلتقاء مقدار معين مع مقدار آخر ليتشكل لون معين"، (نجيب بلدي) كل عدد أو لون له جسمه الخاص، اللذان يرتبطان بصورة كمية انسجامية لإعطاء بناء وشكل ولون معين، وهذا ما يتجلى في الفيزياء الحديثة التي ترجع تلك الألوان التي تظهر على السماء بين الشتاء والحرارة إلى تفاعل وانسجام أولي من جزء وآخر أو كما هو الحال في عمليات وتجارب فيزيائية عديدة كمسألة الضغط الذي يولد ألوان أو غيره من هذا القبيل...
ومن مظاهر الانسجام العددي يتجلى حسب "فيتاغورس" في الصحة الجسمية أو في النفس، أي تتحقق النفس بفضل الاعتدال، والاعتدال هو الآخر كعملية إنسجام تحقق التوازن في الذات، وهذا ما نجده حاصلا بالتمام وإن لم نقل بإشارات كبيرة في مجال علم النفس الاجتماعي، بحيث تقول التجارب والأطروحات السيكولوجية أن ذات الإنسان يجب أن تخضع لمبدأ التوازن، واالذي يكون بين العقل والعاطفة، اللذان يطلقان عنان للسلوكات الإنسانية، والقول أن الموقف السليم للإنسان هو عدم خضوعه التام لعاطفته، وانسياقه بشكل أعمى وراءها، نستنتج إذن أن التعبير الفيتاغوري يحقق التوازن في نهاية المطاف وهذا ما يعتبره البعض، التفكير الصرف والعاطفة الصرف، يلتقيان معا لإحداث توازن عام في النفس حيث تنسلخ من حياة الإنسان عوامل الظفر، لتعود إلى تلك القوتين اللتين تبقيا متحدتين ومندمجتين ومنسجمتين.
هناك الموقف الثاني، وهو موقف القسم الذي يمثل العدد عشرة،أي أن العدد 10 يجمع بين النسب العددية كلها ليحقق انسجام تكاملي، أي اتحاد الأعداد الأربعة 1+2+3+4 =10 يشكل انسجام كلي، لكن فيتاغورس يصر على شرح هذه العملية حيث يقول فيها "إن الواحد في هذه الأعداد هو الواحد المبدأ، لأن الأول يدخل في عملية الجمع، والأول المبدأ لا يجمع ولا يضرب فهو مطلق، الأول عددي والثاني ميتافيزيقي". هنا نلمح فن التعقيد في الإشارة العددية، حيث يقول العدد الميتافيزيقي . ربما اعتبره إضافي وحوله إلى أجزاء من الميتافيزيقا ليسترجعه في حالة فقدان عدد ما من تلك الأعداد الأربعة، ونقول إن العدد 1 ضروري القيام بالعملية وهو عدد مطلق يبقى ثابت، وهذا ما يتجلى في العمليات التالية :
187x1=187 , 1x4=4,1x1=1.
كما أن العدد 10 فهو كامل، ويضم طبيعة الأعداد كلها أي أنه يمكن الحصول على سائر الأعداد بتكرار العشرة، بكونه عددا أساسيا يمثل تكاملا وانسجاما، ونرى أن "فيتاغورس" يبين الأعداد الزوجية والفردية بطريقة غير مباشرة حين يقول إن هناك عنصران للعدد، الزوج والفرد الزوج لا محدود، والفرد عدد محدود، والزوجية تقبل كل شيء،فهذه الملاحظة لازالت حاضرة في الرياضيات الحديثة، ولولاها لصارت الأعداد غامضة، أجل هناك أعداد زوجية لا حد لها وميتافيزيقية طويلة لا متناهية (4.2...). وأعداد فردية هي الأخرى ضرورية لإنشاء التكامل بين الأعداد وتراتبها.
خلاصة :
مما لا شك فيه أن التصورات والنظريات الفيتاغورية كانت لا تخلو من النزعة المنطقية. إن "فيتاغورس" أسس معرفته بكل جدارة وأدرك حقائق عديدة استمرت إلى راهن الزمن المعاصر الآن، لكن هذا لا يمنع من تلمس بعض الهفوات التي وقع عليها "فيتاغورس"، في مقدمتها اعتبار أن الأعداد تشكل أشكال هندسية معينة، لكن هذا يمكن استساغته بحجة أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء ابستيمولوجية، وبالخطأ والتكرار تظهر الحقائق العلمية وتتطور. فالنتائج العلمية التي توصل إليها علما من العلوم تتدخل الإبستيمولوجيا لتقوم بدراسات أخرى، لتبعثر الأخطاء وتكشف التناقضات.
إعداد:
منير يرقاد
المراجع المعتمدة :
1- غاستون باشلار، فلسفة الرفض، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع،لبنان بيروت، الطبعة الأولى 1985.
2- صدوق نور الدين، المنتقى، مفاهيم فلسفية فكرية وحقوقية.
3- محمد سبيلا، عبد السلام بن عبد العالي،الفلسفة الحديثة، نصوص مختارة، ، دار الأمان، الرباط، الطبعة الأولى 1991.
4- مصطفى غالب، في سبيل موسوعة فلسفية، دار ومكتبة الهلال، بدون طبعة.
5- مجلة دراسات عربية، العدد 8، سنة 1983.
6- محمد سبيلا، عبد السلام بن عبد العالي، العقل والعقلانية، دار توبقال للنشر، دفاتر فلسفية، نصوص مختارة، الطبعة الأولى 2003.
7- نجيب بلدي ،دروس في تاريخ الفلسفة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1987.