قراءة في الكرسي الأزرقللقاص عبد الله المتقي
عند قراءتي لمجموعة الكرسي الأزرق ،للأستاذ عبد الله المتقي، لاحظت مدى الحيز الذي اتخذته المرأة في مختلف حالاتها، وأوضاعها، وبالتالي صوتها الذي كان مبحوحا، منكسرا، تواقا إلى الانعتاق … وقد حاول القاص تقديم صورتها بشكل موحي، وذال ، حتى صار لصمتها ، وسلبيتها ، كيانا، ومعنى، وموقفا، سواء من الواقع، أو من الآخر. تجلى ذلك من خلال ما تضمنته العديد من النصوص، التي حملت صورا موحية، قربت القارئ أكثر، من المشروع الإبداعي للقاص، المبني على مواقف ثابتة، فجاءت المضامين متمردة، حارقة ، وساخرة في كثير من الأحيان ..
لقد اتخذت المرأة صورا متعددة : العشيقة/العاهرة/الأم/الزوجة/الجدة/الأخت/العمة/بالإضافة إلى نساء أخريات، مما يوحي لنا منذ البداية، أن الاشتغال على صورة المرأة، كان اختيارا واعيا، لأنه من التيمات البارزة في نصوص المجموعة، كما أنها استأثرت بحيز كبير جدا ، وملفت للانتباه، وهو حدث اتخذ له فضاءات متعددة، ومتنوعة ، حسب طبيعة كل موضوع.
المرأة الأجنبية :
في نص "جاكي" ص9، يقدم القاص صورة عن امرأة أجنبية "من أوربا الشرقية" مقيمة بالمغرب، قدمت في البداية، بكونها، هادئة جدا، تتأمل عالما مضطربا، يعج بالمتناقضات وتراقب زخات المطر المتساقطة "على تقاسيم الشارع "والحمام الذي يحلق بعيدا" ص9، طليقا لكنه "يترك خلفه الكثير من الفضلات على حافة البلكون" ص9، وفي نفس الوقت يقدم خلفية بانورامية، عن ماضيها، وهي شبه مسجونة بين رذاذ ذكرياتها، في بلدها الذي لم يبق لها منه، سوى أشياء رمزية "معطف سميك، وقبعة سوفياتية، ودمية تحدق في نفس الاتجاه، منذ سنة تقريبا" ص9.
السيدة جاكي، كدمية تعيش رتابة قاتلة، في زمن النسيان بحرقة الاغتراب، وكأنها أضحت كشرفتها مطرحا للنفايات، التي يتركها الحمام ، على شرفة البلكون.
إنها قمة العزلة والتيه، والحسرة، والقلق "تتحايل على علبة سبنسر في انتظار الإقلاع عن التدخين" ص9.
السيدة جاكي نموذجا مصغرا للكثيرات من النساء الأجنبيات، المقيمات في المغرب ، منعزلات في أبراجهن العاجية بعيدا عن الواقع، داخل عوالمهن الخاصة، دون الجرأة على النزول إلى جس نبض الحياة الصاخبة بالشارع العام، يسقطن أحكامهن الجاهزة ، من خلال مشاهداتهن، وتأملاتهن الخاصة ، البعيدة كل البعد عن الحقيقية.
إنه نوع من الحرمان، والهذيان ، الذي يطال الجسد، والروح على السواء، فيحولهما إلى شبحينين فاقدين لكل ملمح، وهو نوع من تسليط القهر على الذات ، بالحبس الإرادي، والانعزال القاتل.
المرأة والرغبة :
يشكل جسد المرأة موضوعا للشهوة، والرغبة الماكرة، بحيث تتم مراقبتها دون انقطاع من طرف مصطاف "المرأة تختفي حين تظهر، تصفع الماء برفق، تضحك، يتصبب جسدها مطرا مالحا" ص11، وهي مراقبة لصيقة لأدق حركاتها، وتفاصيل جسدها، وصلت إلى حد من التلصص ، بل السرقة أحيانا، تشترك فيها كل الحواس، وتبرز انفعالا خفيا "الرجل يلتهم جسدها بعينيه" ص11، ومكرا كبيرا من خلال الإغواء بالابتسامة المغرضة الموحية "يبتسم الرجل، وتبتسم المرأة" ص 11.
لم يقف مكر اللغة عند هذا الحد، بل تعمد القاص، استرساله في الموضوع ، وارتقى بالقارئ إلى درجة التصوف اللغوي، مرغما إياه على استكشاف المبطن والمستور، بعد توريطه
المرأة جزيرة زرقاء
رخات ويتساقط المطر
فرن يتسلل
إلى آخره …
إن إلهاب حماس القارئ، وإثارة تطفله، بقطع شريط الحدث بغتة، يقحمه ضمنيا، وعلى قدم المساواة مع بطل أو بطلة النص، يخلع عليه جبة الحكي، التي لن يطول ارتداؤها سوى للحظات، ليقف بكل انتظاراته "وظل الرجل يتكلم، مثلما الشعراء، ومجانين الزرق" ص11.
إن الصورة المقدمة عن الجسد الفاتن (المرأة) الجزيرة الزرقاء هي صورة بقدر ما هي فاتنة، هي كذلك غامضة، غموض مشاعر كل النساء، وشخصياتهن، وتمنعهن المصادر، وهو ما يبرز الشرك الذي وقع فيه البطل، وهوسه الذي وصف بكونه "مثلما الشعراء ومجانين الزرق" ص11، وهي صورة رجل حالم محلق في جنانه، تسوقه النزوة نحو اقتحام عوالم الطمأنينة ، لاعتقاده أنه أدخل طائره القفص، متناسيا أنه قد غرق من قبل في غواية جزيرتها الزرقاء للأبد.
المرأة الكاريزمية :
لقد طفت هذه الصورة في نص "مساء" ص32، فالمرأة بدهائها وقوة شخصيتها كانت تساير الرجل في كل حماقاته، تركب موج هذيانه ، وهي متأكدة من تحقيقها لهدفها، فجاءت قليلة الكلام، ذات قدرة كبيرة على الصبر، والاستماع، وبالتالي الاستماع إلى كل الهلوسات يقول "إو دبا فين نمشيوا" ص32، وكأنها تصمت العالم الصاخب، وتمحيه بلمستها السحرية، فيتبد الصوت القوي الذي ظل مسيطرا، وطاغيا على مجريات الأحداث .ويبدو أن الحيز العظيم الذي احتلته سرعان ما اتسعت آفاقه وتحددت بدقة، وكأنها كانت منذ البداية، تفصل الحدث على مقاس تطلعاتها "كعادتها لم تجاريه في جنونه، فقط، اكتفت بإبداء اندهاشها وبتهريبه جهة البحر"ص33.
أما في نص "عرس الذئب" ص37 فقد اتخذت المرأة صورة الأرض القاحلة، والبورية التي استبد بها الجفاف طويلا، فكانت "تمشي متمهلة فوق رأسها مظلة مثقوبة" ص37، محيلا إيانا على فئتها الاجتماعية كامرأة مقهورة ومسحوقة، بتصرفها الغير عادي ، على اعتبار أن رغبة جسدها في التلذذ بقطرات المطر، كان ناتجا عن حاجة نابعة من أعماقها، تغتسل من أدران كبتها، استجابة لرغباتها المقموعة، كأنها في وصلة روحانية، أو علاقة حميمية مع عشيق متخيل "المطر" تلك القوة الهائلة النازلة من الأعلى مخترقة "أماكن ملغومة، وقابلة للانفجار في أية لحظة" ص37، لتتمرد على كل حواسها الخارجية تبطل مفعولها، وتسدل سائر سميكة على محيطها، لتعيش لحظة الانتشاء، والمتعة، لتعوض عن حرمانها ف"ترمي المرأة بالمظلة وتستسلم لعرس الذئب الذي تنتظره من سنين عجاف" ص37.
المرأة المغبونة : غواية الحلم
في نص "نافذة القطار" صور المشهد من خلال حوار صامت، وكأننا إزاء لقطة سينمائية ترصد المشاعر المبطنة الممزوجة لجذر كبير، تبرز لغة داخلية – مونولوغ – تقشر زيف الظاهر، وتكشف عن عمق الباطن بشفافية كبيرة، فالمرأة "أمعنت النظر في تقاسيم وجهه" كان شاربه متناسقا ص42، وهي لغة تقنية تحاول من خلالها رصد مفاتن الجالس أمامها مبرزة حركاته نوعا من العياء، بسبب طول انتظار، وعن مكر مسبق لرد واضح لرسالته "رمى جريدته برفق فوق حقيبتها" ص42، التي كانت موضوعة فوق كرسي، مقابل له في محاولة جريئة لفتح حوار، أو نقاش من نوع ما. كما أن الحركة في حد ذاتها ، تبرز نية مسبقة ومغرضة، جريدة فوق حقيبة، كانت بمثابة دعوة نابعة من رغبة داخلية، وتطاحن حفي ممزوج بتوتر خفيف عنوانه الاستفزاز ، الذي تم تصويره بدقة "كعجلات القطار التي كانت تداهم القضبان الحديدية بنهم، محدثة أصواتا صاخبة ومتناغمة" ص42 كلحظة التحام عاشقين متيمين، استسلما لنداء الحواس، والغرائز، رغم تناقض الطباع (الصخب#التناغم) وكأن فعل إغماض العينين "أغمضت عينيها" كان بمثابة سفر داخل حلم لذيذ، وجميل ، فسح الفرصة للرجل "ليتأمل شفتيها البنيتين (و) وصدرها المنتفخ" ص42، في محاولة لتأجيج رغبته بقوة، وإجباره على الاستسلام الماكر ، الذي تم التعبير عنه ضمنيا "بعجلات القطار (التي) تدور بسرعة الضوء"ص42، كأنه التحام سرمدي ، بين دواتين ملتهبتين وجامحتين، كل منهما تنظر إلى الآخر من زوايا معتمة، المرأة محتفظة بملامح الرجل الذي اختطفتها خلسة، لتحلق بها نحو عوالمها الداخلية، والرجل بالشفتين والصدر المنتفخ، كأنيس في رحلته المشوقة، التي توقفت، بتوقف القطار في محطته، بينما المرأة طال زمن متعتها، واستمر لتستيقظ لا قبل المحطة الأخيرة بدقائق (لتجده قد) نزل ص43، ليستمر غبنها حتى المحطة الأخيرة يتخبطها الإحساس بنوع من الغبن، والندم على إضاعة فرصة ثمينة، ولقاء لن يتكرر …
المرأة والمرآة .. سفر نحو الداخل :
في نص مرايا نجد حفرا في تضاريس العقلية النسائية، بمتحه الكبير من نفسيتها المعقدة، وتصويره الدقيق لتصرفاتها النابعة من إحساساتها المتناقضة، فالمرآة العاكسة دوما للحقائق، والكاشفة للإحساسات الغائرة منها المزيفة أو الحقيقية تكتنف المرأة في مواجهتها برهبة وشعور خاص، بحيث تنتقي تلك المسافة ويموت الإحساس بالزمن، بل يتوقف، باعتبارها المقياس الحقيقي لهن للكلام عن الذات، مفاتنها، قبحها، جمالها، مكرها، جنونها في لحظات خلوة، يبرز من خلالها تأرجحهن بين الشك القاتل، واليقين المزيف الذي تحاول كل منهن تأكيده، من خلال سؤال الآخر (الرجل) عن مستوى جمالها ودرجته، فيكون جواب المرآة المزيفة وكأنه منتظرا ومطلقا تلبية لحاجات الهوس الدفينة "أنت جميلة".
ورغم تبديد الآخر للشك الذي يكون منافيا للحقيقة التي تعكسها المرآة فاقتناع المرأة المزيف يلفه دوما خداع بوجهة نظر الآخر، التي تعتبره أساسيا.
ومن خلال النص تتجسد علاقة المرأة بالمرآة، ففي حالة المرأة الأولى، يندرج مفهوم الاستعمال ضمن منظومة عالم السحر والشعوذة "دست للرجل مرآة تحت مخذته، كي يبرد" فعلاقة المرأة بالمرآة، تتحدد انطلاقا من مخزون ثقافي نسائي خاص، منتشر بشكل قوي داخل الأوساط الشعبية وبمفهومه الجنسي المتمثل في كبح جماح الرجل وثنيه عن النظر لامرأة أخرى، في حين كانت لعلاقة المرآة ، بالمرأة الثانية من منظور حسي جمالي، فهي تواقة إلى تحسين صورتها ومظهرها، بحثا عن جمال أفل تقده قدا، باستعمال المساحيق، في محاولة للظهور، بمظهرها المزيف والفاتن، حتى تحسن، وتهذب صورتها ، لتظل مقبولة أو مرغوب فيها، وكأنها في رحلة مجنونة، محمومة وراء السراب، أما المرأة الثالثة /،لتي كانت "عند بائع العطور، فعقدت معه ميثاقا غليظا" ص44، انطلاقا من هوسها، وعادتها السيئة، التي لا يمكن التخلي عن ممارسة طقوسها بسهولة، بحثا عن الجاذبية المفتقدة والإثارة المفتعلة، وهي حالات عكست بصدق، نفسية الأنثى في سعيها ، وجريها داخل حلبة الغواية القاتلة ."أما المرأة الرابعة فكسرتها، واحتفظت بنصف في حقيبتها، ووضعت النصف الآخر في يد زوجها، حين كان يقشر البصل جانبها بالمطبخ" ص44، وهو ما أبرز عدوانية الطبع، وقوة التسلط ، التي لا تحتاج فيه المرأة لتحسين مظهرها من أجل الرجل، بل يحتاج فيه الرجل ، إلى مجرد كلمة طيبة ، تذيب فصول معاناته، وقهره، لتضميد جروحه الغائرة …
إن نص مرايا، يعكس طبائع النساء، وصراعهن الأبدي مع الزمن، والطبيعة ، والرجال، في محاولتهن للحفاظ على الجمال الآفل، والشباب المنفلت، بمرارة وتحايلهن الغامض على الحقيقة، ليبقى نص مؤامرة لا محدودة مجاليا، أو زمانيا، أو نفسيا، ضد قهر من نوع خفي … لكنه محتوم ..
الأم : الوجه والقناع
لم نعثر على صورة الأم سوى في نصين، الأول "جسد حواء" ص27، والثاني فطوكوبي ص57، ففي النص الأول تم تصوير الأم التي كانت تستحم عارية في المرحاض، وشبهت بالإنسان البدائي، بحيث أن النظر إلى جسدها العاري على غير العادة، ولد الخوف والرهبة، والاندهاش لدى الطفل السارد، وبالتالي كان إقدامه على تكسير خصوصيتها بالتلصص عليها، عملية مشوبة بكثير من الخطورة، والجرأة في نفس الوقت، لما ينتظره من عقاب ، وهو ما تم التعبير عنه “في انتظار حزام مزركش بالعقيق، قد يطبخني، ويترك الباقي لنار هادئة ص27،.
إن النظر إلى الجسد العاري كليا، يدخل في باب المحرمات، والممنوعات، حسب المرجعية المحافظة ، أو التقليدية، نظرا لما يمكن أن يشكل ذلك من تصورات فجة ، أو قدحية تخدش ذاكرة الطفل، الذي قد لا يجد اللغة المحتشمة للتعبير عن مفاتنه بشكل لبق، ومهذب، فالجسد العاري في تصور السارد ، كان كإنسان بدائيا، رغم ما يمكن أن نضعه من تحفظ حول هذه التسمية، فالطفل كسر عامل الخصوصية بسلوك قصدي "نظرت من فرجة باب المرحاض" ص27، كما أنه تمادى في استراق النظر، "واستحليت المشهد" ص27، مما يدل على كونه ، كان أقرب إلى راشد نسبيا، وهنا يكمن باب القصدية، فالعلاقة بالأنثى، ومفاتن جسدها تبقى طابوها، وحقلا يحرم اختراقه مطلقا.
غير أن هذا الوجه الغير متسامح، والقاسي نسبيا في ردود أفعال الآخرين اتجاه سلوك عفوي/قصدي … سرعان ما سوف يتبدد مع نص آخر "فطوكوبي" ص57، بحيث ترتسم لنا صورة الأم المكافحة، التي تعمل كل ما في وسعها لتشجيع ابنها، على التحصيل، والدراسة، فالنص يبرز أسرة فقيرة، بائسة ، جائعة، لكنها ترفض الاستسلام، وتقاوم القهر ، وقلة ذات اليد، فالأم "تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية"ص57، وهي نموذج للإنسانة المغبونة ، والمنهوكة بأثقال الأعمال المتعددة، وغير المحدودة مجاليا، لكن علاقتها بابنها مبنية على الحب والجلد، وغرس الثقة في النفس والاعتزاز بها …
العاهرة أو سلطة الإثارة بين لذة الحواس ، ولذة الجسد :
لم تفت القاص عبد الله المتقي الإشارة إلى نوع آخر من النساء، اللواتي يشكل أجسادهن غواية مطلقة، وفتنة عارمة، ففي نص "كابتشينو" ص20 تلعب إثارة الجسد دورا كبيرا في تحريك سياق النص منذ البداية "كان العرق يندلق على جسديهما، في غفلة من العالم الناشف" ص20 بحيث تم تصوير الانفعالات الداخلية بقوة "تتكوم المرأة في الزاوية اليمنى … يتكور الرجل في الزاوية اليسرى، يدخن بشراهة سيجارة شقراء" ص20، ونلاحظ أن وصف القاص للمرأة (الشخصية) تم دون خدش للمشاعر، أو تجريح في الوصف، داخل فضاء خاص، لإضفاء مسحة المألوف على الواقعة، لتمرير صورها بسهولة، مع الحفاظ على التفاصيل الأساسية التي تمنح للجسد بصفة خاصة، قوته ومفعوله ، وغوايته، وسلطته المطلقة .وهو ما تجسد بصورة جلية في المشهد الأخير "ثم ريثما يحتسيان الجعة الألمانية، ويتلمظان الفستق" ص20.
في حين لعب الوصف في نص "الكرسي الأزرق" ص67، دورا كبيرا في تقريب صورة الجسد الجميل والجذاب، من خلال تقنية الاسترجاع حيث يقول السارد "لأن هذه المرأة التي تجفف جسدها، كانت تموء كهرة قبل قليل، وتنشب أظافرها بين كتفيه ص67، فإبان لحظات انتشاء، يفرز الجسد كيميائه، ولغته للوصول إلى مرقاة المتعة، واللذة، وهي لذة الروح، والحواس لا لذة، الجسد.
لكن سرعان ما تختفي هذه الصور، التي تبدو من زاوية التقاطها، وكأنها مباشرة، لينجو بنا القاص عبد الله المتقي عبر تقنية الاسترجاع باحترافية كبيرة وهو يفتح في نص "غرفة للذكريات فقط" ص51 ألبوما لذكريات عاهرة ، وهي في أرذل العمر يقول " تغرس رأسها تحت المخذة كي تسلم نفسها للذكريات" ص51، وسوف يتم توظيف كلمتين (السرير والمرآة) كركيزتين أساسيتين لبناء النص، على اعتبار الأولى مختبر للعمليات الفعلية، والثانية مجالا للتحضير القبلي للجسد ، وانعكاس للحقيقة "تفرست … وجهها في المرآة … أصبحت كالمرض المعدي يتحاشاها الجميع" ص52.
إن الجسد الذي راهنت صاحبته طوال حياتها، على لحظات اللذة ، والمتعة، هو نفس الجسد الذي أضحى مصدرا للنفور، والمعاناة، والسقم، والوحدة، بعد تحوله إلى مبيد قاتل، وصاحبته ككتاب وجع ، للذكريات المريرة، بعدما ترهل جلدها، وأصبحت غير مرغوب فيها لتفقد الحواس لذتها، والإثارة مطلق سلطاتها …
الزوجة : بين المعاناة من الخيانة والنفور من الحياة الركيبية
من بين النماذج النسائية التي ورد ذكها في الكرسي الأزرق، مثلت الزوجة نموذجا للمرأة التي تعاني من خيانة الزوج، تلفها ذكراه الممزوجة بالحسرة، كلما استرجعتها، بحيث يطالعنا نص "محو" ص25 بقتامة ذكريات سيدة عن زوجها الذي توفي في حادثة سير، وانمحت صورته وهي تسترجع وقع الخيانة عليها، لا يبدو منه سوى "صورته وهو ممدد على المنجورة .. جثة القحبة النحيفة .. وقنينات الجعة التي ضبطها الدرك في السيارة" ص25، وهو مشهد مؤلم، جسد عذابات الشريكة، ونفسيتها الممزقة باستمرار ممزوجة بحسرة السنوات التي قضتها في غفلة تامة معه، مثمرة زمرة من الأطفال كعبء مضاف، يزيد من ثقل حملها وكضريبة لإخلاصها، وتفانيها في خدمته.
في حين رسم نص "علبة زرقاء" ص50 بقوة، رتابة عيش الزوجة وبحثها عن التغيير خارج أسوار المنزل، فقصدت مع زوجها فندقا "كانا يتفرسان أشياء الغرفة 13 كما لو أنهما هبطا من كوكب آخر" ص50.
لم يكن تغيير الغرفة كافيا لإضفاء جو حميمي خاص على علاقتهما، فظلت "هي تشكو من قصعة ظهرها .. وهو من أرق البارحة .." ص50، ورغم محاولة الشريك الذي "تسللت أصابعه إلى عرصة صدرها" لخلق نوع من الإثارة، فقد قوبلت ببرودة، ونفور كبيرين "تملصت منه برفق، وانسحبت إلى مرآتها .. بذلا مجهودا لذيذا ضد الشكوى والأرق" ص50.
إن رمزية النص، وإثاراته كانت بليغة، بحيث يبرز الحالة النفسية التي تعيد إلى الأذهان ، واقعا مريرا وخطيرا. وتشكل سببا من أسباب نزوح الكثير من الأزواج، للبحث عن الخلاص في جسد آخر، وعن متعة مقتنعة بالقوة، خارج إطار العلاقة الزوجة، فالتغيير يجب لمسه في الداخل في المشاعر اتجاه الآخر (الشريك).
العشيقة أو العالم الذي تتفتق فيه المواهب والمشاعر
العشيقة، أشبه بعطر فواح، وأريج مروج، هي كظل الغابة الكثيفة الأشجار، والملاذ من الصخب، والضجر، والعالم الذي تتفتق فيه مشاعر الرجل . هي حجر الزاوية في مجموعة الكرسي الأزرق نظرا للكيفية التي كتبت بها النصوص، التي تضمنت الشذرات الخاصة بالموضوع.
ففني نص "بدون ستائر" ص8، تبرز لوعة الفراق "تمنت من أعماق قلبها لو يعودا لرائحة البحر، ولجنون الفجر بعيدا عن أعين النهاريين" حيث كان المونولوغ سيد الموقف ، الذي أبرز أحاسيس صادقة ، لم تستطع الكلمات المباشرة التعبير عنها، جهرا، وأجمل ذكرى يحتفظ بها البطل، تجلت في رمزية "قارورة العطر التي نسيتها في جيب جاكيتته" ص8، والتي تشكل تذكارا ، كلما نظر إليه، تذكرها، ولحظات متعتهما الخالدة … كما تظهر صورة العشيقة بشكل افتراضي، من خلال نص "رسالة حب" ص22 التي بدت فيه البطلة ثملة "شربت ما يكفي من البيرة وكتبت لعينيه البنيتين" وقد أبرز مضمون الرسالة حقيقة النظر إلى الآخر، مع استحضار أحكام مسبقة عليه، ومثقلة بشروط أساسية، مملاة على شاكلة نصوص قانونية أو بنود، تحدد شروط العلاقة المفترضة ، ومعالم اللقاء الذي لم يحدث قط، وهو ما أبرز مدى استهتار العشيقة، ونيتها المغرضة، ومزاجها اللعوب، وأنثويتها التواقة إلى الآخر، المتجسدة فقط في أمانيها ، ورغباتها التي تصل حد التملك، والاستغلال بنية مقصودة "ليس ضروريا أن نستحضر الجسد، رغم أهميته .. ندردش .. نشرب الكابتشينو، ونتعشى بالمطعم السوري" ص22.
إن قصدية تغيب العلاقة الجسدية، قد يكون منطقيا، لكن من خلال النص، كان محاولة للاستفزاز، والتمويه، ما دامت للجسد لغته، وللحواس حقولها المغناطيسية التي تتفاعل معها، ومن خلالها مع الآخر، إما سلبا أو إيجابا، بشكل طبيعي، وأحيانا عفوي. فهي المحددة لدرجة الانجذاب، وقوته، وصدقه. إن محاولة مقاومة الغريزة بإعاقتها في غياب الوازع، تكون مقاومة مصطنعة ، ووهمية، وعائق من قبيل المحال .. يعبر عن مدى الخطأ في التقدير، والحكم على ذات الآخر غيابيا ، وإعدام حواسها عمدا "لدي خيال واسع، يجعلني أحلق عاليا وأحلم كثيرا" ص22 ليبقى العنوان ذال على غير مضمون النص ، الذي تجب قراءته بضد مدلوله …
أما في قصة "كرز" ص31، فاشتهاء جسد طامو الذي شكل موضوعا، ونهديها الشبيهان بالكرز، هما محور اللعبة التي ابتدأت بحب الكرز، وتلمضة، لينزاح المعنى حول مفاتنها ، التي أضحت على شاكلة كرز لذيذ، انتهى بذوقه. في حين رصدنا في نص "طوارئ" ص36 احتراق جسد البطلة (العشيقة …) النابع من فرط الانتظار المرير، والقاتل، وما يسببه من صراع النفس مع رتابة الزمن "التاسعة لا أحد .. العاشرة ولا … أحد بالباب" وهي مسافة زمنية تمططت كثيرا، وعصفت في النهاية مع اعتذار العشيق "ورن هاتفها الخلوي .. أعتذر .. مداومة طارئة" ص36، بأعصاب البطلة، وصعقتها. وهي حالة من حالات الموت البطيء للرغبة، والجسد على السواء.
أما في نص "أغلق عينيك" ص66، فيتحدث عن رسالة حب، لكن مضمونه مختلف على النص السالف الذكر، وبحيث يستحضر احتراق البطلة، وتوقها لتحقيق متعة اللقاء الأول ، الذي لم يتم ، بسبب سقوطها وبالتالي موتها "كان الظلام قد تسلل إلى عينيها" ص66.
المرأة : مصدر الإلهام داخل العوالم الساحرة:
شكلت الجدة في نصوص القاص عبد الله المتقي، كمصدر إلهام أساسي للحكي، سواء في حياتها أو حتى بعد وفاتها، وأول نص يطالعنا في ص 15 "داده" يقول "يتسرب خبر وفاتها من خلال العمة كالصاعقة، ملفوفا بالحسرة والبكاء "دادة "ماتت" غرقت عينياي في الدموع حتى نشفت الدواة" لقد كان المصاب الجلل الذي ألم بأسرة السارد بليغا جدا، وكان بالنسبة إليه مناسبة، لاستلام شعلة الحكي بكل قداستها، ورمزيتها سواء زمانيا ، أو مكانيا "في الليل، تسللت جدتي من النافذة، تربعت على الحصير، ضمتني إلى صدرها الحامض، قبلتني كما لو مصتني، وبعدها جمعت حكاياتها في سلة همست في أذني : البقية في أجياتك، وأغلقت الباب خلفها برفق" ص15.
إن زمن تسلم السارد لمشعل الحكي، تم ليلا عبر حلم، أو رؤيا في نفس الغرفة التي كانت تتربع فيها، وتستهل حكايتها المشوقة ، وكان التسليم وديا، ودافئا، وعفويا، وبسيطا، “جمعت حكايتها في سلة همست في أذني البقية في أجياتك “أو حكاياتك ، ليتحقق بذلك الاستمرار الذي سيكون دوما ، وأبدا للحكي، وفاء لروح الجدة ، ولذكراها الممتلئة باللذة، والحب، والحنان، فهي "المفتاح" ص17، الذي ضاع، وعقيق السبحة الذي انفرط، وليبدأ السارد في جمع شتاته حبة، حبة.
لقد كانت علاقة السارد بالجدة وطيدة، ويحظى بمكانة خاصة لديها على خلاف أخته "وحين تنام أختي، تمنحني جدتي مفتاح ذاكرتها اللذيذة، تدغدغني بالقبل، وتغلق الباب خلفي" ص17، فولوج عوالم الجدة الساحر، كان مجانيا بدون تذاكر من شباك، لا حدود لمتعته "أرى هنية تتوسل الغول فوق سرير من قصب .. وأبكي من الضحك لشغب احديدان" ص17، وبذلك تكون الجدة قد شكلت ملمحا مهما، وطابعا أساسيا، ساهم في تشكيل تصورنا الخاص ، عن نساء طبعن ذاكرة السارد، اختفت فيه ملامح الجسد الجذاب ، وحلت محله روعة السرد الشفيف، والأنيق، بروحها الطاهرة، العاشقة ، المسكونة بالجذبة، يقول في نص بيض ص39 تحتسي جدتي الكحوليات الروحية بعطش، تسكر، تجدب .. تنتشي من الجذبة.. من الأنين .. من البكاء المكتوم، وهي جدة كذلك ، لا زالت أسيرة ، ووفية لكثير من عاداتها، وانشغالاتها القديمة فهي "بعد نوم الجد" تنكب خلف المنسج كي تصنع (له) جلبابا كما جاء في قصة منسج ص46.
تركيب واستنتاج :
إن ثراء المتخيل عند القاص عبد الله المتقي، مكننا من الوقوف على معاناة المرأة من خلال مجموعة من النصوص، التي تلافت المس بكرامتها، أو شخصها، مترفعا عن النظر إليها بشكل قدحي، أو دوني، مبرزا عن وعي مسبق، مدى انشغاله الكبير بوضعها الحرج ، الذي يتطلب جهدا كبيرا، للرقي بواقعها ، بالعمل على تغييره، منتقدا بشكل ضمني العقلية الذكورية ، التي لا ترى فيها سوى ملاذ اللذة، والمتعة، وتفريغ المكبوتات، (من قمع/وعنف/وإقصاء …) .كما انتقد بشكل ساخر، مدونة الأسرة التي يرى أنها ظلت مجرد حبر على ورق ، لعدم قدرة المسؤولين على تقريب مفاهيمها ، ومضامينها من كل الفئات الشعبية ، وسكان البوادي على الخصوص، كما جاء في نص "مدونة" ص48.
إن رسائل الكرسي الأزرق، تنحو بنا نحو التأمل العميق، الذي يفرض إعادة النظر في مقاربتنا للنوع الاجتماعي، من زاوية نظر واحدة، وتدعونا إلى الحفر عميقا في الموروث الثقافي، حول المرأة ، لأن فيه اختزال لأدوارها بشكل مبسط، وأحيانا قدحي، لا يرقى إلى مستوى حيوان أليف. وبالتالي يجب إعادة النظر في كثير من المسلمات المغلوطة حولها، باعتبارها الأم، والأخت، والأجنة، والزوجة، والجدة والصديقة، والزميلة، لأنها نصف المجتمع ، بل أساسه، وصلاحه، وبذلك تسترد المرأة صوتها المغيب ، وكلامها المبحوح، وتبدي مواقفها عن وعي، وهو وعي ، يتقاطع بشكل مطلق ، مع الوعي الإنساني.
لقد استطاع القاص عبد الله المتقي، رسم ملامحها المتعددة ، بلغة شفافة ، وبسيطة حينا، وعالمة أحيانا أخرى، منحت من الموروث الثقافي المغربي بصفة عامة والمحلي بصفة خاصة.
كما لم يكتف بالوصف الظاهري لها، بل تمكن من التوغل عميقا في نفسيتها، مبرزا فرحها، وقرحها، وإحباطاتها، وتدمرها، واحتراقها، وشغفها، وحبها، وإخلاصها، بمشاعر صادقة، لتعرية زيف الواقع، وكشف حقيقة باطنه، ارتكازا على توظيف أدق الخصوصيات، التي تم تمرير صورها، من خلال نصوص قصصية قصيرة جدا، بأبعاد، ومعان كبيرة جدا. ليبقى الكرسي الأزرق، يتبادل الأدوار مع سارد النص، ومبدعه … يتوارى حينا، ويغيب أحيانا أخرى، متأملا لكل النساء، وهو مقطب جبينه، واقف على رجليه، أو جالس على كرسيه الأزرق، وعرش حكيه …
ركاطة حميد
السيدة جاكي نموذجا مصغرا للكثيرات من النساء الأجنبيات، المقيمات في المغرب ، منعزلات في أبراجهن العاجية بعيدا عن الواقع، داخل عوالمهن الخاصة، دون الجرأة على النزول إلى جس نبض الحياة الصاخبة بالشارع العام، يسقطن أحكامهن الجاهزة ، من خلال مشاهداتهن، وتأملاتهن الخاصة ، البعيدة كل البعد عن الحقيقية.
إنه نوع من الحرمان، والهذيان ، الذي يطال الجسد، والروح على السواء، فيحولهما إلى شبحينين فاقدين لكل ملمح، وهو نوع من تسليط القهر على الذات ، بالحبس الإرادي، والانعزال القاتل.
المرأة والرغبة :
يشكل جسد المرأة موضوعا للشهوة، والرغبة الماكرة، بحيث تتم مراقبتها دون انقطاع من طرف مصطاف "المرأة تختفي حين تظهر، تصفع الماء برفق، تضحك، يتصبب جسدها مطرا مالحا" ص11، وهي مراقبة لصيقة لأدق حركاتها، وتفاصيل جسدها، وصلت إلى حد من التلصص ، بل السرقة أحيانا، تشترك فيها كل الحواس، وتبرز انفعالا خفيا "الرجل يلتهم جسدها بعينيه" ص11، ومكرا كبيرا من خلال الإغواء بالابتسامة المغرضة الموحية "يبتسم الرجل، وتبتسم المرأة" ص 11.
لم يقف مكر اللغة عند هذا الحد، بل تعمد القاص، استرساله في الموضوع ، وارتقى بالقارئ إلى درجة التصوف اللغوي، مرغما إياه على استكشاف المبطن والمستور، بعد توريطه
المرأة جزيرة زرقاء
رخات ويتساقط المطر
فرن يتسلل
إلى آخره …
إن إلهاب حماس القارئ، وإثارة تطفله، بقطع شريط الحدث بغتة، يقحمه ضمنيا، وعلى قدم المساواة مع بطل أو بطلة النص، يخلع عليه جبة الحكي، التي لن يطول ارتداؤها سوى للحظات، ليقف بكل انتظاراته "وظل الرجل يتكلم، مثلما الشعراء، ومجانين الزرق" ص11.
إن الصورة المقدمة عن الجسد الفاتن (المرأة) الجزيرة الزرقاء هي صورة بقدر ما هي فاتنة، هي كذلك غامضة، غموض مشاعر كل النساء، وشخصياتهن، وتمنعهن المصادر، وهو ما يبرز الشرك الذي وقع فيه البطل، وهوسه الذي وصف بكونه "مثلما الشعراء ومجانين الزرق" ص11، وهي صورة رجل حالم محلق في جنانه، تسوقه النزوة نحو اقتحام عوالم الطمأنينة ، لاعتقاده أنه أدخل طائره القفص، متناسيا أنه قد غرق من قبل في غواية جزيرتها الزرقاء للأبد.
المرأة الكاريزمية :
لقد طفت هذه الصورة في نص "مساء" ص32، فالمرأة بدهائها وقوة شخصيتها كانت تساير الرجل في كل حماقاته، تركب موج هذيانه ، وهي متأكدة من تحقيقها لهدفها، فجاءت قليلة الكلام، ذات قدرة كبيرة على الصبر، والاستماع، وبالتالي الاستماع إلى كل الهلوسات يقول "إو دبا فين نمشيوا" ص32، وكأنها تصمت العالم الصاخب، وتمحيه بلمستها السحرية، فيتبد الصوت القوي الذي ظل مسيطرا، وطاغيا على مجريات الأحداث .ويبدو أن الحيز العظيم الذي احتلته سرعان ما اتسعت آفاقه وتحددت بدقة، وكأنها كانت منذ البداية، تفصل الحدث على مقاس تطلعاتها "كعادتها لم تجاريه في جنونه، فقط، اكتفت بإبداء اندهاشها وبتهريبه جهة البحر"ص33.
أما في نص "عرس الذئب" ص37 فقد اتخذت المرأة صورة الأرض القاحلة، والبورية التي استبد بها الجفاف طويلا، فكانت "تمشي متمهلة فوق رأسها مظلة مثقوبة" ص37، محيلا إيانا على فئتها الاجتماعية كامرأة مقهورة ومسحوقة، بتصرفها الغير عادي ، على اعتبار أن رغبة جسدها في التلذذ بقطرات المطر، كان ناتجا عن حاجة نابعة من أعماقها، تغتسل من أدران كبتها، استجابة لرغباتها المقموعة، كأنها في وصلة روحانية، أو علاقة حميمية مع عشيق متخيل "المطر" تلك القوة الهائلة النازلة من الأعلى مخترقة "أماكن ملغومة، وقابلة للانفجار في أية لحظة" ص37، لتتمرد على كل حواسها الخارجية تبطل مفعولها، وتسدل سائر سميكة على محيطها، لتعيش لحظة الانتشاء، والمتعة، لتعوض عن حرمانها ف"ترمي المرأة بالمظلة وتستسلم لعرس الذئب الذي تنتظره من سنين عجاف" ص37.
المرأة المغبونة : غواية الحلم
في نص "نافذة القطار" صور المشهد من خلال حوار صامت، وكأننا إزاء لقطة سينمائية ترصد المشاعر المبطنة الممزوجة لجذر كبير، تبرز لغة داخلية – مونولوغ – تقشر زيف الظاهر، وتكشف عن عمق الباطن بشفافية كبيرة، فالمرأة "أمعنت النظر في تقاسيم وجهه" كان شاربه متناسقا ص42، وهي لغة تقنية تحاول من خلالها رصد مفاتن الجالس أمامها مبرزة حركاته نوعا من العياء، بسبب طول انتظار، وعن مكر مسبق لرد واضح لرسالته "رمى جريدته برفق فوق حقيبتها" ص42، التي كانت موضوعة فوق كرسي، مقابل له في محاولة جريئة لفتح حوار، أو نقاش من نوع ما. كما أن الحركة في حد ذاتها ، تبرز نية مسبقة ومغرضة، جريدة فوق حقيبة، كانت بمثابة دعوة نابعة من رغبة داخلية، وتطاحن حفي ممزوج بتوتر خفيف عنوانه الاستفزاز ، الذي تم تصويره بدقة "كعجلات القطار التي كانت تداهم القضبان الحديدية بنهم، محدثة أصواتا صاخبة ومتناغمة" ص42 كلحظة التحام عاشقين متيمين، استسلما لنداء الحواس، والغرائز، رغم تناقض الطباع (الصخب#التناغم) وكأن فعل إغماض العينين "أغمضت عينيها" كان بمثابة سفر داخل حلم لذيذ، وجميل ، فسح الفرصة للرجل "ليتأمل شفتيها البنيتين (و) وصدرها المنتفخ" ص42، في محاولة لتأجيج رغبته بقوة، وإجباره على الاستسلام الماكر ، الذي تم التعبير عنه ضمنيا "بعجلات القطار (التي) تدور بسرعة الضوء"ص42، كأنه التحام سرمدي ، بين دواتين ملتهبتين وجامحتين، كل منهما تنظر إلى الآخر من زوايا معتمة، المرأة محتفظة بملامح الرجل الذي اختطفتها خلسة، لتحلق بها نحو عوالمها الداخلية، والرجل بالشفتين والصدر المنتفخ، كأنيس في رحلته المشوقة، التي توقفت، بتوقف القطار في محطته، بينما المرأة طال زمن متعتها، واستمر لتستيقظ لا قبل المحطة الأخيرة بدقائق (لتجده قد) نزل ص43، ليستمر غبنها حتى المحطة الأخيرة يتخبطها الإحساس بنوع من الغبن، والندم على إضاعة فرصة ثمينة، ولقاء لن يتكرر …
المرأة والمرآة .. سفر نحو الداخل :
في نص مرايا نجد حفرا في تضاريس العقلية النسائية، بمتحه الكبير من نفسيتها المعقدة، وتصويره الدقيق لتصرفاتها النابعة من إحساساتها المتناقضة، فالمرآة العاكسة دوما للحقائق، والكاشفة للإحساسات الغائرة منها المزيفة أو الحقيقية تكتنف المرأة في مواجهتها برهبة وشعور خاص، بحيث تنتقي تلك المسافة ويموت الإحساس بالزمن، بل يتوقف، باعتبارها المقياس الحقيقي لهن للكلام عن الذات، مفاتنها، قبحها، جمالها، مكرها، جنونها في لحظات خلوة، يبرز من خلالها تأرجحهن بين الشك القاتل، واليقين المزيف الذي تحاول كل منهن تأكيده، من خلال سؤال الآخر (الرجل) عن مستوى جمالها ودرجته، فيكون جواب المرآة المزيفة وكأنه منتظرا ومطلقا تلبية لحاجات الهوس الدفينة "أنت جميلة".
ورغم تبديد الآخر للشك الذي يكون منافيا للحقيقة التي تعكسها المرآة فاقتناع المرأة المزيف يلفه دوما خداع بوجهة نظر الآخر، التي تعتبره أساسيا.
ومن خلال النص تتجسد علاقة المرأة بالمرآة، ففي حالة المرأة الأولى، يندرج مفهوم الاستعمال ضمن منظومة عالم السحر والشعوذة "دست للرجل مرآة تحت مخذته، كي يبرد" فعلاقة المرأة بالمرآة، تتحدد انطلاقا من مخزون ثقافي نسائي خاص، منتشر بشكل قوي داخل الأوساط الشعبية وبمفهومه الجنسي المتمثل في كبح جماح الرجل وثنيه عن النظر لامرأة أخرى، في حين كانت لعلاقة المرآة ، بالمرأة الثانية من منظور حسي جمالي، فهي تواقة إلى تحسين صورتها ومظهرها، بحثا عن جمال أفل تقده قدا، باستعمال المساحيق، في محاولة للظهور، بمظهرها المزيف والفاتن، حتى تحسن، وتهذب صورتها ، لتظل مقبولة أو مرغوب فيها، وكأنها في رحلة مجنونة، محمومة وراء السراب، أما المرأة الثالثة /،لتي كانت "عند بائع العطور، فعقدت معه ميثاقا غليظا" ص44، انطلاقا من هوسها، وعادتها السيئة، التي لا يمكن التخلي عن ممارسة طقوسها بسهولة، بحثا عن الجاذبية المفتقدة والإثارة المفتعلة، وهي حالات عكست بصدق، نفسية الأنثى في سعيها ، وجريها داخل حلبة الغواية القاتلة ."أما المرأة الرابعة فكسرتها، واحتفظت بنصف في حقيبتها، ووضعت النصف الآخر في يد زوجها، حين كان يقشر البصل جانبها بالمطبخ" ص44، وهو ما أبرز عدوانية الطبع، وقوة التسلط ، التي لا تحتاج فيه المرأة لتحسين مظهرها من أجل الرجل، بل يحتاج فيه الرجل ، إلى مجرد كلمة طيبة ، تذيب فصول معاناته، وقهره، لتضميد جروحه الغائرة …
إن نص مرايا، يعكس طبائع النساء، وصراعهن الأبدي مع الزمن، والطبيعة ، والرجال، في محاولتهن للحفاظ على الجمال الآفل، والشباب المنفلت، بمرارة وتحايلهن الغامض على الحقيقة، ليبقى نص مؤامرة لا محدودة مجاليا، أو زمانيا، أو نفسيا، ضد قهر من نوع خفي … لكنه محتوم ..
الأم : الوجه والقناع
لم نعثر على صورة الأم سوى في نصين، الأول "جسد حواء" ص27، والثاني فطوكوبي ص57، ففي النص الأول تم تصوير الأم التي كانت تستحم عارية في المرحاض، وشبهت بالإنسان البدائي، بحيث أن النظر إلى جسدها العاري على غير العادة، ولد الخوف والرهبة، والاندهاش لدى الطفل السارد، وبالتالي كان إقدامه على تكسير خصوصيتها بالتلصص عليها، عملية مشوبة بكثير من الخطورة، والجرأة في نفس الوقت، لما ينتظره من عقاب ، وهو ما تم التعبير عنه “في انتظار حزام مزركش بالعقيق، قد يطبخني، ويترك الباقي لنار هادئة ص27،.
إن النظر إلى الجسد العاري كليا، يدخل في باب المحرمات، والممنوعات، حسب المرجعية المحافظة ، أو التقليدية، نظرا لما يمكن أن يشكل ذلك من تصورات فجة ، أو قدحية تخدش ذاكرة الطفل، الذي قد لا يجد اللغة المحتشمة للتعبير عن مفاتنه بشكل لبق، ومهذب، فالجسد العاري في تصور السارد ، كان كإنسان بدائيا، رغم ما يمكن أن نضعه من تحفظ حول هذه التسمية، فالطفل كسر عامل الخصوصية بسلوك قصدي "نظرت من فرجة باب المرحاض" ص27، كما أنه تمادى في استراق النظر، "واستحليت المشهد" ص27، مما يدل على كونه ، كان أقرب إلى راشد نسبيا، وهنا يكمن باب القصدية، فالعلاقة بالأنثى، ومفاتن جسدها تبقى طابوها، وحقلا يحرم اختراقه مطلقا.
غير أن هذا الوجه الغير متسامح، والقاسي نسبيا في ردود أفعال الآخرين اتجاه سلوك عفوي/قصدي … سرعان ما سوف يتبدد مع نص آخر "فطوكوبي" ص57، بحيث ترتسم لنا صورة الأم المكافحة، التي تعمل كل ما في وسعها لتشجيع ابنها، على التحصيل، والدراسة، فالنص يبرز أسرة فقيرة، بائسة ، جائعة، لكنها ترفض الاستسلام، وتقاوم القهر ، وقلة ذات اليد، فالأم "تقبع في ركن من أركان الغرفة، تخيط بالإبرة محفظته الجلدية"ص57، وهي نموذج للإنسانة المغبونة ، والمنهوكة بأثقال الأعمال المتعددة، وغير المحدودة مجاليا، لكن علاقتها بابنها مبنية على الحب والجلد، وغرس الثقة في النفس والاعتزاز بها …
العاهرة أو سلطة الإثارة بين لذة الحواس ، ولذة الجسد :
لم تفت القاص عبد الله المتقي الإشارة إلى نوع آخر من النساء، اللواتي يشكل أجسادهن غواية مطلقة، وفتنة عارمة، ففي نص "كابتشينو" ص20 تلعب إثارة الجسد دورا كبيرا في تحريك سياق النص منذ البداية "كان العرق يندلق على جسديهما، في غفلة من العالم الناشف" ص20 بحيث تم تصوير الانفعالات الداخلية بقوة "تتكوم المرأة في الزاوية اليمنى … يتكور الرجل في الزاوية اليسرى، يدخن بشراهة سيجارة شقراء" ص20، ونلاحظ أن وصف القاص للمرأة (الشخصية) تم دون خدش للمشاعر، أو تجريح في الوصف، داخل فضاء خاص، لإضفاء مسحة المألوف على الواقعة، لتمرير صورها بسهولة، مع الحفاظ على التفاصيل الأساسية التي تمنح للجسد بصفة خاصة، قوته ومفعوله ، وغوايته، وسلطته المطلقة .وهو ما تجسد بصورة جلية في المشهد الأخير "ثم ريثما يحتسيان الجعة الألمانية، ويتلمظان الفستق" ص20.
في حين لعب الوصف في نص "الكرسي الأزرق" ص67، دورا كبيرا في تقريب صورة الجسد الجميل والجذاب، من خلال تقنية الاسترجاع حيث يقول السارد "لأن هذه المرأة التي تجفف جسدها، كانت تموء كهرة قبل قليل، وتنشب أظافرها بين كتفيه ص67، فإبان لحظات انتشاء، يفرز الجسد كيميائه، ولغته للوصول إلى مرقاة المتعة، واللذة، وهي لذة الروح، والحواس لا لذة، الجسد.
لكن سرعان ما تختفي هذه الصور، التي تبدو من زاوية التقاطها، وكأنها مباشرة، لينجو بنا القاص عبد الله المتقي عبر تقنية الاسترجاع باحترافية كبيرة وهو يفتح في نص "غرفة للذكريات فقط" ص51 ألبوما لذكريات عاهرة ، وهي في أرذل العمر يقول " تغرس رأسها تحت المخذة كي تسلم نفسها للذكريات" ص51، وسوف يتم توظيف كلمتين (السرير والمرآة) كركيزتين أساسيتين لبناء النص، على اعتبار الأولى مختبر للعمليات الفعلية، والثانية مجالا للتحضير القبلي للجسد ، وانعكاس للحقيقة "تفرست … وجهها في المرآة … أصبحت كالمرض المعدي يتحاشاها الجميع" ص52.
إن الجسد الذي راهنت صاحبته طوال حياتها، على لحظات اللذة ، والمتعة، هو نفس الجسد الذي أضحى مصدرا للنفور، والمعاناة، والسقم، والوحدة، بعد تحوله إلى مبيد قاتل، وصاحبته ككتاب وجع ، للذكريات المريرة، بعدما ترهل جلدها، وأصبحت غير مرغوب فيها لتفقد الحواس لذتها، والإثارة مطلق سلطاتها …
الزوجة : بين المعاناة من الخيانة والنفور من الحياة الركيبية
من بين النماذج النسائية التي ورد ذكها في الكرسي الأزرق، مثلت الزوجة نموذجا للمرأة التي تعاني من خيانة الزوج، تلفها ذكراه الممزوجة بالحسرة، كلما استرجعتها، بحيث يطالعنا نص "محو" ص25 بقتامة ذكريات سيدة عن زوجها الذي توفي في حادثة سير، وانمحت صورته وهي تسترجع وقع الخيانة عليها، لا يبدو منه سوى "صورته وهو ممدد على المنجورة .. جثة القحبة النحيفة .. وقنينات الجعة التي ضبطها الدرك في السيارة" ص25، وهو مشهد مؤلم، جسد عذابات الشريكة، ونفسيتها الممزقة باستمرار ممزوجة بحسرة السنوات التي قضتها في غفلة تامة معه، مثمرة زمرة من الأطفال كعبء مضاف، يزيد من ثقل حملها وكضريبة لإخلاصها، وتفانيها في خدمته.
في حين رسم نص "علبة زرقاء" ص50 بقوة، رتابة عيش الزوجة وبحثها عن التغيير خارج أسوار المنزل، فقصدت مع زوجها فندقا "كانا يتفرسان أشياء الغرفة 13 كما لو أنهما هبطا من كوكب آخر" ص50.
لم يكن تغيير الغرفة كافيا لإضفاء جو حميمي خاص على علاقتهما، فظلت "هي تشكو من قصعة ظهرها .. وهو من أرق البارحة .." ص50، ورغم محاولة الشريك الذي "تسللت أصابعه إلى عرصة صدرها" لخلق نوع من الإثارة، فقد قوبلت ببرودة، ونفور كبيرين "تملصت منه برفق، وانسحبت إلى مرآتها .. بذلا مجهودا لذيذا ضد الشكوى والأرق" ص50.
إن رمزية النص، وإثاراته كانت بليغة، بحيث يبرز الحالة النفسية التي تعيد إلى الأذهان ، واقعا مريرا وخطيرا. وتشكل سببا من أسباب نزوح الكثير من الأزواج، للبحث عن الخلاص في جسد آخر، وعن متعة مقتنعة بالقوة، خارج إطار العلاقة الزوجة، فالتغيير يجب لمسه في الداخل في المشاعر اتجاه الآخر (الشريك).
العشيقة أو العالم الذي تتفتق فيه المواهب والمشاعر
العشيقة، أشبه بعطر فواح، وأريج مروج، هي كظل الغابة الكثيفة الأشجار، والملاذ من الصخب، والضجر، والعالم الذي تتفتق فيه مشاعر الرجل . هي حجر الزاوية في مجموعة الكرسي الأزرق نظرا للكيفية التي كتبت بها النصوص، التي تضمنت الشذرات الخاصة بالموضوع.
ففني نص "بدون ستائر" ص8، تبرز لوعة الفراق "تمنت من أعماق قلبها لو يعودا لرائحة البحر، ولجنون الفجر بعيدا عن أعين النهاريين" حيث كان المونولوغ سيد الموقف ، الذي أبرز أحاسيس صادقة ، لم تستطع الكلمات المباشرة التعبير عنها، جهرا، وأجمل ذكرى يحتفظ بها البطل، تجلت في رمزية "قارورة العطر التي نسيتها في جيب جاكيتته" ص8، والتي تشكل تذكارا ، كلما نظر إليه، تذكرها، ولحظات متعتهما الخالدة … كما تظهر صورة العشيقة بشكل افتراضي، من خلال نص "رسالة حب" ص22 التي بدت فيه البطلة ثملة "شربت ما يكفي من البيرة وكتبت لعينيه البنيتين" وقد أبرز مضمون الرسالة حقيقة النظر إلى الآخر، مع استحضار أحكام مسبقة عليه، ومثقلة بشروط أساسية، مملاة على شاكلة نصوص قانونية أو بنود، تحدد شروط العلاقة المفترضة ، ومعالم اللقاء الذي لم يحدث قط، وهو ما أبرز مدى استهتار العشيقة، ونيتها المغرضة، ومزاجها اللعوب، وأنثويتها التواقة إلى الآخر، المتجسدة فقط في أمانيها ، ورغباتها التي تصل حد التملك، والاستغلال بنية مقصودة "ليس ضروريا أن نستحضر الجسد، رغم أهميته .. ندردش .. نشرب الكابتشينو، ونتعشى بالمطعم السوري" ص22.
إن قصدية تغيب العلاقة الجسدية، قد يكون منطقيا، لكن من خلال النص، كان محاولة للاستفزاز، والتمويه، ما دامت للجسد لغته، وللحواس حقولها المغناطيسية التي تتفاعل معها، ومن خلالها مع الآخر، إما سلبا أو إيجابا، بشكل طبيعي، وأحيانا عفوي. فهي المحددة لدرجة الانجذاب، وقوته، وصدقه. إن محاولة مقاومة الغريزة بإعاقتها في غياب الوازع، تكون مقاومة مصطنعة ، ووهمية، وعائق من قبيل المحال .. يعبر عن مدى الخطأ في التقدير، والحكم على ذات الآخر غيابيا ، وإعدام حواسها عمدا "لدي خيال واسع، يجعلني أحلق عاليا وأحلم كثيرا" ص22 ليبقى العنوان ذال على غير مضمون النص ، الذي تجب قراءته بضد مدلوله …
أما في قصة "كرز" ص31، فاشتهاء جسد طامو الذي شكل موضوعا، ونهديها الشبيهان بالكرز، هما محور اللعبة التي ابتدأت بحب الكرز، وتلمضة، لينزاح المعنى حول مفاتنها ، التي أضحت على شاكلة كرز لذيذ، انتهى بذوقه. في حين رصدنا في نص "طوارئ" ص36 احتراق جسد البطلة (العشيقة …) النابع من فرط الانتظار المرير، والقاتل، وما يسببه من صراع النفس مع رتابة الزمن "التاسعة لا أحد .. العاشرة ولا … أحد بالباب" وهي مسافة زمنية تمططت كثيرا، وعصفت في النهاية مع اعتذار العشيق "ورن هاتفها الخلوي .. أعتذر .. مداومة طارئة" ص36، بأعصاب البطلة، وصعقتها. وهي حالة من حالات الموت البطيء للرغبة، والجسد على السواء.
أما في نص "أغلق عينيك" ص66، فيتحدث عن رسالة حب، لكن مضمونه مختلف على النص السالف الذكر، وبحيث يستحضر احتراق البطلة، وتوقها لتحقيق متعة اللقاء الأول ، الذي لم يتم ، بسبب سقوطها وبالتالي موتها "كان الظلام قد تسلل إلى عينيها" ص66.
المرأة : مصدر الإلهام داخل العوالم الساحرة:
شكلت الجدة في نصوص القاص عبد الله المتقي، كمصدر إلهام أساسي للحكي، سواء في حياتها أو حتى بعد وفاتها، وأول نص يطالعنا في ص 15 "داده" يقول "يتسرب خبر وفاتها من خلال العمة كالصاعقة، ملفوفا بالحسرة والبكاء "دادة "ماتت" غرقت عينياي في الدموع حتى نشفت الدواة" لقد كان المصاب الجلل الذي ألم بأسرة السارد بليغا جدا، وكان بالنسبة إليه مناسبة، لاستلام شعلة الحكي بكل قداستها، ورمزيتها سواء زمانيا ، أو مكانيا "في الليل، تسللت جدتي من النافذة، تربعت على الحصير، ضمتني إلى صدرها الحامض، قبلتني كما لو مصتني، وبعدها جمعت حكاياتها في سلة همست في أذني : البقية في أجياتك، وأغلقت الباب خلفها برفق" ص15.
إن زمن تسلم السارد لمشعل الحكي، تم ليلا عبر حلم، أو رؤيا في نفس الغرفة التي كانت تتربع فيها، وتستهل حكايتها المشوقة ، وكان التسليم وديا، ودافئا، وعفويا، وبسيطا، “جمعت حكايتها في سلة همست في أذني البقية في أجياتك “أو حكاياتك ، ليتحقق بذلك الاستمرار الذي سيكون دوما ، وأبدا للحكي، وفاء لروح الجدة ، ولذكراها الممتلئة باللذة، والحب، والحنان، فهي "المفتاح" ص17، الذي ضاع، وعقيق السبحة الذي انفرط، وليبدأ السارد في جمع شتاته حبة، حبة.
لقد كانت علاقة السارد بالجدة وطيدة، ويحظى بمكانة خاصة لديها على خلاف أخته "وحين تنام أختي، تمنحني جدتي مفتاح ذاكرتها اللذيذة، تدغدغني بالقبل، وتغلق الباب خلفي" ص17، فولوج عوالم الجدة الساحر، كان مجانيا بدون تذاكر من شباك، لا حدود لمتعته "أرى هنية تتوسل الغول فوق سرير من قصب .. وأبكي من الضحك لشغب احديدان" ص17، وبذلك تكون الجدة قد شكلت ملمحا مهما، وطابعا أساسيا، ساهم في تشكيل تصورنا الخاص ، عن نساء طبعن ذاكرة السارد، اختفت فيه ملامح الجسد الجذاب ، وحلت محله روعة السرد الشفيف، والأنيق، بروحها الطاهرة، العاشقة ، المسكونة بالجذبة، يقول في نص بيض ص39 تحتسي جدتي الكحوليات الروحية بعطش، تسكر، تجدب .. تنتشي من الجذبة.. من الأنين .. من البكاء المكتوم، وهي جدة كذلك ، لا زالت أسيرة ، ووفية لكثير من عاداتها، وانشغالاتها القديمة فهي "بعد نوم الجد" تنكب خلف المنسج كي تصنع (له) جلبابا كما جاء في قصة منسج ص46.
تركيب واستنتاج :
إن ثراء المتخيل عند القاص عبد الله المتقي، مكننا من الوقوف على معاناة المرأة من خلال مجموعة من النصوص، التي تلافت المس بكرامتها، أو شخصها، مترفعا عن النظر إليها بشكل قدحي، أو دوني، مبرزا عن وعي مسبق، مدى انشغاله الكبير بوضعها الحرج ، الذي يتطلب جهدا كبيرا، للرقي بواقعها ، بالعمل على تغييره، منتقدا بشكل ضمني العقلية الذكورية ، التي لا ترى فيها سوى ملاذ اللذة، والمتعة، وتفريغ المكبوتات، (من قمع/وعنف/وإقصاء …) .كما انتقد بشكل ساخر، مدونة الأسرة التي يرى أنها ظلت مجرد حبر على ورق ، لعدم قدرة المسؤولين على تقريب مفاهيمها ، ومضامينها من كل الفئات الشعبية ، وسكان البوادي على الخصوص، كما جاء في نص "مدونة" ص48.
إن رسائل الكرسي الأزرق، تنحو بنا نحو التأمل العميق، الذي يفرض إعادة النظر في مقاربتنا للنوع الاجتماعي، من زاوية نظر واحدة، وتدعونا إلى الحفر عميقا في الموروث الثقافي، حول المرأة ، لأن فيه اختزال لأدوارها بشكل مبسط، وأحيانا قدحي، لا يرقى إلى مستوى حيوان أليف. وبالتالي يجب إعادة النظر في كثير من المسلمات المغلوطة حولها، باعتبارها الأم، والأخت، والأجنة، والزوجة، والجدة والصديقة، والزميلة، لأنها نصف المجتمع ، بل أساسه، وصلاحه، وبذلك تسترد المرأة صوتها المغيب ، وكلامها المبحوح، وتبدي مواقفها عن وعي، وهو وعي ، يتقاطع بشكل مطلق ، مع الوعي الإنساني.
لقد استطاع القاص عبد الله المتقي، رسم ملامحها المتعددة ، بلغة شفافة ، وبسيطة حينا، وعالمة أحيانا أخرى، منحت من الموروث الثقافي المغربي بصفة عامة والمحلي بصفة خاصة.
كما لم يكتف بالوصف الظاهري لها، بل تمكن من التوغل عميقا في نفسيتها، مبرزا فرحها، وقرحها، وإحباطاتها، وتدمرها، واحتراقها، وشغفها، وحبها، وإخلاصها، بمشاعر صادقة، لتعرية زيف الواقع، وكشف حقيقة باطنه، ارتكازا على توظيف أدق الخصوصيات، التي تم تمرير صورها، من خلال نصوص قصصية قصيرة جدا، بأبعاد، ومعان كبيرة جدا. ليبقى الكرسي الأزرق، يتبادل الأدوار مع سارد النص، ومبدعه … يتوارى حينا، ويغيب أحيانا أخرى، متأملا لكل النساء، وهو مقطب جبينه، واقف على رجليه، أو جالس على كرسيه الأزرق، وعرش حكيه …
ركاطة حميد