يصعب إعطاء مفهوم حاسم للرحلة ككتابة أدبية ، لاعتبارات عدة ، منها :غياب تعاريف دقيقة للرحلة ، سواء عند كتاب الرحلة أو عند اللغويين العرب . و وجود نصوص رحلية كثيرة ثرية و متنوعة، ثم انفتاح النص الرحلي على عناصر أخرى متحركة ، تحضر و تختفي بدرجات متفاوتة بين النصوص.
نظرا لذلك، لا يمكن اقتراح تعريف حول نص الرحلة دون فهم علاقاتها و ارتباطاتها، في إطار التفاعل الذي اتسمت به مع أشكال أخرى أو ما يصطلح عليه شعيب حليفي دائرة التخصيب. فالنص الرحلي ينفتح ضمن دائرة متعددة المنافذ على أشكال أدبية و غير أدبية يتفاعل معها ممتصا جوهرها لاستثماره في تعزيز نصيته، سواء في شكل متخللات أو مكونات:
1ـ الســيرة: و تروم السيرة الذاتيـة تحقيـق نوع من الترجمة و التأريخ لحياة الفرد / المؤلف عن طريق حكي استرجاعي يخص فـترة السفر المحددة. و تحضر الذات في الـنص الرحلي من خلال الجهاز المعرفي للــرحالة، و طــريقة فــهمه وصياغته و مصادراته. فالنص الرحلي لا يخلو من حديث عن الذات و التأمل في سيْرها، ضمنيا أو صراحة.
2ـ التــراجم: و يعزو الباحثون وفرة التراجم إلى بواعث دينية و فكرية في إطار الالتفاف حول القرآن الكريم و الحديث و التفسير. و التراجم هي "تاريخ الحياة الموجزة للفرد"؛ و ذلك بإثبات النسب ثم التحدث عن مكان الولادة و زمنها و ظروف النشأة و التحصيل، ثم الأعمال و الوظائف و الآثار... مختوما بمكان الوفاة و زمنها .
و ترتبط التراجم بالنص الرحلي أكثر من أي شيء آخر، خصوصا في الرحلات الحجية الزيارية، بحيث يتحول الرحالة إلى ترجمان للأعلام و الفقهاء و المتصوفة و الأولياء ... في خطة تختلف عن خطط كتب التراجم ، و ذلك بعدم ذكر التفاصيل الكثيرة ، و إنما بالاهتمام بوصف الصورة الفكرية و الثقافية و الأخلاقية للمتَرجَم له .
3ـ التــاريخ : ارتبطت الرحلة بالتاريخ و الجغرافيا أثناء نشأتها ؛ و حينما صارت قائمة بذاتها ، لم تنفصل عن مصدرها .فلم تسْلم الرّحلات من اللجوء إلى التأريخ و الاستشهاد بفقرات طويلة منه . و تتضمن جل النصوص الرحلية بنيات كاملة يؤرخ فيها المرتحل للفترة التاريخية التي استغرقتها رحلته فضلا عن الأحداث التي عاصرها من منظور المعاينة و القراءة و التأويل و السماع . فتتحول الرحلة بذلك إلى وثيقة يمكن أن يستفيد منها المؤرخ و الجغرافي و الأديب و السياسي و الإثنوغرافي و غيرهم .
4ـ الجــغرافيـة : في الثقافة العربية نصوص جغرافية كثيرة و متنوعة اندرج أغلبها في سياق تجاري علمي ، إضافة إلى اتساع الرقعة الجغرافية للبلدان الإسلامية ، فدونت نصوص رحلية تهتم بالجانب الجغرافي البري و البحري ، و ذلك بوصف الطرق و المسالك و المواقع و النواحي و معالم البلدان ... و قد سار التأليف الجغرافي عند العرب في منحيين : منحى علمي ؛ أنتج نصوصا جغرافية محضة عبارة عن رحلات إلى أمكنة بقصد وصفها و معاينتها من كافة نواحيها ، و بين منحى أدبي ؛ أنتج لنا رحلات استثمرت الجانب الجغرافي الوصفي لصوغ النص باعتبار الرحلة كانت مجالا رحبا و مشبعا يحشذ الاجتهاد الجغرافي و ينشطه و يسعفه برؤية كاشفة .
5ـ السجلات الاجتماعيـة : تشكل السجلات الاجتماعية في النصوص الرحلية رافدا أساسيا لإغناء النص و توسيع أبعاده و تنويعها ؛ خصوصا و أن جل الرحلات لا تخلو من وصف طبائع الناس و عاداتهم و تقاليدهم و بعض خصوصيات ثقافتهم . لكن ليس بالدقة التي يتصف بها علماء الاجتماع و الأنثروبولوجيون ، إنما يتمثل الجانب الاجتماعي فيها سجلا يرصد بعض أخبار السكان و طبائعهم و تقاليدهم و ثقافتهم و مذاهبهم و كل ما يثير انتباه الرحالة في إطار المقارنة مع ما يختزنه مما يسهل الاصطدام بمشاهدة غير مألوفة ، و أساليب حياتية لم يتعود عليها .
6ـ الخانة الفارغة : إضافة إلى ارتباط الرحلة بعدد من الأشكال خارج أدبية ، فهي أيضا شكل مفتوح يضم مجموعة من العناصر المتخللة و المتغيرات التي تحضر بدرجات متفاوتة ؛ أهمها:
6ـ1ـ الحكي و الخبر : و يتمظهر الحكي الإخباري في النص الرحلي ضمن وحدات مهيمنة تستعين بالوصف و المقارنة و التعليق في جمل سردية يتم تقديمها عبر مراحل الرحلة . فطبيعة النص الرحلي تتطلب هذين المكونين في بناء النص ككل ، و إعطائه الطابع الرحلي المنسجم مع التصور العام ، و مع الأشكال الأخرى .
6ـ2ـ الشعر : و يحضر تعبييرا عن ثقافة الرحالة ، و سعة علمه أو مقدرته على الحكي . فيكون إما من نظم الرحالة نفسه ، أو مستشهدا به من محفوظات الرحالة .
6ـ3ـ الرسالة : ترتبط الرحلة بالرسالة أولا من ناحية التداخل في التسمية ، ثم ثانيا في كون العديد من افتتاحيات النصوص الرحلية يشبه بدايات الرسائل لتضمنها لصيغة "أما بعد" ، و أسلوب الخطابات الموجه إلى القاريء ، ما أتاح للرحلة فرصة تنوع خطاباتها و تعدد أساليبها .
6ـ4ـ اليوميات : الرحلة في عمقها هي مذكرات و يوميات يدوّنها الرحالة حول رحلة قام بها في الواقع ، و تكون ذات أسلوب متقاطع و مندمج مع أساليب اليوميات و المذكرات و الاعترافات . إن لجوء السارد إلى استعمال اليوميات ضرورة فنية و بنيوية تكسر رتابة الحكي الكرونولوجي العادي من جهة ، و تعطي للذات فرصة تتبع أثرها الملموس من جهة أخرى .