مقدمة:
ينزع النص الأدبي إلى تحقيق هويته من خلال الاختلاف عن الخطاب الشائع ، والتعالي على مرتكزات التعبير التقليدي مستنكفا بذلك عن كلّ ما هو قارّ وثابت ، كأنه يؤسس ذاته وجماليته في تمرده عن التأثير القواعدي/النحوي، والتواصل اللساني ، فيتحوّل إلى مغامرة داخل اللغة تهشّم عناصرها ثم تعيد بناءها في حلة جديدة، فالكلمة الشعرية "هي نفس الآن موت وانبعاث للغة "(1)
وهكذا يغدو النص الأدبي لغة خاصة ضمن اللغة العامة، وخطابا غير عاد ضمن الخطابات التواصلية العادية ، وقد ظهرت مصطلحات عديدة تبحث عن خصائص هذا الكائن اللغوي المتميز،ومنها "الانحراف")Deviation)، "المخالفة"Infraction، الخرق Transgression، الانتهاك Viol، وكل هذه التسميات تحمل تلوينات دلالية مختلفة ، لكنها تقارب مصطلحا شائعا وهو "الانزياح"L’ecart، وقد عرّف باعتباره " حدثا لغويا جديدا يبتعد بنظام اللغة عن الاستعمال المألوف ، وينحرف بأسلوب الخطاب عن السنن اللغوية الشائعة" (2).
وقد ارتبط هذا المصطلح بجدلية لغة النثر ولغة الشعر.فالشعر هو أكثر الفنون الأدبية ولعا بالزيغ والمخاتلة ، وتخطّي الثوابت السائدة "فالنثر هو بالتحديد اللغة الطبيعية ، أما الشعر فلغة الفن أي لغة مصنوعة ،...وكون النثر هو اللغة الشائعة يمكن أن نتحدّث عن معيار تعتبر القصيدة انزياحا عنه"(3)
فالنثر هو لغة الخلق الطبيعي ، لغة البساطة العفوية المباشرة ، والشعر هو لغة الخلق الفني ، لغة المهارة ، الحذق، الإبداع، ومن هنا تطرح إشكالية المعرفة والتذوق انطلاقا من نمط العلاقة التي يقيمها الدال بالمدلول ، ففي النثر نلمس مطابقة بين الدال والمدلول ، فتثير لدى القارئ استجابة عقلية تمكنه من معرفة البنية الموضوعاتية التي يطرحها الناثر ، أما في الشعر فالدال يتجاوز المعنى المفهومي إلى المعنى الانفعالي ، ليحقق الاستجابة العاطفية لدى القارئ ، ويمكنه من تحصيل انفعال/ تذوق بالبنى الشكلية التي يطرحها الشاعر ، فكأن انتفاء المطابقة ضرورة لتحقيق الإيحاء ، وسلبية المعرفة شرط لإيجابية التذوق .
ولعلّ هذا ما يبرر الغموض الذي يتحسسه القارئ في مواجهته نصا شعريا يتحدّى أيّ منطق ، ويحارب كلّ الثوابت ، أولها وأخطرها النحو " فهو الركيزة التي تستند إليها الدلالة وبمجرد ما يتحقق الانزياح بدرجة معينة عن قواعد ترتيب الكلمات تذوب الجملة ، تتلاشى قابلية الفهم "(4).
فالانزياح يجعل النص التباسا إبداعيا تتغير قابلية فهمه في حركة زئبقية من قارئ إلى آخرـ فهو يجازف بالنص ليصل إلى درجة خطيرة تهدد بالطلاق بين المؤلف والقارئ ، وتفقد النص انتمائه للغة ،" فاللغة تتوقف عن أداء وظيفتها عندما يتخطى التعدد الدلالي حدا معينا "(5) لذا على الشعر أن يحقق الوظيفة الشعرية دون أن يغيب الوظيفة التواصلية بل تجعل التشظّي اللساني والدلالي الذي يسود نصه وسيلة / مدعاة للإيقاع بالقارئ لا لنفوره ، فالمعاني التي لا تستجيب، والدلالات التي تستعصي على الإمساك هي أدوات الشاعر ليوتّر اطمئنان القارئ تاركا له المبادرة التأويلية ، ليقول هو ما سكت عنه ، وليصرّح بما لمّح إليه ، بل وليقوّله ما لم يقله.
إنّ رغبة الشاعر في تعتيم رسالته رغبة غير مجانية ، إنّه يسعى إلى تحريك روح المغامرة لدى قارئه ليجعل منه سندبادا أو قارئا مغامرا يقوم بعبء الحفر في طبقات النص ، والغوص في أعماقه رغبة في كشف كنوزه الثمينة وجواهره المكنونة ، ليصل إلى النشوة الجمالية بعد رحلة مضنية تنفي عنه طفيلية التلقي ، وتذيقه حلاوة الأسفار والبحث رغم المعاناة التي كابدها أثناء لحظات التلقي الشعري.
وأحمد مطر أحد الشعراء المعاصرين الذي استوعبوا هذه الإستراتيجية في تكييف القارئ مع جوّ النص ، لذا سنتعرّض الآن إلى مقولات التحليل لقصيدة "عزاء على بطاقة تهنئة"من زاوية عدولها ن الكلام الشائع،وانحرافها عن المألوف.
مقولات التحليل:
العنوان: يعتبر العنوان علامة دالة على النص، تتصدّره، وتعرّفه ، وتؤطّر كيانه اللغوي والدلالي ، بل هي بمثابة لافتة إيضاحية تضيء مدلولاته وتكشف إيحاءاته،" فالعنوان هو المفتاح الذهبي إلى شفرة التشكيل ، أو الإشارة الأولى التي يرسلها المبدع إلى المتلقي"(6) لكن تجلّى عنوان هذه القصيدة في صيغة ترفض كل تلك الفرضيات بما تفيض به من تجاوزات ومجازات.
"عزاء على بطاقة تهنئة"عنوان يحمل بذور غربته، يتناقض مع ذاته بما يسوده من تبعثر لفظي ودلالي ، إذ اتحد في صلبه المتناقضان ، وتصالح المتضادان، (عزاء/تهنئة) بشكل يثير انفعال القارئ وفضوله حين يفاجأ في أول لقاء له بالنص بهذا الانحراف الأسلوبي ، والخروج عن النمط التعبيري المتعارف عليه مما بضعف في دور الوظيفة المرجعية ، ويجعل المعنى مشوشا ، غمضا ، مبهما زاده غموضا وإبهاما توالي النكرات في صيغة العنوان (عزاء/بطاقة/ تهنئة).
وكأن أحمد مطر يصرّ على قطع جسور التواصل بين نصه وقارئه ، نكاد نتيقن من ذلك لولا وجود همزة وصل بين المتناقضين ، نقصد كلمة "بطاقة" التي يمكن قراءتها بأخطاء صحيحة ، فلعلها وردت كعلامة سيميائية تجسّد المظهر المادي لفعل الكتابة، باعتبارها ممارسة إبداعية أو حالة تجاوزية للثوابت يباح فيها كلّ شيء بما في ذلك التناقض والتشويش، والانحراف والعدول...
وكأن كلمة "بطاقة" هي شفرة خاصة للمتلقي تنبهه إلى رغبة أحمد مطر في "ممارسة الكتابة كهاجس نزوع تحارب الأشكال والمضامين السائدة من أجل الوصول إلى إنجاز فني يجعلها لا تقوم ولا تعي إلا ذاتها"(7)
إذا ما تجاوزنا العنوان إلى المتن نجده مشحونا بزوبعة من التساؤلات والتنهدات:
" لمن نشكو مآسينا
ومن يصغي لشكوانا
ويجدينا؟
أنشكو موتنا ذلا لوالينا ؟
وهل موت سيحيينا؟"(8)
وردت هذه التساؤلات في قوالب لغوية عادية لا تخرج عن العرف العام للتعبير سواء في مستواها التركيبي أو الدلالي، ولعلها محاولة من الشاعر لخلق جوّ من المصالحة بين النص والمتلقي ليشاركه هذا الأخير تجربته ومكابدته ومعاناته ، يؤكد ذلك طغيان صيغة (نحن) على المقطع السابق لإضفاء جو من القلق الجماعي والمعاناة المشتركة، تمظهرت جليا في آهات متواصلة اضطرّ الشاعر إلى لإيقافها بترك فضاء نصي فارغ/ فراغ مطبعي تتخلله نجمتان فقط (**) لعله إشارة إلى استغراق زمني وجيز استغرقه الشاعر ليستعيد أنفاسه ،وفي رسم نجمتين إشارة إلى الوقت الراهن ، وتشخيص الحالة الراهنة وهذا ما أنجزه أحمد مطر في المقطع الموالي :
"قطيع نحن والجزار راعينا
ومنفيون نمشي في أراضينا
ونحمل نعشنا قسرا بأيدينا
ونعرب عن تعازينا لنا فينا "(9)
يبدو الشاعر في هذا المقطع كأنه يمارس لونا من ألوان الهذيان الواعي بما يقترفه من كتابة استفزازية /انقلابية تقفز فوق تضاريس الكتابة النمطية ، وتتلذذ بانتهاكاتها المحببة للسنن اللغوية في ذهن القارئ الذي يلمس تعايشا سلميا بين ثنائيات ضدية تكاد تخلخل يقينياته ، وتقوّض أمنه المعرفي واللساني حول مفاهيم وجودية وفلسفية كمفهوم (المكان) الذي يتماهى معناه ضمن "النفي /اللانفي" في قول الشاعر:
"ومنفيون نمشي في أراضينا"
كما يتزعزع مفهوم "الزمان" بين قطبي "الحياة/الموت" في قول الشاعر:
"ونحمل نعشنا قسرا بأيدينا"
كما يضطرب مفهوم "الحدث/الفعل" في قوله :" ونعرب عن تعازينا لنا فينا"
تفضح هذه المفارقات الأجواء العبثية التي يعيشها أحمد مطر حيث يختلط الشك باليقين ، وتنفجر الذات المنكسرة بهلوسات تخترق هذا الواقع الضبابي الكثيف ، كما تكشف هذه المفارقات ولع أحمد مطر بكسر النمط المنطقي للمعاني ، وتجاوزه النظرة الأحادية للأشياء والمفاهيم متخذا من الانزياح وسيلة لإثراء تجربته الإبداعية ،وتلك خاصية يطلق عليها جاكبسون " تكامل الأضداد"أو " تولّد اللامنتظر من خلال المنتظر"مما يسهم في خلق نص مشحون بالإيحاءات والرموز" وينطوي على شحنات دلالية لا تتوفر على أكثر من أطياف المعاني أشبه بالأطياف الحلمية الشفافة غير قابلة للتحديد لكنها تستطيع أن تشغّل حيزا زمكانيا من خيال القارئ بما يسهم به من إثارة الوعي"(10)
يصل النص المطري إلى تمرّده واجتياحه اللامتناهي حين يخترق الشاعر طابوهات المقدّس المفتعل والمتوارث ، وذلك في قوله:
"فوالينا أدام الله والينا
رآنا أمة وسطى
فما أبقى لنا دنيا ولا أبقى لنا دينا "(11)
يناور هذا المقطع الآية الكريمة { وجعلناكم أمة وسطى} التي تحضر حضورا غيابيا في هذا النص بعد أن جرّدت من دلالاتها الحقيقية كرمز لمعاني الاعتدال، والتوسّط،والتسامح..لتدلّ في سياقها الراهن عن معاني اللاانتماء ، والافتقاد ،والاغتراب ، ...
حقق هذا الاختلاف بين البنية اللغوية الماثلة أمام القارئ والبنية اللغوية القائمة في حسّه اللغوي مقام المرجع النموذجي انزياحا دلاليا خلّاقا دفع بالنص المطري إلى فضاءات صمته وتكتمه ، فلعلّ في تجرّأ أحمد مطر على النص الشرعي إشارة غير مباشرة لإدانته القاسية لممارسات السلطة القمعية التي تتخذ الشرع والدين ذريعة لتضييق الخناق على الرعية وسلبهم حريتهم في أمور دينهم ودنياهم، تتضح هذه الإدانة رويدا في المقطع الآتي:
" ولاة الأمر ما خنتم ولا هنتم
ولا أبديتم اللينا
جزاكم ربنا خيرا
كفيتم أرضنا بلوى أعاديانا
وحققتم أمانينا
وهذي القدس تشكركم
ففي تنديدكم حينا
وفي تهديدكم حينا
سحقتم أنف أمريكا
فلم تنقل سفارتها
ولو نقلت –معاذ الله-
لو نقلت
..لضيعنا فلسطينا
ولاة الأمر هذا النصر يكفيكم ويكفينا
تهانينا"(12)
تكمن شعرية هذا المقطع في انحرافه عن سياق النص إذ نلمس مفارقة بين أول المقطع وآخره ، فعبارة ( ضيعنا فلسطينا)انعطفت بالقصيدة انعطافا حادا ، إذ جاءت في سياقها الظاهري بصورة غير متوقعة تأسيسا على ما قيل قبلها مما أسهم في توتر اطمئنان القارئ الذي فوجئ بهذا التنامي اللامنتظر للفعل الشعري الذي ساهم جماليا في تعميق الإحساس لدى المتلقي بالمرارة واليأس والاغتراب ، وما يؤصل هذا الإحساس طغيان حرف متميز هو حرف "النون" هذا الحرف السحري العجيب الذي طالما ارتبط بقدرية الكلام إذ نجده في صيغة "كن فيكون" ليرادف معاني القدرة والإبداع والإرادة الفولاذية حتى قيل قديما :
"واسترزق الله مما في خزائنه فإن رزقك بين الكاف والنون"(13)
كما ارتبط هذا الحرف بنبي كريم حقق ذاته من خلال فعل كلامي مقدس (التسبيح) فقيل "ذو النون" ، بل هو –النون- من الحروف التي يستعزم بها ويصدّر بها النصوص المقدسة { ن والقلم وما يسطرون} لكن يتجرّأ أحمد مطر مرة أخرى ليكسر الطابو الحصين ، فيجرّد الحرف من ردائه المثالي ، ومن قيمته التذكارية /الأسطورية منحرفا به عما وضع له ليمنح سياقه الجديد حمولة تراجيدية توحي بكل دلالات التشظي والانشطار والتمزق.
عموما يمكن القول إن الفعل / الحدث الشعري في هذه القصيدة ينمو بشكل تصاعدي منطلقا من مجموعة تساؤلات صيغت في قوالب لغوية محايدة ذات الدرجة الصفر من التعبير المجازي لتصل إلى بنى لغوية مشحونة بطاقات مكثفة الدلالات تكشف محاولة أحمد مطر في الانعتاق من فعل التشرنق في فضاء المألوفية /العادية ، وامتلاكه قدرة على الزيغ والمخاتلة ، فلغته تعمد إلى العدول أو الانحراف فتتخلى عن بذاختها وعليائها لتصبح أقرب إلى الهجاء بإيقاعها وقاموسها ومفرداتها"(14)
يؤمن الشاعر بأن " معنى النص لا يكمن في تعدد تفاسيره وترجماته ،وإنما يكمن في تعدد أنظمته وتنوع قراءاته ، وفي قدرته غير المحددة على الاستنساخ الدائري"(15) هذا الاعتقاد دفعه إلى أن يتوسل بكل وسيلة لخلق نص متميز ينشد هويته في الاختلاف ، ويحقق ذاته في تفرّده تعاليه على العادي والمباشر.
الهوامش:
جون كوهين: بنية اللغة الشعرية ، ت/ محمد الولي العمري ، دار توبقال للنشر، المغرب،1986، ص214.
نور الدين السد:الأسلوبية وتحليل الخطاب ، ج1، دار هومة ، الجزائر، دت،ص186.
جون كوهين: بنية اللغة الشعرية ،ص23/24.
المرجع السابق، ص178
المرجع السابق، ص199
فوزي عيسى : تجليات الشعرية في الشعر العربي المعاصر، ص85.
الطاهر رواينية : الكتابة وإشكاليات المعنى ، مجلة التبيين ، ع8، الجاحظية، الجزائر، 1993،ص88.
أحمد مطر: لافتات(1) يوليو، ط2، لندن، 1997، ص134.
أحمد مطر: لافتات(1) ، ص134.
الطاهر رواينية : الكتابة وإشكاليات المعنى ،ص87.
أحمد مطر: لافتات(1) ، ص135.
أحمد مطر: لافتات(1) ، ص135-136.
خليل أحمد خليل : مضمون الأسطورة في الفكر العربي ، دار الطليعة،ط3، بيروت ، 1986،ص50
فوزي عيسى : تجليات الشعرية في الشعر العربي المعاصر، ص96
15-Roland Barthes : S/Z, ed, Seuil,Paris,p152.
سيرة ذاتية
الدكتورة مديحة عتيق أستاذة محاضرة بقسم اللغة العربية وآدابها بالمركز الجامعي سوق أهراس بالجزائر.
شاركت في ملتقيات وطنية حول أدب الطفل (المركز الجامعي سوق أهراس)
وتحليل الخطاب(جامعة عنابة) والنص والهوية (جامعة بجاية) وتحليل الخطاب (جامعة تيزي وزو) و أزمة المصطلح(جامعة جيجل) والأدب والأسطورة(جامعة عنابة)
وهي عضو في مشروع البحث " الرواية الجديدة في الجزائر"بـالمركز الجامعي سوق أهراس.وعضو متطوع بمخبر الأدب العام والمقارن بجامعة عنابة.
لديها مقالات منشورة بمجلة الرافد /الإمارات، وكتابات معاصرة/لبنان،والموقف الأدبي/سوريا، ومقارنات/مصر، وفي مجلات إلكترونية مثل عود الند، والعرب الواشنطني