توطئة:
تمتد جذور النصوص التي وظفت أسطورة العالم الآخر إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وتراكمت تلك النصوص عبر الزمن لتشكّل نوعا أدبيا له خصوصيته، أطلق عليه في الدرس الغربي المقارن عدة تسميات أهمّها, (Apocalypse), (Visions) (Escathologie) (Voyages dans l'audelà)، يمكن أن نلاحظ ظلال الدين المسيحي واليهودي على معظم هذه المصطلحات، فيتعلّق (Visions) برؤى القساوسة والقديسين، وارتبط مصطلحا (Apocalypse) و(Eschatologie) بموت المسيح وبعثه في نهاية الأزمان.
لم يختلف النقاد في تسمية هذا النوع الأدبي فحسب، بل اختلفوا في تحديد مفهومه وخصائصه، وفي هذا الصدد "يذهب كولين (J.Collins) أن وجود عالم آخر غير هذا الطبيعي الواقعي المتاح للإنسان هو العنصر الثابت في كل الأخرويات (...) لكن هيرمان بريت (Herman Breat) يرى أن الكتابة الأخروية في مجموعها تعرض للمجهول عن طريق المعروف، وهي تركّب اللاواقع مع الواقع من خلال التماثلات التي تقدمها بينهما، هكذا يبدو العالم الآخر في هذه الكتابات كعالم أرضي مقلوب ومواز لعالم الدنيا"(1).
يظل هذا الكلام نظريا، عاما لذا سأنتقل إلى عرض نماذج أدبية لاكتشاف خصائص الأدب الأخروي التي تجعل منه نوعا أدبيا، له مقوماته الفنية، وأسئلته الإشكالية الخاصة، تناقش هذه الدراسة أسطورة العالم الآخر في نماذج أجنبية مختارة، لأن هذا البحث ليس معرفة تاريخية-نصية تعنى بإحصاء كل الشواهد، لكنه معرفة استقرائية، تعتمد الانتقاء –وإن كان الانتقاء انحيازا- والقياس، والنمذجة، وسأبدأ بـ:
الملحمة البابلية/جلجامش:
تروي ملحمة جلجامش قصة الملك البابلي جلجامش في رحلة بحثه عن العالم الآخر بعد أن فجع بموت صديقه أنكيدو، وقد تعرف إلى حقيقة مذهلة اسمها الموت / الفناء، فسينتهي به المطاف كما انتهى بأنكيدو، إلى مكان ضيق بائس:
"إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله
إلى الطريق الذي لا رجعة لسالكه
إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور
حيث التراب طعامهم والطين قوتهم"(2)
هروبا من هذا المصير المأساوي راح جلجامش يبحث عن أسباب الخلود والنعيم الدائم، وقاده البحث إلى جنة الخلد، حيث يقيم أتونبشتم مع زوجه، ويذهل جلجامش بمعرفة حقائق مفزعة، أولها أن الخلود قدر إلهي اختصت به الآلهة دون البشر، وما أتونبشتم إلا حالة استثنائية تؤكد القاعدة ولا تنفيها، وثانيها أن ما من جنة خلد ولا فردوس موعود ينتظر الإنسان بعد موته، إذن لا يتحقق الخلود إلا بالعمل الصالح ومعاطاة العلم والمعرفة والحكمة.
العالم الآخر في الأوديسة:
الأوديسة هي ملحمة شعرية تتكون من حوالي اثني عشر ألف بيت،كتبها هوميروس (480ق.م- 430ق.م) وهي تروي مغامرات أوليس/أوديسيوس البحرية وهو يجوب أصقاع وشواطئ مجهولة حتى وصل إلى العالم السفلي، ومنه عاد إلى وطنه إيطاكا، نزل أوديسيوس إلى عالم الموتى كي يلتقي الكاهن تيريسا (أو تيريسياس) كي يساعده بنصائحه وتوجيهاته في العودة إلى أرض الوطن.
يستغل هوميروس هذا اللقاء ليطرح الرؤية الإغريقية للعالم الآخر، فهو مكان كئيب، ومظلم، وموحش "وعندئذ أقبل تيريسا، يحمل في يده صولجان من الذهب، وتكلم قائلا (لماذا تركت ضوء النهار وأتيت إلى أرض الموت حيث لا بهجة، ولا سرور؟!..)"(3)
في هذا المكان الكئيب يحيا الأموات حياة "الأطياف"، يظهرون بنفس الهيئة الخارجية، والوظيفة الاجتماعية التي كانوا عليها في دنياهم، لكنهم الآن فاقدو الحركة والإرادة بعد رحلتهم المريرة والموحشة في دهاليز العالم السفلي المليء بالصعاب والعقبات، التي تجعل من المستحيل على غير الموتى الوصول إليها، لذا لا عجب أن يستحيل التواصل المادي بين أوديسيوس وأمه، إذ حاول عبثا أن يعانقها لكنها تفلت منه كل مرة كما يفلت الظل، لذا يسألها "كيف هذا يا أماه؟ أما أنت إذن سوى شبح أرسلته ملكة الموت إليّ؟ أجابتني أمّي: هذا شأن الأموات يا ولدي! فلا تبقى لهم لحومهم وعظامهم التي تلتهمها قوة النار، وأما أرواحهم فهي كالأحلام، تطير هنا وهناك"(4) ورغم "شبحية " سكان عالم الموت إلاّ أنهم على دراية واسعة بما يحدث في عالم الأحياء، لذا كان من الطبيعي أن ينزل أوديسيوس إلى العالم السفلي ليطلب مشورة العراف تيريسا، علّه يرشده إلى وسيلة يرجع بها إلى إيطاكا.
ينقسم العالم الآخر عند هوميروس إلى قسمين؛ قسم يعاقب فيه أولئك الذين ارتكبوا جرائم في حق الآلهة، مثل سيزيف الذي شاهده أوديسيوس يدحرج صخرته اللعينة بيأس مريع، وتنتالوس الذي كان واقفا في حوض قارب ماؤه عند ذقنه، لكن كلما أراد أن يشرب لم يتمكن من ذلك، لأن الماء كان يفيض كلما انحنى ليشرب، فهؤلاء وأمثالهم يعانون أشد العذاب وهم في كامل وعيهم حتى يشعروا بما ينزل عليهم من عقاب.
لم يكن العالم الآخر كما صوره هوميروس مكانا للعقاب فقط "بل هناك إشارة إلى مكان جميل، يتواجد فيه الأخيار، يسمى"السهل الأوليسي" أو"الحقول الأوديسية" حيث تسير الحياة في سهولة ويسر، كما يشير إلى مكان بهيج آخر، تسكنه أرواح الأبطال، ويسمى جزر المباركين، حيث تنبت أجمل الزهور(5)
كانت صورة العالم الآخر في أدبيات هوميروس باهتة وضبابية، تفتقد إلى التفاصيل الدقيقة، ورغم ذلك فقد استطاعت أن تعبر عن فزع الإغريقي من الموت، فقد أدرك الإغريقي أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدّة، لذا راح يخلق تصورات ميثولوجية مشؤومة عن مصير الروح في "ما بعد الموت"، جعلت أخيليوس يصرخ فزعا "إني لأفضّل، وأيم الحق، أن أكون أجيرا في خدمة رجل رقيق الحال، ليس عنده من النقود إلاّ النزر القليل، وأظل حيا على وجه الأرض على أن أكون ملكا على الأموات جميعا"(6)
ورغم بشاعة "المصير" من جهة، وشكوك الفلاسفة الإغريق في وجود هذا العالم الماورائي من جهة أخرى، إلا أن الإغريقي أصر على وجود العالم الآخر لأنه سيعطي معنى حقيقيا لحياته، إذ لا يستطيع الإنسان اليوناني أن يهضم فكرة أن وجوده ينعدم لحظة افتراق روحه عن جسده، لذا كان لابد من هذا العالم الماورائي، حتى لا يتساوى السيد والوضيع، والصالح والطالح في المصير، بعد أن اشتركا في مواجهة الحقيقة الوحيدة المؤكدة، ونعني الموت "فالتفكير في الحياة الأخرى أو الوجود بعد الموت تأكيد على أهمية الحياة نفسها، فلو أن حياة البشر انتهت بموتهم لكانت الحياة نوعا من العبث الذي لا معنى له ولا هدف"(7) .
يبقى لأسطورة العالم الآخر في أدبيات هوميروس خصائصها المتميزة، فأول ما يميزها هو إعلاء شأن البطل الفرد، فلم تعرف العقلية اليونانية فكرة البعث الجماعي، وظلت الرحلة البحرية أهم ما يطبع الأساطير الأخروية في الأدبيات اليونانية، أضف إلى ذلك البعد الفلسفي التأملي لهذه الأسطورة التي كانت نواة أساسية لعدة فلسفات وعقائد كالعقيدة الأورفية، وفلسفة المثل الأفلاطونية، كما تميزت هذه الأسطورة بطابعها القصصي الدرامي مما جعلها لبنة خاصة في أدبيات الإغريق بصفة عامة، وملاحمهم بصفة خاصة.
العالم الآخر في الإنياذة :
دأب الدارسون على اعتبار الأدب اللاتيني محاكاة بديعة للأدب اليوناني، ولعل في إنياذة فرجيل (89 ق.م-19 ق.م) ما يؤكد ذلك، ففي الكتاب السادس يقوم بطله آنياس برحلة إلى العالم الآخر، إذ التقى ربان سفينة الموتى التي تنقلهم إلى العالم السفلي، وصادف الكلب ذا الرؤوس الثلاث (كيربيوس) الذي يحول دون دخول الأحياء إلى عالم الأموات، ودون عودة الأموات إلى دنياهم، وهناك يقابل الناس الذين لم يدفنوا، والمنتحرين، ويرى حقل الدموع وفيه موتى الحب، وعلى رأسهم حبيبته "ديدو" التي انتحرت بعد أن عانت من حب يائس، كما التقى بالأبطال الذين سقطوا في ساحة الوغى، ثم يلقي آنياس بالغصن المقدس في نهر (ستيكس) ليعبره، فيلتقي بوالده (إنشيريس)، الذي يقدم له الأرواح التي ستهبط للدار الدنيا، ومنهم العظماء الرومانيون من سلالته، ثم يعبر ذلك العالم مع الشاعر (موزيوس) الذي كان يصحبه في رحلته، ويترك الباب العاجي الذي يفصل العالم السفلي عن عالمنا.
تنتهي الرحلة الخيالية للعالم الآخر في نص فرجيل بعد أن جال ببطله آنياس في العالم السفلي-على غرار ما فعل أوديسيوس في ملحمة هوميروس- ، ولعل أهم ما يمكن أن نستشفه من أسطورة العالم الآخر في الإنياذة ما يلي:
- تترجم هذه الأسطورة تصورات الرومان حول مصيرهم بعد الموت، إذ اعتقدوا بوجود حياة أخرى يحياها الأموات في عالم خاص بهم، كما تعكس هذه الأسطورة بعض المواقف الاجتماعية السائدة في عصر فرجيل، فتُصوّر موقف المجتمع ، يشاهد آنياس شارونSharon ربان سفينة الموتى التي يتدافع نحوها جموع غفيرة من الموتى " تتدافع تلك الحشود وهي تمدّ أيديها تضرعا ولهفة تستعجل الركوب لتكون أول من يصل إلى الشاطئ الآخر ، ويسمح ربان السفينة الرهيب لهؤلاء وأولئك بالركوب ، ولكن يحول دون ركوب الباقين"(8)
يستفسر آنياس عن الأمر فتجيبه سبيل بقولها " هذان النهران هما كوسيتوس Cosytus وستيكس Styx ،وتخشى الآلهة أن يقسم بهما زورا ،وهؤلاء الجموع التي تراها هي أرواح الذين لم يدفنوا ، أما الذين ركبوا سفينة الموتى فهم الذين حظيوا بمراسيم الدفن(9)
تدلّ هذه المقاطع على رؤية مفادها إيمان الرومان بتداخل علم الأحياء مع عالم الأموات الذين ذاقوا ذرعا بمصيرهم المشؤوم ، فيحاولون الانتقام من الأحياء من خلال زيارتهم الكريهة لهم بين الحين والآخر، لذا أصرّت العقلية الرومانية على وضح حدّ لهذا التداخل غير المرغوب فيه ، فشدّدت على وجوب أداء مراسيم الدفن ، وحذّرت من مغبّة خرق هذا القانون الاجتماعي حين جعلت أرواح الذين لا يدفنون تتيه مئات السنين قبل أن تهتدي إلى مثواها الأخير.
- تتضح فكرة الثواب والعقاب في إنياذة فرجيل بشكل أفضل مما وجدناه في أوديسة هوميروس، فالمخطئون ليس هم الذين أخلّوا بالأمر الإلهي فحسب، بل هم أيضا الذين أساؤوا للتقاليد الاجتماعية، واخترقوا قانون (الدولة)، يقول آنياس: "هنا يقبع أولئك الذين كرهوا إخوانهم ، أو ضربوا آباءهم ، أو سرقوا عرق جبين زبائنهم ، أو الذين احتفظوا بالثروة والمواشي لأنفسهم ، ولم يقسموها مع صغارهم ، وأولئك الذين ناصروا حربا غير عادلة ، أو لم يتهيبوا من فك رباط الإخلاص لأسيادهم .......فبعضهم يدحرج حجارة ضخمة دون توقف ، وبعضهم شدّ إلى دواليب العجلات "(10)
- تدل هذه الرؤية النوعية للعالم الآخر على تداخل الديني بالاجتماعي، والأخلاقي بالسياسي، فلم يعد العالم الآخر معتقدا دينيا يقتصر على علاقة الإنسان بالآلهة فحسب، بل أضحى جزءا من الوعي الاجتماعي، فمن أساء إلى وليه أو سيده فقد اخترق عدالة السماء وحكم الأرباب،"فالجديد في التارتار الفرجيلي أنه حشد عددا ضخما من البخلاء الذين جمعوا الثروات وحرموا غيرهم منها، والذين قتلوا بسبب الزنا، والزنادقة الذين تمرّدوا على ديانة أسيادهم، والجديد كذلك أن العذاب يبدو أبديا"(11)
تبدو قراءة الكتاب السادس من الإنياذة معزولا عن النص مبتسرة، ومحدودة الدلالات، لذا سنعيد قراءته في سياق الملحمة بأكملها. تتكون الإنياذة من اثني عشر كتابا، دأب الدارسون على تقسيمها على قسمين رئيسيين: يشمل القسم الأول الكتب الست الأولى (1-6) ويصور رحلة آنياس نحو إيطاليا، ويشمل القسم الثاني الكتب الست الأخيرة (7-12)، وفيه يصف فرجيل وصول بطله إلى غربي إيطاليا حيث أسست سلالته روما، وبعبارة أخرى تحكي الإنياذة مغامرات آنياس باعتباره جدا ومؤسسا للسلالة الرومانية.
إذًا، لم تكن تجارب آنياس سوى محنا واختبارات أُبتلي بها كي يثبت كفاءته وقدرته على أن يحقق قدره الإلهي ورسالته الحضارية لذا لم تكن زيارته للعالم السفلي سوى حلقة من سلسلة الاختبارات التي صقلت موهبته، وفتقت وعيه بدوره الحضاري، فقبل رحلته الأخروية كان آنياس شخصية انقيادية تسيرها القوة الغيبية كما تشاء.
بعد أن نزل آنياس إلى العالم السفلي، واجه أشباح الماضي فتعرف على أخطائه وذنوبه، والأهم من ذلك تخلص من بقايا ذكرياته العاطفية ونعني بذلك حبه لديدو، وإحساسه بالذنب لموتها انتحارا، يواجهها قائلا:"آه يا ديدو الشقية ؟؟هل صدق الرسول حقا حين أعلمني بأنك وضعت حدّا لحياتك ؟ وهل كنت أنا السبب في موتك ؟ أقسم لك بالنجوم ، وبآلهة السماء ، وبكل ما هو مقدّس في هذه البقعة من الأرض بأني يا مليكتي أبحرت من الشاطئ بأمر إلهي أجبرني على الرحيل"(12) .
بعد هذه المواجهة التطهيرية من "الماضي" يلتقي آنياس أباه الذي يقدم له استعراضا تنبؤيّا بتاريخ روما، ولم يترك إنشيريس ابنه يعود إلى عالم الأحياء إلاّ بعد أن ألهب حماسه بالمجد القادم "ومن هنا فقط يتحول قبول آنياس السلبي-أي الاستسلام لقدره- إلى نشاط إيجابي، ومبادرة دافعة وفاعلة نحو تحقيق النصر"(13)
من العالم السفلي "بُعث" آنياس إنسانا جديدا، قرأ ماضيه قراءة واعية، واستشرف المستقبل استشرافا بيّناً، لذا أصبح أكثر إيمانا بثقل المسؤولية الملقاة على كاهله، وأكثر استعدادا ليكون في مستوى الدور البطولي الذي أوكلته إليه الآلهة، لذا كان الكتاب السادس -المتعلق بنزول آنياس إلى العالم السفلي- نقطة انعطاف في تطور أحداث الملحمة من جهة، وعلامة فارقة في بناء شخصية البطل من جهة ثانية "كان آنياس يسير وفق خطة القدر في البداية، فعل ذلك طاعة لوالده، ورويدا رويدا صار الأمر عنده تلقائيا، ثم وصل في النهاية إلى مرحلة الوعي بالقدر (...) وهكذا تتطور شخصية آنياس، ويعاني خلال مراحل التطور هذه، لأن المعاناة هي جوهر هذه الحياة الدنيا"(14)
إذا بحثنا عن الآثار الهوميرية في ملحمة فرجيل نجدها تتجلى بدءا من العنوان، الذي يقارب لفظيا وصوتيا (الإلياذة)، وإذا انتقلنا إلى المتن الملحمي نجد مغامرات آنياس شديدة الشبه بمغامرات أوديسيوس، سواء في طابعها البحري، أو أجوائها الوثنية، أو تفاصيلها العجيبة، لذا دأب الدارسون على مقابلة القسم الأول من الإنياذة بالأوديسة –أي الرحلة إلى الوطن- ومقابلة القسم الثاني بالإلياذة –أي الحرب من اجل الوطن- فكأن فرجيل يدفعنا دفعا إلى أن نرى في آنياس (أوديسيوس) جديدا، " ولكنه يتحدانا بأن يضع الفوارق بين هذين البطلين (...) فإذا كان أبطال هوميروس أفرادا نموذجيين، فإن آنياس فرجيل هو الممثل المثالي للشعب الروماني، ومن ثمة فهو يفتقد الخصوصية الفردية، وبوصفه تجسيدا للنموذج الروماني نجده دائما واسع الأفق، وشديد الورع، والإحساس بالواجب"(15)
وختاما لهذه المقارنة المتواضعة بين الملحمتين، نذكر أن صورة العالم الآخر في ملحمة فرجيل كانت أكثر وضوحا في شكلها الهندسي من مثيلتها في نص هوميروس، بل وكانت أكثر التصاقا بتطورات أحداث الملحمة، وتكوين شخصية البطل فنيا، ورصد معتقدات المجتمع الروماني حول الموت والبعث.
العالم الآخر في الكوميديا الإلهية:
استمر مفكرو العصر الوسيط في استلهام أسطورة العالم الآخر في مروياتهم الشفوية وفي كتاباتهم، وقد أذكت الكنيسة شرارة هذا الموضوع، مما زاده أوّارا فيما يسمى "أدبيات" القساوسة والقديسين، ونحن نستعمل مصطلح "أدب" في هذا السياق بتحفظ شديد، إذ كان هذا المصطلح أوسع مما يعنيه في الدرس النقدي الراهن، فقد كان يستوعب كل الكتابات الدينية، والتاريخية، والفلسفية، وحتى القانونية، بل كان "الأدب"يعني آنذاك كل ما هو "مكتوب"، لذا اتسع مفهوم الأدب الأخروي ليشمل رؤى القساوسة ورحلاتهم الخيالية إلى العالم الآخر، ومثال ذلك رؤيا شارل لوجرو (Charles Le Gros) "التي رأى فيها أباه في الجنة، يطلب منه الثأر من قاتليه، كما قابل خاله الذي أمره بإعطاء التاج للملك لويس الثالث"(16)
تعد هذه الوثائق مجرد تصورات خيالية راجت في العصور الوسطى بإيعاز من الكنيسة، التي حاولت تثبيت سلطانها من خلال امتلاكها هذه الأسطورة، وقد نفى هيرمان بيرت عن تلك الكاتبات صفة "الأدبية"، وحجته في ذلك "أن هذه النصوص أخذ بعضها من بعض، وأن أكثر الأوصاف فيها ليست سوى إعادة تركيب للعناصر الموجودة قبلا، وينتهي الكاتب إلى أن كل كتابة في العصور الوسطى هي بشكل ما نموذجية، وتقليدية"(17) لذا ارتأينا أن نمثل لهذه الأسطورة بنص متميز لا يرتقي شك إلى أدبيته، وانتمائه إلى الأدب الأخروي في آن واحد، ونعني بذلك "الكوميديا الإلهية" للشاعر الإيطالي دانتي أليجيري (1265-1331م).
كتب دانتي ملحمته الشهيرة في ما بين 1308م و1320م، وأطلق عليها الكوميديا، أما نعتها بـ"الإلهية"، فألحق بها في القرن السادس عشر، وقد كتبها باللغة الإيطالية، لغة العامة، وهي وصف لرحلة خيالية قام بها الشاعر نفسه إلى العالم الآخر بأجزائه المسيحية الثلاثة: الجحيم- المطهر- الفردوس، ويضم كل نشيد من هذه الأناشيد الثلاثة ثلاثا وثلاثين أنشودة، يضاف إليها مدخل الجحيم، فتصبح كلها مئة أنشودة، واستغرقت هذه الرحلة الخيالية في نظر أغلب النقاد سبعة أيام.
يفتتح الشاعر ملحمته بباب جهنم، فصوّر نفسه وسط غابة موحشة وقد اعترضته ثلاثة وحوش زادت من عذابه ورعبه، لكن سرعان ما يظهر الشاعر اللاتيني فرجيل الذي يأخذ بيده وهو يجوب دهاليز الجحيم ليبدآ معا رحلتهما إلى العالم الآخر.
في الجزء الأول "الجحيم" يصور دانتي عذابات الخونة، والمنتحرين، والمرابين، والهراطقة، والزناة، والخبثاء، وغيرهم من مرتكبي الآثام، وقسمهم جغرافيا إلى تسع حلقات.
أما المطهر فهو مكان وسطي بين الجحيم والفردوس، وفيه يكفّر المذنبون عن سيئاتهم، ويختلف هؤلاء عن مذنبي الجحيم بأنهم تائبون، وكلما تطهرت نفس أحدهم من أدرانها حلقت عاليا إلى عالم الخلد، فيهتز الجبل وهو ذو سبع دوائر، وفي قمته الجنة الأرضية حيث تظهر (بياتريشه) حبيبة الشاعر في طفولته، "فيترك دانتي دليله الشاعر فرجيل، وينتقل مع محبوبته يجوبان السماوات السبع، ذات النجوم المتحركة حتى يصلا إلى السماء الثامنة، وهي عرش الرحمن، حولها تسع دوائر من لهب، فيها بوقات الملائكة تسبح بحمد الله وعظمته في ألوان ومظاهر تبهر، ثم السماء العاشرة أرفع منطقة تسكنها الأرواح الخالدة"(18) .
حافظ دانتي على معظم موتيفات أسطورة العالم الآخر، فنجد الرحلة- العالم السفلي- النار- الدليل- صور رهيبة من العذاب- الخضرة- الماء- الكلب سربروس- شارون ربان سفينة الموتى...إلخ، ولكنه في المقابل جعلها رحلة شخصية داخل تجاويف النفس البشرية، وسراديب البنية الضميرية للعقلية الوسيطية –نسبة إلى العصور الوسطى- إذ أودع فيها دانتي آماله وآلامه، نجاحاته وإخفاقاته، يقينه وشكوكه، كما ضمّنها معارفه الفلسفية، والدينية، والأخلاقية، لذا نجد فيها صدى أخلاقيات أرسطو، وفلسفة توما الإكويني، وجغرافية بطليموس، وخرافات العصور الوسطى، ويمكن أن نمثل لذلك بما يلي:
في بداية الرحلة يقابل دانتي ثلاثة وحوش؛ الفهدة، والذئبة، والأسد، وهن على التوالي رمز ملذات الجسد، والجشع، والكبرياء، فتهب لمساعدته العذارى الثلاثة؛ ماريا، ولوتشي، وبياتريشا "تمثل ماريا النعمة الإلهية، وتمثل لوتشي النعمة المضيئة، وتمثل بياتريشا الحقيقة العليا، وهي كلها ضرورية لكي يخرج الإنسان من حياة الخطيئة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعل ذلك بدونها، وتأثر دانتي في هذه الفكرة برأي القديس توما الإكويني فيلسوف العصور الوسطى في المجموعة اللاهوتية"(19) ، ويتكرر صدى أفكار هذا الفيلسوف حين جعل دانتي الأموات يرون المستقبل دون الحاضر، فهذا الوطني (فارينانا) يرى مستقبل فلورنسا في حين أنه يجهل إن كان ابنه حيا أو ميتا "وقد تأثر دانتي في هذا الرأي بتوما الإكويني في أن النفس تعرف الماضي، وتدرك المستقبل لكنها تجهل الحاضر"(20)، وكلما ازداد دانتي نزولا إلى الجحيم زادت بصيرته نفاذا في أعماق النفس البشرية، مستنيرا في ذلك بثقافته الفلسفية، فهو يصنف المذنبين إلى درجات أو بالأحرى إلى دركات مستهديا برأي أرسطو في تفاوت درجات الخطايا "قال[فرجيل] لـي[دانتي]: لماذا يحيد عقلك بعيدا عن مألوف صوابه؟ أم هل اتجه عقلك وجهة أخرى؟
ألا تذكر تلك الكلمات التي يتناول فيها كتابك عن الأخلاق الاتجاهات الثلاثة التي لا تريدها السماء:
الجشع، والحقد، والبهيمية المجنونة، وكيف أن الجشِع تقل إساءته إلى الله، ويستحق لوما أهون"(21)
لم يرسم دانتي جغرافية العالم الآخر بناء على ثقافته المعرفية فحسب، بل اتكأ على آرائه الشخصية أيضا، فهاهو يضع الهراطقة في مدينة خاصة، اسمها "ديس"، وبذلك عزلهم عن باقي الآثمين، وكأنه يعبر عن احترامه لأفكارهم، ووجهات نظرهم، وإن خالفهم في العقيدة، وتزداد "ذاتية" الشاعر تأثيرا في تحديد سكان العالم الآخر حين جعل بياتريشا، حبيبته في الطفولة، هي دليله في الفردوس، وكأنه بذلك يفي بوعد قطعه في شبابه بأن يخلد حبيبته في عمل أدبي، لا يمحو ذكراها من عقل القارئ وقلبه مهما أوغل النص في قدمه.
حقق دانتي في "العالم الآخر" ما لم يستطع أن يحققه في دنياه، إذ أروى نفسه الظامئة إلى الحب، وانتقم من أعدائه السياسيين، وعلى رأسهم غريمه (فيليبو أرجنتي) إذ وصفه وصفا قبيحا، وتركه غاطسا في أوحال الهاوية:
"كم هناك أناس يحسبون أنفسهم ملوكا وعظاما، وسيصيرون هنا [في الجحيم] كالخنازير في الوحل، تاركين وراءهم الاحتقار الشنيع!
قلت [دانتي]: كم تحدوني يا أستاذي [فرجيل] الرغبة في أن أراه غاطسا في هذا الدنس قبل أن يخرج من هذه البحيرة!
قال لي: ستكون راضيا قبل أن تتاح لك رؤية الشاطئ، ويجدر أن تتمتع بهذه الرغبة"(22)
إذا كان العالم الآخر في التصور الأسطوري هو فرصة الإنسان ليعوّض ما حرمه من مأكل ومشرب، فإنه في الكوميديا فرصة الشاعر ليحقق ما حُرمه من مكانة أدبية، واجتماعية، وسياسية، فهاهو دانتي يحظى بإكرام وتبشير كبيرين على يد هوميروس وهوراس وغيرهما"ذلك هوميروس أمير الشعراء، والآخر الذي يأتي من بعده هو هوراتيوس الساحر، والثالث أوفيدوس، والآخر لوكانوس (...) وبعد أن تحادثوا معا قليلا، التفتوا إلي بإيماء التحية، فابتسم أستاذي لذلك، وأضفوا علي فوق ذلك مجدا أعظم لأنهم جعلوني واحدا من زمرتهم، فأصبحت السادس بين هؤلاء الحكماء"(23)
أراد دانتي أن تكون الكوميديا قصيدة الإنسانية الكبرى، لا تقنع بوصف الحاضر، بل تحاول أن تستشرف المستقبل لتؤكد مقولة أن الشاعر نبي بما يمتلكه من نفاذ بصيرة، تستطيع أن تخترق حجب الغيب، وتقرأ سطور المستقبل، انطلاقا من هذه القناعة لم يتردد دانتي في أن يلقي بالبابا إلى أعماق الجحيم متحدّيا أعراف عصره التي تنظر إلى البابا بعين التقديس والإجلال، بل تراه ظل الله في أرضه، تجاوز دانتي هذه السنن الاجتماعية، ورأى بعين الشاعر والسياسي معا أن عهد الكنيسة في أفول، وأن "البابا" سلطة آيلة للسقوط، وبذلك عجّل دانتي نهاية العصور الوسطى ليبدأ عهد جديد "عهد النهضة".
لم تكن هذه "اللفتة النوعية" نشازا أو استثناء في رؤية دانتي الفكرية والفنية، إذ استطاع أن يسبق أدباء عصر النهضة في خلق شخصيات حية، تعيش آلامها، وضعفها، وعذابها بكل صدق وواقعية، ويتضح هذا الأمر جليا حين تعاطف مع (فرانتيسكا) المحبة الآثمة، فقد صورها شخصية واقعية، تتنازعها رغباتها الآثمة، وطباعها الخيرة "فهي مثل أعلى للإنسان الحي، الحديث، الواقعي بخيره وشره (...) وهكذا حطّم دانتي أبا الهول، وكسر القيود السابقة، وخرج على تقاليد العصور الوسطى، وتغلغل في صميم الحياة الواقعية، وصور الإنسان الحديث"(24)، وبذلك يكون قد سبق شكسبير وغوته في رسم نماذج بشرية حية، بعيدا عن القوالب النمطية الجاهزة التي عرفت في عصره وما قبل عصره.
كانت الكوميديا الإلهية رحلة داخل أعماق النفس البشرية، فرغم كثرة صور العذاب البشري، وبشاعة أشكاله، فإن العذاب الحقيقي هو عذاب النفس، لذا كانت أشهر أبيات الكوميديا ما كتب على باب الجحيم "أيها الداخلون اطرحوا أي أمل لكم" التي لخصت ما يحتويه الجحيم قبل الدخول إليه، والتعرف على تفاصيله الرهيبة التي تعكس ما عرف عن دانتي من الصرامة الفكرية المنطقية، والرمزية الموحية مع التزمت العقدي.
عموما يمثل "الجحيم الشباب الحر، الطليق، المتكبر، الثائر، وتصور الفطرة البشرية، والغرائز الإنسانية، وهي الخطيئة، والعذاب، والمأساة، والحياة الدنيا، ويمثل المطهر التجربة، والنضج، والفكر، والتوبة، والتطهر، والأمل، ويصور الفردوس الكهولة، والطهارة، والصفاء، والحرية، والخلاص، والنور الإلهي"(25)
عرفت أسطورة العالم الآخر بعد دانتي مخاضا عسرا، فاحتوت في رحمها تناقضات عصر النهضة، و كان الخطاب الديني الذي تبنى هذه الأسطورة تبنيا وجوديا يخوض معركة مصيرية بسبب الهزات العلمية، والجغرافية، والفكرية التي شهدها عصر النهضة والتنوير، ويمكن أن نوضح هذه الهزات التي جعلت الإنسان الأوروبي يعيد النظر في هذه الأسطورة كما يلي:
دينيا:
انطلقت أول مظاهر التمرد على الكنيسة من عقر دارها، إذ ظهرت حركات دينية إصلاحية كالبروتستانتية، والكالفينية، واللوثرية تدعو إلى "تطهير" الكنيسة من مفاسدها، ومن مقوماتها الطقسية المعقدة، واحتجت على حياة القساوسة الرغيدة التي تتعارض مع الثالوث اليسوعي الفقر، والعفة، والتواضع، والأهم من هذا كله، أنها شجعت الإنسان على أن يتعرف على الله دون وساطة أي أحد، لذا كانت ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغات الأوربية حدثا تاريخيا، لأنه يساعد الفرد على أن يقرأ كلام الله بمفرده، ويؤوله حسب ثقافته الخاصة دون أي وصاية روحية أو معرفية، وبذلك بدأت الكنيسة تفقد تدريجيا سلطة "المعرفة المطلقة" التي تتذرع بها في تقرير مصير الناس" فقد احتج الإصلاحيون ضدّ سلطة قائدهم الروحي، ونعني "البابا" الذي لم يجدوا له أيّ مبرر شرعي في الكتاب المقدس ، كما احتجوا ضدّ سلطة أعوانه الرهبان الذين تورّط أغلبهم في قضايا فساد ، كما أظهروا جهلا مطبقا بالدين"(26).
علميا:
امتد سلطان الكنيسة على أوربا مدة تقارب الألف عام، فغرست في العقول نزعة زهدية، تعتبر إنكار الذات مثلا أعلى، لذا لم يكن هناك أي دافع أو تشجيع على تحسين الأوضاع الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وكانت الاهتمامات العلمية منصبة على المقولات المنطقية المجردة، والتساؤلات الميتافيزيقية البعيدة عن حياة الناس العامة.
بظهور "الكوبرنكية" صار الاهتمام بالعلوم الدنيوية كبيرا، وذهب دافيد هيوم إلى القول "إن المعارف إما أن تكون صورية مثل المنطق والرياضة البحتة، أو تخبر عن أمور الواقع، وتتأسس بالتالي على الملاحظة والتجربة، وما عدا ذاك فهو لغو فارغ من المعنى"(27) وجاء نيوتن بمبدأ الجاذبية ليعزز قيمة الفيزياء والرياضيات، وقرأ الطبيعة قراءة رياضية "حين اكتشف أنّ الكون ليس لغزا تحركه أهواء إله مبهم بل هو تركيبة تشتغل من خلال معادلة عقلانية يمكن أن يفهمها أي رجل وامرأة ذكيين " (28) .
قلّصت هذه الأفكار من سلطة الكنيسة التي سيطرت على المنظومة العلمية ردحا طويلا من الزمن " فقد تخلصت الإنسانية أخيرا من أسر الغموض حين وضع نيوتن قانونا رياضيا جديدا يستطيع أن يحسب حركات الأمواج ،والأرض وحتى النجوم،إنها بداية العلم الحديث حيث ضعف إيمان الإنسان بالخوارق والكتب المقدسة ،وشرعية الملوك والرهبان"(29)
وتطلع التنويريون إلى أن ينجزوا في مجال الدراسات الإنسانية ما أنجزه نيوتن وكوبرنيكس في مجالي الطبيعة والفلك، فأعادوا قراءة الإنسان قراءة علمية، تربطه بالمؤثرات الاجتماعية والتاريخية التي يؤثر فيها، ويتأثر بها، لذا ظهر علم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس وغيرها من العلوم الإنسانية التي تعتمد التجربة، والملاحظة، والمقارنة، وتستبعد التأمل الميتافيزيقي، والبحث عن العلل النهائية ،وامتدّ سلطان الإنسانيين إلى الفنون"التي لم تعد تقتصر على المواضيع الدينية وعلى العالم السماوي ، بدأ الفنانون وأسيادهم يبدون اهتماما متزايدا بالعالم الأرضي وبالإنسان الأرضي ،وأصبحت الموسيقى الجميلة تسمع خارج الكنيسة بعد أن كانت تسمع داخل جدرانها (...) بدأ الرسامون يعرضون الجسم البشري ووجه الإنسان بشكل أكثر واقعية ،ورسموا صورا أقل للأبدية ،والسماء، والملائكة.."(30).
وتعززت قيمة "الفرد" أو "الإنسان" شيئا فشيئا، وتحرر من روابطه بالسماء من خلال القيم التي أرساها التنويريون، كاستقلالية الإنسان الأخلاقية ، وشجاعة الاعتماد على الذات، وتأثره بالطبيعة والمجتمع وتأثيره فيهما، وذهب كانط إلى "أن الإنسان كائن مستقل ذاتيا، ذو التزامات نابعة من داخله، أي من الإحساس الداخلي بالواجب، لا من سلطة خارجية أو إلزام ديني(...) فالسلوك الأخلاقي يكشف لنا ذلك، والقاعدة التي يتحدد بها السلوك الأخلاقي هي ما إذا كان المبدأ الذي أسلك وفقا له يصلح لأن يكون مبدأ عاما لكل الناس"(31) ، وبالتالي لا مجال للحديث عن الثواب والعقاب، أو الجنة والنار.
جغرافيا:
لم يكن موضوع "الإنسان" أو "الفردية" مجال نقاش نظري تتداوله النخبة فيما بينها، بل كان موضوعا عمليا، ترجمته الرحلات البحرية، والكشوفات الجغرافية، فقد ضاق الناس بالثالوث اليسوعي فراحوا يبحثون عن عالم أفضل، وابتدأت المغامرة بالحروب الصليبية التي فتحت عيون الناس على جمال الشرق وسحره، وخاصة الهند الذي كان مصدرا لصور خيالية عن الفردوس بما يحتويه من ثروات طبيعية هائلة كالعاج، والتوابل، والأحجار الكريمة، ونشّطت الكنيسة –في إطار الحروب الصليبية- الاعتقاد بأن جنة عدن موجودة في مكان ما من الشرق، فقد ورد في الكتاب المقدس "وغرس الرب الإله في عدن شرقا"(32) ، فانطلقت الرحلات البحرية ساعية لأن تحول الممكن الواقعي إلى ممكن فعلي، أي الموجود بالقوة إلى الموجود بالفعل بمحاولتها الوصول إلى الأرض الموعودة، الأرض التي تفيض لبنا وعسلا.
اقترن الدافع الاقتصادي بالدافع الديني، إذ خاض النبلاء الإسبان رحلات بحرية طويلة بحثا عن الإلدورادو التي ستحولهم إلى أثرياء بين عشية وضحاها، وظلت الأنظار متجهة إلى الشرق بحثا عن عدن إلى أن اكتشف كولومبس أمريكا، فحطم بذلك أسطورة بحر الظلمات –المحيط الأطلسي- "أكّد كولومبس في خطاباته للملكة الإسبانية أنه وصل إلى الأرض الجديدة، والسماء الجديدة، بل ودعّم اعتقاده بنصوص من الكتاب المقدس (كنت في عدن جنة الله)"(33)
تعددت وجهات النظر إلى حادثة اكتشاف العالم الجديد، فهي بالنسبة إلى الجغرافي اكتشاف النصف المجهول من الكرة الأرضية، وبالنسبة إلى رجل الدين إرادة الرب في تنصير أمريكا، وبالنسبة إلى التاجر مصدر جديد للعبيد والنقود، وبالنسبة إلى هؤلاء جميعا "تحولت أمريكا إلى فردوس مأمول يعوض الفردوس المفقود، وانزرعت في المخيلة الأوربية والعالمية فيما بعد وانبنت على شكل الحلم الأمريكي الذي كثيرا ما نسيت محسوسيّته، وتحول إلى مجرد رمز تماما مثل جنة عدن"(34)
ربط أدباء العصر الكولنيالي أمريكا بالفردوس أحيانا، والفردوس بأمريكا أحيانا أخرى، فلم يستلهموا صورهم الوصفية من الكتاب المقدس، ولا من الخيال بل استلهموها من الواقع العيني، وكانت هذه الرؤية الجديدة أول خطوات الأدب نحو الواقعية، فما حاجة الأدباء إلى الخيال وقد أضحى الحلم حقيقة، والخيال واقعا ملموسا. لم ينتظر المغامر الأوربي جنة السماء التي وعدت بها الكنيسة، بل راح يبحث عنها بنفسه، وقد عززت هذه الكشوفات ثقته بنفسه، ونظرته المتعالية لذاته.
اقتصاديا:
أدت الاكتشافات الجغرافية إلى تنشيط حركة التجارة، وتدفق الأموال، ومال التجار المتجولون إلى الاستقرار، فبنوا الدكاكين حول القلاع، وشيئا فشيئا تطورت تلك التجمعات إلى ما يسمى بـ"المدن" أو "البورج"، والساكن فيها هو البورجوازي الذي سعى إلى كسر الشرائع القديمة التي تعوق حركته، لذا خاض حربا ضروسا مع الكنيسة التي حرمت الربا أو ما يسميه التاجر البرجوازي فائدة، فلم يخف من نار السماء، ولا طمع في جنتها، بل راح يبني مدينته على هواه "وهكذا ابتدأ عصر المدينة والصناعة، عصر تقدم الاكتشافات الجغرافية، وبناء الدولة، وتوسيع السوق القومية، وشيئا فشيئا كانت الثورة العلمية تحقق نفسها، ومع تحققها تتحقق مدن جديدة وعوالم جديدة"(35)
كانت هذه أهم التطورات التي حدثت بين زمن كتابة الكوميديا الإلهية لدانتي وزمن كتابة الفردوس المفقود لجون ملتون التي أدت إلى تغير نوعي في رؤية الأوربيين لأسطورة العالم الآخر، والسؤال الآن هو: ما هي انعكاسات هذه التطورات على رؤية الأديب الأوربي لهذه الأسطورة؟ سيكون الجواب واضحا من خلال قراءتنا للفردوس المفقود لجون ملتون، وبعض النصوص الأوربية الحديثة:
العالم الآخر في الفردوس المفقود:
قسم جون ملتون (1608-1674) ملحمته الشهيرة الفردوس المفقود إلى اثني عشرة كتابا، مقتفيا آثار فرجيل في "الإنياذة"، تعالج الملحمة موضوع سقوط الإنسان بسبب إغواء الشيطان الذي حرمه من الفردوس، يختزل ميلتون مأساة الإنسان في بضع كلمات حين يقول:
Of Mans First Disobedience,and the Fruit
Of that Forbidden Tree, whose mortal tast
Brought Death into the World,and all our woe
With loss of EDEN, till one greater Man
Restore us, and regain the blissful Seat
Sing Heav'nly Muse…"(36)
بعد هذا الاستهلال الحزين -الذي يحاكي فيه ملتون غضبة أخيليوس في الإلياذة- تتسارع إيقاعات الكتاب الأول، فيصف ملتون الشيطان وقد طرد مع رفاقه إلى الجحيم، فيتطارحون أمر سقوطهم المخجل، ويواسيهم إبليس بأن الأمل قائم في استعادة الفردوس، كما يتناقشون آخر الأنباء التي تدور حول خلق "كائن جديد"، ونوع جديد من المخلوقات مما يحيل الكتاب الأول إلى مؤتمر عام موضوعه هذا الكائن الجديد.
يناقش الكتاب الثاني موضوع الحرب التي يعتزم إبليس ورفاقه شنّها لاستعادة الفردوس، وبعد سجال طويل يتفق الجميع على أن يذهب إبليس بمفرده للتحقق من نبوءة هذا الكائن، ويتمكن بمشقة من الوصول إلى هذا العالم الذي ينشده.
في الكتاب الثالث نرى الرب جالسا على عرشه، يراقب إبليس وهو يطير نحو العالم الذي خلق حديثا، فيعلن مسبقا بأن إبليس سينجح في غواية الإنسان، ويجيب عن أسئلة جلسائه حول عدالته وحكمته من خلق الإنسان حرا وقادرا على فعل الخير والشر في آن واحد، كما يعلن الرب نيته في الصفح عن الإنسان –بعد أن يخطئ- فيسبح الابن "المسيح" حمدا وفرحا لهذه الهبة، لكن سرعان ما يظهر الرب أن الغفران ليس مجانيا، بل لابد من شخص يتحمل وزر الخطيئة، فيتطوع المسيح بأن يقدم نفسه فداء، ويتقبل الرب منه ذلك، وأثناء ذلك يهبط إبليس إلى فلك الشمس، فيتخذ صورة ملاك أدنى، ويقنع "أوريل" حاكم ذلك الفلك بأنه يتحرق شوقا لرؤية ذلك المخلوق الجديد.
في الكتاب الرابع نرى إبليس على مقربة من عدن، وقد ساورته مشاعر الخوف، واليأس، والندم، والحسد، لكنه في الأخير يقر أن يتخذ الشر دينا، ويدخل إلى الفردوس، ويطنب في وصف مظهرها وموقعها، يقترب إبليس أكثر، فيرى آدم وحواء مثالا للكمال والروعة، يسترق السمع إليهما، فيعلم خبر الشجرة المحرمة، ثم يسارع بالخروج بعد أن علم جبريل بأمر تسلله إلى الفردوس.
في الكتاب الخامس تقص حواء على آدم حلما أزعجها، إذ رأت أن كائنا غريبا قادها إلى الشجرة المحرمة، وحرضها على تذوق ثمرتها الشهية، يطمئنها آدم، ويمضيان إلى صلواتهما وسرعان ما اتصل بهما رفاييل ليحذرهما من كيد الشيطان، ويؤكد لهما أن الرب خلقهما أحرارا، يوصل رفاييل رسالة الرب كاملة، ويقص على آدم خبر إبليس ورفاقه الذي انتهى بإلقائهم إلى قاع الجحيم، وعزمهم على الانتقام من "الجبار" بواسطة آدم وحواء.
في الكتاب السادس يواصل رفاييل تفاصيل معركة إبليس وأتبعه مع جبريل وميكائيل، وقد ختمت المعركة بتدخّل المسيح الذي ألقى بإبليس وأتباعه إلى الهوة السحيقة المعدّة لعقابهم، في الكتاب السابع يقص رفاييل على آدم قصة خلق العالم الذي تمّ في ستة أيام، وفي الكتاب الثامن يزداد آدم شغفا بمعرفة المزيد عن العالم، فيجيبه رفاييل إلى ذلك ثم يرحل عنه بعد أن يكرر تحذيره من إغواء إبليس.
في الكتاب التاسع، يتنكر إبليس في صورة ثعبان، ويقابل حواء التي رفضت أن يرافقها آدم حتى تثبت له قدرتها على العمل بمفردها، وعلى مواجهة أكاذيب الشيطان، يتملقها إبليس طويلا، ويتوسل إليها بشتى الحيل حتى يقنعها آخر الأمر بالأكل من الشجرة المحرمة، وسرعان ما تحمل ثمارها إلى آدم الذي تردد قليلا في البداية، ثم لم يلبث أن أكل منها حتى لا تضيع منه" حواءه "، ولنستمع إلى حواء تخطط لإغواء آدم معتمدة على سحرها الأنثوي، ورغبتها في تقاسم ثمار المعرفة مع آدم فهي لا تقنع بتحصيل المعرفة واحتكارها دون شريك تتذوق معه حلاوة الثمرة، وتقاسمه مرارة الذنب:
"…But to Adam in what sort
Shall I apper? Shall I to him make known
As yet my change, and give him to partake
Full happiness with me, or rather not
But keep the odds of knowledge in my power
Without copartner? So to add what wants
In female sex, the more draw his love… "(37)
ويلي ذلك وصف تبعات هذه "الفعلة" إذ طفقا يخصفان من ورق الجنة، وهما يتبادلان التهم واللعنات.
في الكتاب العاشر يذاع نبأ الثعبان الذي ضلل حواء، وضللت بدورها آدم، وتذوقا معا الثمرة المهلكة، ونطقت السماء بحكمها" طرد الإنسان" ، وكانت "الخطيئة" و"الموت" لا يزالان رابضين عند أبواب الجحيم، فيهبّان فرحين عند سماع خبر "السقوط"، ويمدان جسرا يربط الجحيم بالفردوس، وأثناء طريقهما إلى "الإنسان" يلتقيان والدهما "إبليس" فيتبادل الجميع التهنئة، وأثناء ذلك كان آدم يبكي حاله، وقد ازداد وعيا بسوء مصيره خاصة حين رأى مناخ الجنة يتبدل نحو الأسوأ.
صبّ آدم جام غضبه على حواء التي استماتت في مواساته والتخفيف عنه، بل إنها قررت أن تتحمل وحدها لعنة السقوط، وهذا ما أثار شفقته، وألان قلبه نحوها، بل إنه وعى الوجه الآخر للمأساة، إذ رأى بوارق أمل ورجاء، وقرر أن يستفيد من أخطائه وتجربته الحزينة في مواجهة التحدي الأكبر "فكان شخصية قوية، وذكية، وعاقلة، جبلت على التأمل والجسارة"(38) ، في مقابل ذلك كانت حواء تفيض رقة، واندفاعا، وضعفا، وسرعان ما اجتمعا معا فسجدا لله بتواضع معترفين بأخطائهما، طالبين المغفرة بدموع تروي الثرى، مرسلة من قلبين نادمين، آية على الحزن الصادق ومذلة المسكنة.
في الكتاب الحادي عشر يرسل المسيح صلاة أبوينا إلى القدير، فيقبل توبتهما، ولكن يصر على خروجهما من الفردوس، ويبعث ميكائيل ليطردهما، فتندب حواء حظها، ويحاول آدم عبثا أن يستعطفه، لكنه يستسلم في الأخير بعد أن سمع نبأ الأحداث المقبلة، والنذر المشؤومة التي سوف تحدث حتى الطوفان.
في الكتاب الثاني عشر يواصل ميكائيل روايته التنبؤية، فيسرد أحداث ما بعد الطوفان ويفصح عن ولد مريم العذراء الذي نذر نفسه فداء لذرية آدم، يحمل عنهما طوعا وزر خطيئتهما، فيسعد آدم أيما سعادة لهذه البشرى، ويوقظ حواء من نوم رأت فيه أحلاما تدل على هدوء البال والخضوع، فيغادران معا فردوسهما المفقود.
تدور الملحمة إذن حول موضوع "سقوط الإنسان"، لذا كانت أسطورة العالم الآخر مرتكزا محوريا انبنت عليه الأحداث، وإطارا زمانيا ومكانيا لمجريات الملحمة، وقد كتب ملتون نصه مستلهما أبجديات الملحمة الكلاسيكية، فمثلا ناشد آلهة الشعر أن تلهمه درر القول، وابتدأ الموضوع من منتصف الأحداث على غرار ما فعل هوميروس في إلياذته، ومع أن موضوع الفردوس المفقود ديني/أسطوري إلاّ أن هدفه سياسي وهو التغني بأمجاد أنجلترا على غرار ما فعل فرجيل الذي كتب الإنياذة ليخلد أمجاد روما.
لم يتأثر ملتون بسابقيه على مستوى "الشكل الفني" و"الموضوع الأساسي" فحسب بل تعدى الأمر إلى التفاصيل الجزئية، فرغم أن هذه الأسطورة في نص ملتون ذات طابع مسيحي إلاّ أن ذلك لم يحل دون أن يستفيد الشاعر من التراث الأوربي، وخاصة الإغريقي والروماني، فنلمس مثلا مؤثرات هوميرية في وصف الجحيم حيث ذكر نهر ستيكس، ونهر إيكوس، ونهر أوستيكوس، ونهر فيليجيثون.
كما تخلل وصف العالم الآخر معتقدات وسيطية، تصور الجحيم مكانا حارا جدا أو باردا جدا، فهذه الفكرة شائعة جدا في أوربا، ورثها ملتون عن العصور الوسطى، ولعل أهم فكرة استوحاها ملتون من العصور الوسطى هي تصويره الجنة على شكل الجسم البشري.
يؤكد ملتون –من خلال استراتيجيته الفنية- في بناء ملحمته على أن كل نص هو مجموع النصوص التي سبقته، فلا وجود لنص بريء، يخلو من آثار سابقيه، لذا لا عجب أن يكون التناص ميزة فنية تؤكد أصالة الأديب وعمق بصيرته الفنية، وموسوعته الثقافية، خصوصا حين يضع الأديب لمسته الإبداعية على هذا التراث الأدبي الذي استقى منه مادته المعرفية، وهذا ما فعله ملتون الذي استغل هذا الموضوع ليطرح جملة من قضايا عصره، وعلى رأسها قضية "حرية الإنسان" وهي قضية إشكالية على مرّ العصور، ولكنها اكتسبت طابعا خاصا في عصر ملتون الذي يتموقع زمانيا في مرحلة حاسمة تقف على أعتاب نهاية العصور الوسطى وبداية عصر التنوير.
في هذه المرحلة أعيد طرح السؤال: من يصنع قدر الإنسان؟ وأجابت الكنيسة بأنها السماء، وأجاب المفكر النهضوي بأنه الإنسان ابن عصر النهضة بكل تداعياتها الاشتقاقية: المعرفة، والعلم، والتجربة، والعقل، والفردية، والاكتشافات، والمغامرة،...إلخ، فلا وصية للسماء على أفعال البشر، وقد حلل ملتون موضوع الحرية والجبر في مواطن كثيرة من الملحمة فيقول على لسان "الرب":
He (adam) and His faithless progeny ;whose fault?
Whose but his own?Ingrate;he had of me
All he could have ;I made him just and right
Sufficient to have stood though free to fall
Such I created all the Ethereal powers
And spirits , both them who stood and them who fall
(39) Freely they stood who stood , and fell who fell
ناقش ملتون –كما يتضح في هذا المقطع- حرية الإنسان مناقشة عقلية، تستند إلى العقل أكثر مما تستند إلى البرهان النقلي، ووصل إلى نتيجة مفادها أن الإنسان سيد نفسه، وهو المسؤول عن أخطائه، فالله قدّر مصير الإنسان على الصورة التي سيتصرف بها الإنسان نفسه، لذا لا تتنافى العدالة الإلهية –في رأي ملتون- مع حرية الإنسان، وهذا ما عبّر عنه في موضع آخر حيث يقول:
"What pleasure I from such obedience paid
When Will and Reason (Reasonalso is choice)
Useless and vain , of freedom both despoiled
Made passive both ,had seved necessity
Not to me , they therefore as to right belonged
So we were created , nor can justly accuse
Their Maker or their making or their fate
As if Predestination over ruled"(40)
فالفردوس المفقود هو تجربة الإنسان لاختبار حريته وإرادته، وقد أخفق في الاختبار، ولكنه نزل إلى الأرض مزودا بخبرة إنسانية عميقة أملتها التجربة والمعاينة، فكأن آدم هو الإنسان النهضوي، إذ لم ينفتق وعيه بالمعرفة النظرية (تحذيرات رفاييل) بل بالتجربة والمواجهة (إغواء الشيطان)، أكل من شجرة المعرفة، فتعلّم الخير والشر، وانفتحت عينه على حقيقة مفادها أن المعرفة لا تتأتى بالتلقين النظري بل بالمحاولة والخطأ، وهذه هي حال الإنسان النهضوي الذي لم يعد يقنع بما تقوله الكتب، ولا بما يفرضه آباء الكنيسة بل صار أكثر إقبالا على قراءة الواقع العيني من خلال التجربة، والمغامرة، والاكتشاف، سبق ملتون معاصره فرانسيس بيكون "الذي رفض التقليد والتلقين في كل أنواع التعلم، وجعل مصدر المعرف هو التجربة العملية التي ستحرر الإنسان من عبء الخطيئة الأصلية، وتعيد إليه سيطرته على الطبيعة (...) وذهب إلى أن كل أنواع الفهم لا تستمد من أي سلطة عدا الملاحظة والتجربة"(41)
تقمّصت "أسطورة العالم الآخر" في نص ملتون روح العصر ، وعبرت عن إشكالياته الأخلاقية، والفلسفية، وطرحت أسئلته حول التخيير والتسيير،يرى الناقد جيلبرت ماك إينيس (Gilbert Mc Innis) أن ميلتون يرد ضمنيا على أفكار كالفن الذي "يرى أن الله ليس على علم فحسب بسقوط آدم بل إنه هو الذي رتب لذلك (...) كما روجت الكالفينية فكرة أن إرادة الإنسان من إرادة الله، فإذا (أراد) الإنسان، فذلك لأن الله –كما يرى كالفن وأتباعه- (أراد) ذلك مسبقا وخطط له بسعادة"(42)
يعارض ميلتون هذه الرؤية الكالفينية بشكل قاطع، ويؤكد استقلال حرية الإنسان عن حرية الله، وينفي على لسان الرب أن يكون الإنسان مسيرا بإرادة إلهية مسبقة، كما ينفي فكرة كالفين حول سعادة الله بسقوط آدم"يؤكد ميلتون أن علم الله المسبق بالسقوط لا يعني مطلقا أنه أجبر الإنسان على ذلك (...) فالله –بالنسبة لميلتون- لا يستشعر أي سعادة حين يطيع الإنسان الشيطان، وإذا ظهرت أي إشارة عن التسيير والجبر، فذلك يحدث حين يختار الإنسان أن يكون عبدا للشيطان"(43)
يطرح ميلتون على لسان إبليس مفهوما حديثا للجنة والنار، وذلك حين يجعلهما مفهومين ذهنيين خلقهما العقل البشري، يقول:
"The mind in its own place, and in itself
Can make a Heaven of Hell, and a Hell of a Heaven
What matter where if I still be the same"(44)
يجعل ميلتون العقل قادرا على أن يخلق من الفردوس جحيما ومن الجحيم فردوس، وهذا ما ينسف بمعظم موتيفات الأسطورة التي تتعلق بأشياء خارجية مرئية، لا علاقة لها بما يدور في الذهن البشري، لابأس من الإشارة إلى أنه ظهر في السنوات الأخيرة علم يدعى البرمجة اللغوية العصبية (Neuro Linguistic Programming) التي تؤكد أن حياة الإنسان من صنع أفكاره، ولا علاقة للمعطيات الخارجية بسعادة الإنسان أو شقائه ما لم يقرر هو ذلك.
تلبست أسطورة العالم الآخر لبوس العلم والعقل الموثوق فيهما طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر،فقد فاز العلم بثقة الإنسان الحديث مثلما حظيت الأسطورة قديما بثقة البدائي ، وظلت ملاذه في البحث عن الحقيقة والنهل من المعرفة.
لكن منذ مطلع القرن التاسع عشر أدّت التحولات التكنولوجية المتلاحقة التي ترعرت في أحضان البورجوازية إلى سيطرة المادة ،و هيمنة الآلة على حياة الفرد الأوربي، وتعميق الفروقات الطبقية، وهذا ما عزز قيم الليبيرالية المتمحورة حول الذات الفردية، فوضعت المقولات الفكرية موضع المساءلة، تموقع البناء المعرفي بأكمله بين قوسين وسارع الأدباء إلى أحضان الطبيعة يغمرهم جنين جارف إلى "العصر الذهبي"، حيث لا تزال النفس البشرية طاهرة، ولم تتلوث بخطيئة المدنية بعد، فكانت الطبيعة ببعدها الجغرافي الجميل، وبعدها التاريخي المتمثل في الماضي السعيد هي الفردوس المفقود كما تجلى في أشعار الرومانسيين الفرنسيين أمثال فيكتور هيجو، وألفرد دي فيني، ولامارتين وغيرهم.
لم تدم هذه الرومانسية للعالم الآخر طويلا، إذ سرعان ما اختنق الإنسان الأوربي تحت وطأة الجحيم التكنولوجي الذي أفضى إلى حربين مدمرتين، مما دفع البشرية إلى أن ترفع عقيرتها احتجاجا على هذا الوضع المتناقض الذي ينتج البنيسيلين والذرة.
عادت أسطورة "العالم الآخر" في أدب القرن التاسع عشر والعشرين، ومن المفارقة أنها تجلت ساطعة في نصوص أدباء ملحدين أو متشككين في وجود عالم ماورائي، لذا كانت هذه الأسطورة خير تعبير عن قلقهم الروحي، وأسئلتهم الوجودية، وتأرجحهم بين مد اليقين وجزر الشك، إذ لم يستطع أدباء عصر الذرة وغزو الفضاء أن يستوعبوا طوبوغرافية الجنة والنار، وعدّوها ضربا من العبث، ولم يحسم الموضوع بهذا الموقف الرفضي بل ظل الأديب الغربي مترددا بين شكوكه الدينية وواقعه الجحيمي، لذا سرعان ما أسقط هذه الأسطورة على واقعه المعيشي، وإذا كان الأديب النهضوي اقتنع بأن الإنسان يستطيع أن يخلق فردوسه على الأرض، فإن الأديب المعاصر بات مقتنعا بأنه يعيش جحيمه الأرضي
عبّر الكاتب الروسي دوستو يفسكي (1821-1881)على لسان أبطاله الروائيين عن خيبة حلمه الطوباوي، وعن صراعه العنيف بين الشك والإيمان، والعقل والدين، لذا شكك الأب زوسيما في "الإخوة كارامازوف" في وجود نار مادية، واستبدلها بعذاب الخاطئين أي العذاب الروحي ومراعاة الضمير، ففي الفصل المسمى الراهب الروسي نقرأ بعض تعاليم الأب عن الجحيم ونيرانه، يتساءل زوسيما: ما الجحيم؟ ثم يجيب:
"إنه أن تتعذب لأنك لم تعد قادرا على الحب، إن الناس يتحدثون عن نيران الجحيم بمعناها المادي، وأنا هنا لست بصدد بحث هذا الأمر، يكفي أنه يملأ نفسي خوفا وهلعا، ولكني أتصور أن هذه النيران لو كانت مادية لفرح بهذا المعذبون، لأن عذاب البدن ربما أتاح لهم ولو لحظة قصيرة أن ينسوا عذابهم الروحي الذي يفوق كثيرا عذاب البدن" (45)
فالجحيم بالنسبة إلى دوستو يفسكي هو عدم إيمانه بالجحيم، أو هو العذاب الذي يعانيه بسبب تعطشه للإيمان، يقول دوستويفسكي في رسالة بعثها إلى صديقة:"يا لها من عذابات هائلة، عانيتها وأعانيها الآن بسبب تعطشي للإيمان، هذا التعطش الذي كلما ازدادت قوته في نفسي ازدادت الحجج المناقضة له"(46)
وإذا كان الأديب النهضوي قد حدد موقفه من العالم الآخر بشكل حاسم،وجعل جنته دنيوية و العلم هو الطريق إليها ، فإن الأديب المعاصر جعل الجحيم دنيويا والطريق إليه هو العلم أيضا، وبين الفراغ الروحي وإنكار العلم عاش الأدباء المعاصرون واقعا مؤلما عبّر عنه سارتر بصرخته الشهيرة "الجحيم هو الآخرون"، وكانت الحياة بالنسبة لهؤلاء حركة عقيمة، عديمة الهدف والجدوى، أو هي كما عبر عنها مكبث في مقولته الشهيرة "قصة يرويها مجنون، مليئة بالفوضى والغضب ولا تعني شيئا" تَمَثّل ديوان "أزهار الشر" لشارل بودلير(1821-1867) هذه المعاني خاصة حين يقول:
"انحدري، انحدري أيتها الضحايا البائسة
انحدري في طريق جهنم الخالدة"(47)
لم تعد جهنم تعبيرا مجازيا بقدر ما هي حقيقة أصيلة تعبر عن القيم السلبية عن طغيان الآلة بمقتضياتها الجحيمية كالحربين العالميتين، والقنبلة الذرية، والأسلحة النووية، والنفايات الكيماوية، ومعتقلات التعذيب، لذا كان أدب القرن العشرين أدبا جهنميا ، لقد عبر آلبير كامي عن ذلك في جملة مختصرة "لا تنتظر مجيء اليوم الآخر لأننا نعيشه في حياتنا اليومية"(48)
استلهم هؤلاء الأدباء أسطورة العالم الآخر ليتمثلوا تناقضات القرن العشرين ومفارقاته، وإذا كان الإنسان القديم يخاف نار الله التي ستحرق العالم، وتنقله إلى عالم آخر، فإن الإنسان الحديث يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه، أو بالأحرى بقنبلته النووية، لذا يستعير الإنسان المعاصر من الله القدرة على الإفناء وتدمير الخلق، فيصبح مسؤولا على بقاء جنسه البشري أو فنائه، وفي الوقت نفسه يشعر بأنه تحت رحمة زر آلة:
" وهذا الوضع المتناقض من المسؤولية والعجز هو العذاب الأبدي الذي لا نعرف كيف نفر منه، هذا هو ظرفنا الآخروي الراهن (...) وإذا كنا نعتمد على رحمة الله من قبل فمن المجازفة أن نراهن على حكمة الإنسان الآن"(49) وإذا كانت الأساطير قديما تعدنا بأرض جديدة وسماء جديدة يسكنها الأخيار والطيبون، فإن الحرب القادمة تعد بأن القاتل والمقتول كلاهما في النار.
لم تسع هذه الدراسة إلى تقديم مسح تاريخي لكل نصوص الأدب الأخروي، فذاك طموح لا ندعيه، ولم تكن تهدف إلى ربط نصوص متشابهة بعضها ببعض، فذاك عبث لا طائل منه، وإنما سعت لتقديم نماذج من الأدب الأخروي لتعرف إلى أي مدى كانت هذه الأسطورة الأدبية استجابة للواقع الاجتماعي القائم أو تحررا منه.
رأينا أن الأدب الأخروي يطفو إلى السطح في كل لحظة انعطاف في مجرى التاريخ فكان لصيق فترة التحولات والأزمات" إن لهذا النوع خاصية الظهور في فترة الأزمات التي تمر بها الشعوب، ولنا في ذلك مثل من الأخرويات اليهودية التي ظهرت بعد نفي بابل، ومثل من انتشار الأدب الأخروي في العصور الوسطى حوالي العام الألف حيث كانت أوربا تمر بأزمة اقتصادية وسياسية شديدة، فمثل هذا الأدب هو الغرض الذي يستدل به على قلق، أو أزمة هوية، أو الرغبة في الثقة في المخلص، أو تعيين عدو غيبي"(50)
لذا لا عجب أن تكون روائع الأدب العالمي كالأوديسة، والإنياذة، والكوميديا،...إلخ هي نصوص أخروية، إذ استطاعت أن تعبر عن المعروف بالمجهول، وعن الواقع بالماورائي، والمنطقي باللامنطقي، وكان من المفارقات أن تزدهر هذه الأسطورة في القرن العشرين على يد الملحدين الذين أنكروا صورها الحرفية، وعدّوها "أساطير الأولين" لكن سرعان ما استلهموها للتعبير عن قضايا العصر، فالأديب غير معني كثيرا بصدق الصور الأسطورية بقدر ما هو معني بقدرته على الاستجابة لمتغيرات الوضع القائم، وكانت أسطورة العالم الآخر ضالة الأديب منذ هوميروس وفرجيل إلى دوستويفسكي وسارتر.
الهوامش:
منى طلبة: أدب الرحلة إلى العالم الآخر، (أطروحة دكتوراه) جامعة ين شمس، مصر، 1998 ص276.
جلجامش: المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية للنشر، الجزائر، 1995، ص61
هوميروس: الأوديسا، ت: عنبره سلام الخالدي، دار العلم للملايين، لبنان، 1983، ص132
هوميروس: الأوديسا، ص135
منيرة كروان: العالم الآخر في المسرح الإغريقي، دار المعارف، مصر، 1998ن ص58.
هوميروس: الأوديسة ص141
منيرة كروان: العالم الآخر في المسرح الإغريقي، ص58.
Virgil:The Aeneid,York Press,Leban 2002,p96-8
-9 Virgil:The Aeneid,p96
10- IBID ,p113
11- Pierre Brunel: L'Evocation des morts…p71
12- Virgil:The Aeneid ,p113
13- أحمد عتمان: الأدب اللاتيني ودوره الحضاري، سلسلة عالم المعرفة، العدد141، الكويت، 1989، ص225.
14- أحمد عتمان: الأدب اللاتيني ودوره الحضاري، ص234.
15- م.س.ص233.
16- منى طلبة: أدب الرحلة إلى العالم الآخر، ص285.
17- م.س.ص286.
18- محمد السليمان الصالح: الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2000، ص17
19- دانتي ألجيري: الكوميديا الإلهية، ج1، الجحيم، ت:حسن عثمان، دار المعارف، ط3، مصر، 1988 (حواشي شرح المترجم)، ص101
20- م.س، ص192.
21- دانتي أليجيري: الكوميديا الإلهية، ج1، الجحيم، ص199.
22- م.س.ص167.
23- م.س.ص116.
24- م.س.ص.144. (شرح المترجم)
25 م.س.ص63. (مقدمة المترجم)
26- The Anthropology Of American Literature collective work Cambridge University press ,1990,p168.
27- عاطف أحمد: التوجه الإنساني. تحليل مفهومي تاريخي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مصر، 1999، ص17.
28- The Anthropology Of American Literature collective work,p168
29- The Anthropology Of American Literature collective work,p168
30- IBID,p166
31- عاطف أحمد: التوجه الإنساني. تحليل مفهومي تاريخي.ص19.
32- سفر التكون، الإصحاح:2-10.
33- عطيات أبو السعود: الأمل واليوتوبيا في فلسفة إيرنست بلوخ، منشأة المعارف، 1997، مصر، 321.
34- محمد كامل الخطيب: الرواية واليوتوبيا، دار المدى، سوريا، 1995، ص18.
35- محمد كامل الخطيب: الرواية واليوتوبيا، ص116.
36-John Milton: Paradise Lost, book 1, www.publicliterature.org
-37 John Milton: Paradise Lost, book9
38 Paradis lost:www.wikipedia.org –
39 - John Milton : Paradise Lost, book3
40- J. milton Paradise Lost, book 3
-41 عاطف أحمد: التوجه الإنساني. تحليل مفهومي تاريخي، ص15
42- Gilbert Mc Innis: Free will and necessity in Milton's Paradis Lost, www.publicliterature.org
43- Gilbert Mc Innis: Free will and necessity in Milton's Paradis Lost
44- John Milton:Paradise Lost, book1
45- دوستو يفسكي: الإخوة كارمازوف، ص292-293، نقلا عن أنور محمد إبراهيم: دوستويفسكي، جدلية الشك والإيمان، مجلة ألف، العدد23، مصر، 2003، ص26.
46- أنور محمد إبراهيم: دوستويفسكي، جدلية الشك والإيمان، ص31
47- Charles Baudelaire: Les fleurs du mal,Ed Galimard, France, 1998p122
48- Ahmed Etman:the nature of islamic resourses of Dante' Divina Commedia, Dalesh Voice, vol04, issue 04, March1999. /p11
49- منى طلبة : أدب الرحلة إلى العالم الآخر، ص279.
50- م.س، ص283.
سيرة ذاتية:
الدكتورة مديحة عتيق أستاذة محاضرة بقسم اللغة العربية وآدابها بالمركز الجامعي سوق أهراس بالجزائر.
شاركت في ملتقيات وطنية حول أدب الطفل (المركز الجامعي سوق أهراس)
وتحليل الخطاب(جامعة عنابة) والنص والهوية (جامعة بجاية) وتحليل الخطاب (جامعة تيزي وزو) و أزمة المصطلح(جامعة جيجل) والأدب والأسطورة(جامعة عنابة)
وهي عضو في مشروع البحث " الرواية الجديدة في الجزائر"بـالمركز الجامعي سوق أهراس.وعضو متطوع بمخبر الأدب العام والمقارن بجامعة عنابة.
لديها مقالات منشورة بمجلة الرافد /الإمارات، وكتابات معاصرة/لبنان،والموقف الأدبي/سوريا، ومقارنات/مصر