ترتبط مشكلة الدلالة في النص الشعري بقضية الكشف عن طبيعة اللغة الشعرية التي تتجاوز الاستعمال النفعي للغة العادية، وتختلف عن قواعد توليد المعنى التي تخضع لها الأجناس الأدبية الأخرى؛ذلك أن لغة الشعر لا تلجأ إلى الخلط المباشر بين الإشارة والدلالة، بل تسعى لخلق توتر في علاقة الإشارة بما تعنيه من دلالات لغوية مألوفة.
إلا أنه يجب التمييز ـ مبدئيا وتبعا لما تفرضه اللسانيات المعاصرة ـ بين نوعين من قضايا الدلالة، وهما:
أ ـ الدلالة في صورتها الشكلية (كيف يدل النص؟ = الحامل)
ب ـ الدلالة في صورتها الجوهرية (عن أي شيء يدل؟ = المحمول)
لقد طرحت مجموعة من الأسئلة المتعلقة بطبيعة "الشيفرة" التي تنطوي عليها اللغة الشعرية وبكيفية تخلق هذه "الشيفرة"، وبالطريقة التي تؤسس بها منطقها الجديد المفارق لمنطق اللغة العادية.
وقد طرح كل من: "يوري لوتمان"(1) و"مايكل ريفاتير"(2) ذلك.
ويرى "ريفاتير" أن: "القصيدة تقوم بفاعليتها الشعرية بطريقة استرجاعية: (Bakwardly) تتخلق عبرها قواعد "الشيفرة" الشعرية، ويتولد الأساس الذي ينهض عليه المعنى فيها".(3) وتنهض هذه الطريقة الاسترجاعية على أساس التعامل مع العلاقات الكائنة على المحور السياقي أو الأفقي، ومن خلال عملية التراكم والاستبعاد يتم التعرف على خرائط المعنى في النص الشعري عبر علاقات التجاوز والالتماس بين مفردات المحور الأفقي، وبالتالي فإن الوظيفة الدلالية في الشعر تتبلور على هذا المحور حيث ينتقل المعنى من إشارة إلى أخرى. ومع أن هذا المحور الأفقي يتجسد عن طريق علاقات التتابع، فإنه منظم على شكل طبقات متراكبة من الأنساق الأربعة الرئيسية، وهي:
1 ـ النسق اللغوي
2 ـ النسق الأسلوبي
3 ـ النسق المعجمي
4 ـ النسق المضموني.
ومن خلال التعامل مع هذه الأنساق، يمكننا التعرف على آليات توليد المعنى في النص الشعري.
ويرى "لوسيان غولدمان" أن النصوص الأدبية هي أعمال ممتازة للكلام وليس بنى لغوية دلالية، ويقول:
"يبدو لي أن من بين الفروقات العديدة هنا فرقا أسياسيا بين اللغة والكلام، مفاده أن اللغة ذات طابع غير معبر (غير دال)، بينما الكلام ذو طابع معبر. أجل لا تستطيع أية لغة بحد ذاتها أن تكون لها دلالة شاملة، لأن سبب وجودها ووظيفتها هو السماح بالتعبير عن كل المعاني. فاللغة لا تستطيع أن تكون متشائمة أو متفائلة، لأنه يجب أن نتمكن من التعبير عن الفرح والغضب واليأس. وبالعكس فإن كل كلام تطبع بطابع المجتمع أصبح بالضرورة معبرا في مجمله عن الدلالة على شيء، مع أنه غالبا ما يحصل أن الخطاب هو خليط ويحمل عدة معان، وأريد أن أقول أن علم اللغة هو دراسة لأنظمة الوسائل التي تتيح لنا التعبير عن المعاني، وليس دراسة هذه المعاني ذاتها (4).
إن غولدمان يؤكد هنا على ضرورة البعد الاجتماعي للغة، لبيان دلالتها، فوصف اللغة لذاته، ليس مهما جدا في رأيه، ومن هذا المنطلق، فإن النص الأدبي يستمد معناه وبنيته الدلالية من رؤية العالم التي يعبر عنها.
وهكذا، فإن منطلق البنيوية التوليدية ـ لدى غولدمان ـ يعيد للذات الإبداعية للكاتب اعتبارها بعد أن اغتالها العلمانية النصية للبنيوية عندما احتكمت للغة في ذاتها مرجعا، وجردتها من اجتماعية التواصل المتمثل في الكلام والخطاب، حيث اغتالت الذات باسم إعلاء شأن محسوسية الموضوع، والدلالة باسم المدلول المحدد، والخيال باسم واقعية التحقق اللغوي.
ومن هنا، فإن اقتراحات ـ غولدمان ـ التي تحرر النص كبنية صغرى من انعزاليته اللغوية لتدمجه في بنية كبرى هي (الواقع)؛ ترتقي باللغة من مستواها القاموسي الصامت إلى مستواها المعاش المحكي الحكي، ومن ثم يكتسب الكلام صفته الخطابية والتواصلية من خلال اندماج بنية النص ببنية التاريخ وتحققه كتجسيد لرؤية تفاعلية، تغدو فيها رؤية الكاتب للعالم ناظما محددا للأشكال الدلالية المتمخضة عن علاقة التفاعل القائمة بين الفنان وعصره.
وتقدم لنا قصيدة ممدوح عدوان في سماتها العامة، خرائط من المعاني يغذيها وعي الشاعر بمعطيات داخلية وخارجية سأحاول إبرازها في :ما يلي
I- الخلفية القومية:
لقد ارتبط صوت ممدوح عدوان الشعري منذ أول ديوان له، بقضايا الأمة العربية، بهزائمها وانتكاساتها، بآلامها ومواجعها، وقد كان لأثر هزيمة حزيران 1967، السبب المباشر في ظهور أول مجموعة شعرية له وهي: "الظل الأخضر" ثم توالت بعدها دواوينه الشعرية، إلا أنها ارتبطت بسلسلة من القضايا القومية والوطنية والاجتماعية.
إن كينونة النص الشعري عند عدوان ـ هنا ـ تتحقق على وتر مشدود بين:
الإطار الذي ينطوي على الحقائق والروافد السابقة للنص.
السياق الذي ينطوي على الظروف المرافقة له.
ويمكن أن أضع لتوضيح ذلك الترسيمة التالية:
الاطار -------- النص -------- السياق
إنه وتر مشدود بين طرفين، ينطوي على درجة من التوتر، تكشف عنها علاقات الأسبقية والمزامنة التي تحكمها جدلية: الماضي، الحاضر من وجهة، والمواصفات الفنية والرغبة في التحرر منها من جهة أخرى.
من هذا المنطلق إذن، يلقي ممدوح عدوان بصوته الشعري داخل انهيارات الزمن العربي ليكتب مرثية له، يقع فيها التركيز على التقاط صور الفجائع والانهيارات بكل تفاصيلها.
1 ـ بنية الرثاء:
رثاء الزمن العربي وكشف حالة الهزيمة:
وتشكل هذه البنية مفتاح فهم التجربة الشعرية لخلفية ممدوح عدوان القومية، وتتجلى في الإحساس الفاجع بالمرحلة التاريخية التي انبثق فيها شعره: (من 1967 إلى الآن)، وهو إحساس يصور سلسلة هزائم الأمة العربية منذ بداية الستينيات، وتحديدا انطلاقا من: انهيار الجمهورية العربية المتحدة (انفصال سورية عن مصر)، مرورا بتعثر المشروعات الثورية، وصولا إلى نكبة فلسطين، ثم إلى الوضع العربي في العقدين السابع والثامن من هذا القرن.
ومن هنا تبدو طبيعة هذه البنية الرثائية التي يشتمل عليها شعره، مرتبطة عنده بتجارب أمته، وبواقعها (السياسي والوطني والاجتماعي) طوال العقود الأربعة الأخيرة من الزمن. ولذا وجب تحديد طبيعة هذه البنية، واستخلاص رؤاها ومرتكزاتها الفنية، وذلك بالعودة إلى النصوص الشعرية التي تفصح عن هذه البنية.
يقول ممدوح عدوان في قصيدته: "روي عن الخنساء": (5)
تبح حناجر النداب من ندم بعاشوراء
يهيم النهر كالمجنون، والتمساح يسكب فيه أدمعه
ويملأ جوفه المسعور بالحمأ
ولكن القتيل بكربلاء يموت وسط النهر من ظمأ
وآلاف الحناجر كل يوم تتخم الدنيا
تؤذن للصلاح وللفلاح.. ولا يمر الصوت في الصحراء
ينبه غافلا يقضي.. ولا يدري
بأن الفقر، ان العذر في الملأ.
إن الرثاء هنا مستلهم من فداحة المصاب بضياع فلسطين من أيدي العرب؛ ولذلك يبلغ الشاعر في هذا المقطع الشعري درجة عالية من التوتر، يحاول جاهدا إخفاءه داخل تداعيات تاريخية، وذلك بتوظيف حدث عاشورا المرتبط بمقتل الحسين.
ويكثر صراخ الشاعر وبكاؤه في مقطع موال حينما يقول:
إليك أهيم في الصحراء، أركض خلف ظلي، خلف حد الأفق اندبه فأنكفئ
إليك حملت ملء متاعبي جمرا، أخاف عليه ينطفئ
ركضت.. ركضت حتى تهت عن ساقي
كأني كنت أبحث عن إله ضاع في نهر من العدم
صرخت.. صرخت.. حتى ألقيت في الرمل حنجرتي
حتى امتص صوتي في فمي الصدأ (6).
وحينما يهدأ من هذا الصراخ القاتل، يحاول أن يعزي نفسه، لكنه سرعان ما يحمل القيادة العربية مسؤولية الهزيمة لأنها لم تضطلع بمسؤوليتها القومية كما كان عليها ان تفعل:
ويهدأ كل من حولي.. فاهدأ مثلما هدأوا
أعزي النفس "قد تنبو سيوف التأثر، تكبو في الوغى الفرسان"
ولكني أراهم دونما خيل.. ولا سيفا لديهم
قد تربع في عروشهم.. وفي حرماتهم خصيان.(7)
يستوحي عدوان في هذا المقطع المثل العربي القديم: "السيف ينبو والفرس يكبو" للدلالة على الهوة الفاصلة بين الجماهير العربية ـ المتحمسة لخوض الحرب واسترجاع الكرامة ـ والقيادة العربية المهزومة المتذرعة بتبريرات واهية لتفسير هزيمتها.
ومن ثم تبدو وطأة هذه الهزيمة قاسية على الشاعر، إنها تذكره بالموت والظلام:
يذكرني غروب الشمس بالقتلى
بمن من ليلنا انطفأوا
وتجثم فوق أعيننا وحوش الليل
تأبى الشمس أن تأتي مع الريح
....
ويجهش حولنا فوج التماسيح
يدوم بكاؤهم جيلا.
...
إلى قوله:
يذكرني غروب الشمس كيف تضمخوا بالضوء..وانطفأوا
وكيف مضوا
وما طلعت علينا الشمس بعدهم
وكيف تهالكوا تعبا..
وكيف الأرض غاضت..
عندما اتكأوا.(8)
يستوحي الشاعر في هذه المقاطع الشعرية مرثية الخنساء الشهيرة لأخيها صخر كما يوظف معاني: الإنطفاء والظلام والبكاء للدلالة على وطأة الهزيمة التي منيت بها أمته بعد أحداث 1967.
وتكاد تنسحب هذه البنية الرثائية على معظم ما كتب ممدوح عدوان من شعر وتبدو أحيانا وكأنها الخلفية الأساسية في كل ما كتب من قصائد شعرية منذ 1967 إلى الآن.
إن الموت منتشر في كل الأنحاء، فوق أرصفة المدن العربية المهزومة؛ إنه موجود حتى في الرغيف الذي يؤكل، في اللباس، وهو يظهر على الوجوه كذلك.
يقول في قصيدة: "سيأتيكم زمان": (9)
ها هو الموت يأتي.. خطاه على الأرصفة
وجهه سيفاجئ في العطفات
وقد يشرئب في الأرغفة
ها هو الموت يأتي..
تنفسه عند بابي،
وفوق وجوه النيام.
ها هو الموت يأتي.. انهضوا أيها الميتون
جاء موت جديد
نابع بين حبل الوريد وبين الجبين
هادئ، مختف بين دفء الكرى والنعاس
قادم مطرا فوق هذي البيوت
ها هو الموت يأتي، اطمئنوا، اكشفوا موتكم
فالذي لا يموت قتالا،
صراخا يموت، وغدرا يموت، وغيظا يموت
يؤكل الموت، يشرب، يلبس، تغسل فيه الوجوه
إلى حد قوله:
كل نبع يحاصر،
لم يبق للشرب إلا الدماء
من ضفاف المحيط إلى كربلاء.
هكذا أصبح الموت يحاصر الشاعر حصارا لا يقوى معه إلا على الصراخ الذي يهز السماء؛ إنه صراخ الشهداء الذين اختنقت حنا جرهم بالدموع:
جفت الزغردات التي أطلقت في الجنائز
مذ أقبلت أعين الشهداء
وصاحت "لماذا فتلنا؟"
مذ اختنقت بالدموع الحناجر
جاءت صراخا يهز السماء فتهتز
مثل الذي يسلم الروح
والشهداء يطلون عبر الثوابيت
يحتضرون..
تصير شهادتهم ميتة
واحتضارا يطول
انتهى زمن الزغردات
وجاء زمن البكاء.
ويخيم عليه اليأس القاتل لدرجة أنه أصبح يشتهي الموت، ويطالب بالدفن:
أتينا نموت أمام الشهود الجناة
ادفنونا
يحق لنا أن نستريح
انثرونا على الأفق
نحن شهود عليكم
تضيق القبور بنا
أبت الأرض أن تحوينا
إلى حد قوله:
...
كل صدر تنفس بعد الفجيعة
صار ضريحا لنا
فافتحوا أيها الأهل هذي الصدور لنا أضرحة.(10)
إن الأرض، والقبور والأضرحة تضيق بكثرة القتلى، والشهداء، أما حشود الناس التي تتراءى للشاعر فهي ليست سوى حشودا ميتة لا تقوى على الحركة:
دثريني
فهذه الحشود قبور
وهذا الضجيج خواء
...
والقبور تضيق من كثرة القتلى:
كيف، بعد الممات، تضيق القبور؟
وبعد البيوت، تضيف الصدور؟
وبعد الحياة، يضيق الممات؟
فأين تلاقين واحة عشق لنا.(11)
هكذا تنتشر رائحة الموت في قصائد ممدوح عدوان، ولا أدل على ذلك من هذا القاموس اللغوي الحافل بدلالات الموت والذي يكاد يحقق ثباتا لافتا للانتباه من كثرة ترديد الشاعر للألفاظ الدالة على الموت المطبق كـ: الدماء ـ الجنائز ـ الشهداء ـ الثوابيت ـ الاحتضار ـ الدفن ـ القبور ـ الفجيعة ـ الضريح ـ القتلى ـ الممات... إلخ.
فالموت والاحتضار والشهادة، دلالات تبدو - من شدة وطأتها على ممدوح عدوان- وكأنها وباء، بل أوبئة تعم الحياة العربية المعاصرة:
ليس بين الوباء وبين الوباء سوى الأوبئة
هي له ما تبقى من الجسد المهتري
وتهيأ كما تتهيأ للعرش عاشقة
وكما تتهيأ ثاكلة لاستلام ثوابيت أبنائها
إنه الموت،
بين الحشود يفاجئ(12)
هكذا يصبح الموت هاجس الشاعر لا يفارقه قيد أنمله؛ لذلك فهو يتوقع خبره بين عشية وضحاها كيف ولا قد قلب الأغاريد إلى حداد، والأعراس إلى مجازر، والأفراح إلى جنائز، بل أصبح اسما لكل الفصول:
وأي الفواجع تحملها النشرة القادمة
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد
كأنا نسير ولا نتحرك
أو أننا سائرون ارتداد
كأن المجازر أعراسنا
وكأن الجنائز أفراحنا
ها هو الأفق وهج حرائق
تفرج معي:
قد يجيء غد نتعود فيه على موتنا
مثلما نتعود أمواتنا
قد تجف الدموع
وقد تيبس فينا الفصول
وقد يصبح الموت اسما لكل الفصول (13)
إن هذه القصائد، عبارة عن شهادة بالغة الدلالة على ما أصاب العروبة من نكسات وآلام ومواجع من جراء الهزائم التي منيت بها طوال العقود الأربعة الأخيرة والمتجسدة ـ أساسا ـ في نكبة فلسطين، ثم الاستيطان العسكري الصهيوني لمناطق ومدن عربية عدة: كالجولان والقنيطرة بسوريا، وسيناء والنقب بمصر، وجنوب لبنان... إلخ، كما أن قصائد عدوان هاته شهادة بالغة التجسيد عن السقطة المروعة التي تلقتها حركة القوميين العرب وانهيار أحلامها السياسية وذلك بفشلها في مواجهة عدوان التاريخي المسؤول عن هذا الخراب والدمار، والجو الجنائزي الذي انتشر في المحيط العربي.
وهكذا يتضح من خلال تصفحنا لدواوين عدوان الشعرية أن بنية الرثاء عنده أكثر احتفالا بالمحتوى السياسي، والخيبة الكبرى التي هيمنت عليه بعد انهيار الحلم القومي وافتضاح السلطة عقب نكسة حزيران المريعة.
2 ـ بنية الفروسية والزعامة:
وتتمحور هذه البنية حول القضايا القومية ـ بالإضافة إلى القضايا الوطنية ـ وحول الموروث العربي: الشعري منه والتاريخي، وحول الموروث الإسلامي كذلك.
إن عدوان يقدم هنا رؤية شعرية تعتمد على الإسقاط التاريخي، وتوظيفه في بنية جديدة للقصيدة السورية المعاصرة ليخرج منها بمركب جديد تنصهر فيه القضية العامة في التجربة الشخصية للدلالة على الهوة التي تفصل القيادة العربية والمواطن العادي:
أتذكر يوم صغت صليبك القدسي من غضبي؟
طعنت به جميع مقاتلي أحد
وكان هناك أسيادي وأعدائي
رأيتهم:
( فيا أرض ابلعيهم مرة أخرى)
سقيت الحرب الظمآى
وعدت إليك كالأسد،
وأفردت القبائل كلها
خوفا من الجرب
... وأفردت القبائل كلها خوفا من الجرب
وفي الصحراء همت وراء شيء
لم أحاول كشف أسراره
فكانت لي بها عيناك شيطانا
أشد خطاي من ناره
وفي أذني أصوات تهلل:
"فارس العرب" (14)
ففي هذه القصيدة يستقرئ الشاعر أعماق العبد "وحشي" ويلتفت بإنسانية وموضوعية إلى دوافع وحشي للقتل، مسقطا هذه الدوافع على نفسه هو: وهذا ما يفعله كذلك في قصيدة "خارجي قبل الأوان" حيث يتقمص فيها شخصية "الخارجي".
أنا من جند علي
فارس لم يرهب الموت ولم يحفل بمغنم
معه في أحد قاتلت وحدي
وبكفي رددت السيف عن صدر النبي
وشهرت السيف لما عضني الجوع وآلم
باحثا عن جنة الله على الأرض بأبواب علي
ولكي أثأر من أجل أبي ذر
أنا كنت على عثمان سيفا من حصار
ولكي لا يخلط القوم وينسوا
ما ترددت بأن أقطع رأس ابن العوام
رغم علمي أن من يقتله يغشى جهنم!
ولكي لا تكثر القمصان أضحى أقرب الناس إلي
أبغض الناس علي
وهو خلفي
حينما امتشق السيف ينادي:
" سيفك الدرب إلى الله.. تقدم" (15)
إن ممدوح عدوان يوظف هنا مجموعة من رموز التاريخ الإسلامي كـ: علي ـ عثمان ـ ابن العوام ـ أبي ذر الغفاري ـ ابن ملجم، ويسقط هذه الرموز على الحاضر؛ إنه يريد ـ عبر التاريخ ـ الوصول إلى فترته الراهنة، وانطلاقا من هذا الفهم نجد أن هذه القصيدة تمثل احتجاج الشاعر على قيادته المسؤولة عن الهزيمة التي منيت بها أمته، لأنها بدأت الثورة ثم توقفت في منتصف الطريق:
وعلي أغلق الجنة بابا إثر باب وتعمم
وأنا ما عدت أعلم
فيم أهرقنا دمانا
ووقفنا في الطريق!؟
وتركنا نسوة الحي على الدرب رقيق
حينما صحت بهم:
"لا تبدلي بالحرب أخبار الحروب"
قيل لي: "إن لم تجد ماء تيمم"
قلت: "مولاي تطلع نحوهم"
لا يتكلم
قلت: " أما قلت لنا: إن الجهاد"
قطع الحاجب بالسيف النداء!
وعلي صامت لا يتكلم
حمل الحاجب صوتي في إناء
وعلي صامت لا يتكلم
ولذا أعطيت سيفي لابن ملجم (16)
إن إرادة القتال عند الشاعر إذن هي التي دفعته إلى الانضمام "للخوارج"، وإدانته لقيادته التي يرمز إليها في القصيدة بشخصية "علي بن أبي طالب"، هذه الإدانة التي لم تلق متنفسا لها سوى في رد الاعتبار للعمل الثوري والمشار إليه في آخر القصيدة بقوله: "ولذا أعطيت سيفي لابن ملجم".
هكذا يمزج عدوان الحس بالوجدان ليغوص في أعماق الواقع العربي المهزوم، والجريح في أهوائه المشروعة وكبريائه المخنوق، وهو لا يجد مخرجا لهذه الحالة سوى "فروسية الكلمة":
أبدا الشدو رغم العذاب القديم:
هذه أرضنا: حقنا أن تميت
أنفض اليأس، انهض
أشهر سيفي
وأهجم رغم العياء
ثم أهوي إذا ما غشاني الضياء:
لست رائد قومي ولست نبيا
وما بي علامة
من تنبأ لي أن ألاقي هذا العذاب
لم أعد أبصر الروم والفرس والترك في القصر
والزنج في فقرهم يغدقون(17).
إن الشاعر شديد الانفعال للهزيمة التي مني بها قومه، وهو لذلك يدين قيادته، ويتوعدها:
أنا فارس الغد، حين نلاقي الزمان
إنني أرجع الدهر نحو بدايته المفزعة
وأنا أمتطي صعبتي وأراقب كل المداخل
جاءنا زمن القتل،
لم يبق شهر حرام
فتعالي نعلم حجارتنا أن تشير إليهم وتتقن أسماءهم ...
إنه زمن القتل عبر جميع اللغات
لن يكون به آمن:
كل من دخل الأرض يضحي قتيلا وقاتل
وحجارتنا ستدل عليهم وتعلن أسماءهم
ثم لا عفو:
للفقر ذاكرة لا تخون الدماء السبية. (18)
إن الشاعر يبدو جريئا وشجاعا، يحلل وينتقد الأوضاع العربية، والسورية على الخصوص بعد هزيمة 1967، ويجهر برأيه حول أسباب هذه الهزيمة، وبذلك فهو لا يتورع في مهاجمة القيادات العربية "الروم ـ الفرس ـ الترك" بل يتوعدهم بحرب تحريرية لا تعرف الهوادة.
هكذا تتمحور "بنية الفروسية والزعامة" لدى الشاعر حول القضايا القومية ـ والمرتبطة عنده أشد الارتباط بالقضايا الوطنية والاجتماعية ـ. إن عدوان يقدم هنا حقولا دلالية موازية لهذه البنية، لكنها لا تخرج عن دائرة: الشجاعة ـ الجرأة ـ المروءة ـ الذود عن العرض ـ الوفاء ـ البطولة ـ العزة ـ الإباء...، وكلها دلالات مرتبطة عنده بمرحلة تاريخية معينة، إنها الفترة الإسلامية، ولذلك، ـ وبمهارة فائقة ـ يعتمد عدوان على تضمين قصائده كثيرا من الأقوال والحوادث والرموز التاريخية لهذه الحقبة، مسقطا إياها على الحاضر، ومعيدا تصويرها من منطلق عصري، مقيما بذلك وشائج عضوية بين:
الماضي، والحاضر.
3 ـ بنية توحد الشاعر بالقضية الفلسطينية:
لقد أجمع نقاد الشعر العربي المعاصر على اعتبار حرب حزيران 1967 منعطفا نوعيا حادا في تاريخ الإبداع العربي المعاصر، وفي هذا المجال، يعتبر ممدوح عدوان من بين أكثر شعراء الستينيات في سورية إحساسا بهول هذا المصاب، مما عكس نفسه بالضرورة على إنتاجه الشعري. وبتتبعنا لقصائده المتمحورة حول القضية القومية: قضية فلسطين، يتضح لنا أن الشاعر مفعم ومحاصر بمقولاته القومية، المثقلة بأشواق إلى الماضي المجيد ـ في مقابل الحاضر المهزوم ـ.
فهذه قصيدة: "الطاووس"(19) وهي من بين قصائده الأكثر احتفالا بالمحتوى السياسي، والخيبة الكبرى التي هيمنت على روح الشاعر بعد انهيار الحلم القومي، وافتضاح السلطة عقب نكسة حزيران المريعة، ويستهلها بقوله:
فهمت اليوم صمتك والأسى المخزون في عينيك كالعتب
ودمعك حين تبتسمين في طرب
فهمت اليوم ما معنى انتشاء الناس بالأحزان والخمر
لماذا كان خلف حياتنا ذاك النشيج المر
مستترا بلا صوت
لماذا كنت صامتة وباكية بلا سبب
لماذا لم تجيبيني.. وقد ناديت أجيالا ولم أفهم
فنحن، الجيل، كورس مأتم مبهم
ونحن نعيش أمواتا
ونرقص في أسى من نشوة الموت.
ويتابع تشهيره، وتنديده بغرور وبكذب السلطة التي قادت إلى الهزيمة، واضعا نفسه رمزا لها:
كذبت عليك لما قلت أن الخيل تعرفني
ويعرفنني كذاك الليل والبيداء
وأن الناس، كل الناس،
إن أضع العمامة يعرفوني
فارس التاريخ والصحراء
وإني إن أضع تلك العمامة
أفتقد كالبدر في الظلماء
أنا كذبة خسرت جناحيها
فلا نقص الذباب،
ولا أضافت في عيون النادبين بكاء.(20)
إن الشاعر مفعم بروح الخطابة ـ من حدة الصدمة التي تلقاها ـ وهو يعكس موقفا أكثر عنفا وشراسة وسخرية. ولذلك يتكئ فنيا على تضمين قصيدته هاته رموزا تراثية وإشارات تاريخية حافلة بالمرارة والهزء، لأنه يسقطها على الحاضر، ولذلك يتحول اعتزاز المتنبي بفروسيته إلى ذل ومسكنة، وافتخار الحجاج بن يوسف الثقفي إلى كذب ورياء، ومن ثم تنقلب كل القيم:
ركضت إليك كي ألهيك، كي لا تسألي الخيلا
لئلا تسمعي قول الذي شهد الوقيعة
أنني قد خضتها طفلا
وأن غنيمتي كانت بها ذلا
ومعذرة
أريدك أن تظلي الدهر جاهلة بما حلا
قفي... ولتقبلي ذلي
وفي أفيائه عيشي
لأني كنت طاووسا
وقد عريت من ريشي (21).
إن الشاعر حريص على أن يقابل قيم الماضي الإيجابية، بقيم الحاضر السلبية؛ ولذلك نراه يكثر من تضميناته المقصودة من خلال استعانته بمعلقة عنترة، حيث يقع الاختيار على مفاتيح بعض الأبيات محورا إياها ومسقطا إياها على الحاضر، وتكون النتيجة هي: تحول الشاعر الفارس إلى ذليل مهزوم.
ويبدو الشاعر من خلال هذه المقاطع الشعرية وكأنه يحس بعقدة الذنب من خلال قسوته في تعرية ذاته والأنظمة العربية المسؤولة عن ضياع فلسطين، وسقوط غزة في أيدي الغزاة:
أي صوت سمعنا وقد سقطت غزة الجرح في حضنهم؟
هل تعود المدينة جريا إلى قومها النائمين؟
هل تعود السبية إذ تشتهي وتراود للميتين؟
كيف تقوي على جر خطو خضيب
وحقد مقاومة العمر عزلا للمشتهين
من سيجرؤ أن يلتقي بعيون المدينة يوم اللقاء
غزتي وحدها في الليالي صباح
زهرة في مهب الرياح
وحدها
وحدها وقفت بعد مقتل فرسانها
بعدما ضاقت الأرض،
...
وحدها وقفت بالأظافر تدفع وحش الجموح
وبالحس والدمع تدفع عنها اشتهاء السكارى
وحدها نفس يتردد تحت الخناجر
....
أقبل الزمن المستحيل،
ولكنها أتتها الدراية
غزتي تمسك السيف نارا
فتجعل نار الجريمة سيفا
تخط الدرب به حتى النهاية(22)
ها قد أصبحت "غزة" وحيدة في نضالها، تقاتل حتى النبضة الأخيرة بعدما انفض عنها أهلها، وهي نفس الحالة التي تعيشها فلسطين ككل:
من سيذكر أن فلسطين كانت بلادا
وليست خيالا؟
وأن الدماء التي خضبت وطنا
رسمت لفلسطين خارطة
لم تعش في القواميس
أو في الكواليس
وانتقلت للحكايا القديمة
أو للكواليس
إن فلسطين رزق
...
فلسطينن: زرقاء في السماء
وما توعدون
ففي الأرض كانت فلسطين
مدسوسة في السعادة
والغضب الأدمي تفاصيل أكذوبة
سوف تأتي القيامة
هذي علاماتها (23)
وبتطور "القضية الفلسطينية" تتطور نظرة الشاعر إليها، ويحز في نفسه ما آلت إليه بعدما تخلى القوم عنها؛ ولذلك نجده يقابل بين أمسها وحاضرها في تدرج سريع لافت لانتباه:
لا تحسبن فلسطين بعد الحروب تظل فلسطين
بعد الحروب تبدل موقعها
ابتدأت بدم، ثم صارت قميصا
فقبعة
فحذاء
فآثار خطو على الرمل
ذاكرة
فحكاية طفل
فلعبة نرد
فسلعة سوق
طريقا إلى جسد. (24)
إن هذه القصائد شهادة بالغة الدلالة على انحلال القيادة العربية التي تصدت للمسؤولية منذ مطلع الستينيات في الوطن العربي، وشهادة بالغة التجسيد للحالة المتفسخة التي آلت إليها، لقد سقطت هذه القيادة، وأصيبت بالعقم وانغمست في همومها الذاتية، وهي الآن تعيش على أمجاد ماضيها، وتوزع الإدانات على الواقع والآخرين
II- الخلفية الوطنية:
تنبع علاقة الشاعر ممدوح عدوان بالوطن من إيمانه الراسخ بالأرض، والأرض ـ عنده ـ ليست سهولا وتربة، ولا جبالا وأودية، بل هي ذاكرة الشعب، هي تاريخ دم وأمجاد
وتقوم قراءة هذه الخلفية الوطنية في شعره على مستويين اثنين:
1 ـ قراءة أولى في الوطن؛ المشوه والمهزوم والمنزوع الهوية.
2 ـ قراءة ثانية في الوطن؛ الساكن في أعماق الشاعر، الوطن الحلم.
1 ـ المستوى الأول:
إن قراءة هذا المستوى تجعلنا نتمثل الهم الوطني عند الشاعر، هذا الهم الذي يستمد مضمونه من الظروف السياسية التي عاشتها سورية إثر الاجتياح الإسرائيلي الذي كان من آثاره: احتلال الجولان والقنيطرة وأجزاء أخرى من الوطن. وهنا تصبح المدينة/الوطن، المدينة/ الأم، والمدينة/ المرأة، رمزا للأوضاع السياسية التي تعم الوطن كله.
يقول ممدوح عدوان في كلمته التي قدم بها مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة": " قبل أن أبدأ الكتابة إليك أمسح جبيني، ولا أدري إن كان يتصبب عرقا أم عارا. واثق أنه لا يتصبب دما ولا ماء. ماء وجهي أريق منذ زمن. كنت أكره المدن. حسبت أنني ريفي يصارع المدن من أجل طفولته. وحين فقدتك أحببت كل حجر في وطني. واكتشفت أنني كنت أحبك منذ ولدت. حينما أصبحت اسم مدرسة واسم شارع... حينما أصبحت شيئا من ركامنا.. حينما رأيت اسمك على الواجهات ظللت طوال النهار أسير في الشوارع، وأنا أركل غضبي أمامي كطفل بلا هموم. وحين أتعبني السير سرى الحزن في شراييني دما. كان دمي منهكا. كان ظلك في قلبي." (25)
إن ارتباط عدوان بمدينة القنيطرة ـ بعد الاجتياح الإسرائيلي لها سنة 1967 ـ قد أخذ عليه نفسه، ولذلك يحمل في صدره حبه لها كما يحمل الولد الصغير أعز ما لديه، ومن ثم فهو لا يستسيغ رحيلها عنه:
"منذ متى وأنت هنا؟ منذ متى أنت غائبة، منذ متى وأنا أعبر الشوارع وأتصفح الناس فلا أراك؟
بودي لو نقلت إليك كل ما لدي من الشعر عنك، كل القصائد التي كتبتها، والتي خجلت ـ أو خفت ـ أن أكتبها".(26)
ويهاجم الشاعر أولئك الذين لا يبدو عليهم أنهم فقدوا أرضا أو وطنا أو مدنا، فيقول لحبيبته: "القنيطرة":
" أحدثهم عنك فيشيحون بوجوههم، لا يبدو عليهم أنهم فقدوا أرضا أو وطنا أو مدنا، الصراخ سلاحي الوحيد. سأشحذه وأتقن استخدامه حتى يشق حنجرتي أو يسمعوني. سأرزح تحتك حتى ينكسر ظهري.
أخاف أن أثلم..
وأخاف أن يصرخوا فيصبح الصراخ باسمك تقليعة. أن تصبحي سلعة للسياسي والشاعر والسكير. ظلي بكرا وارفضيهم حتى لو انتهكك العدو.
أنا أنتظرك."(27)
أ ـ العلاقة بالمرأة الرمز/ المدينة:
إلى جانب المعاناة لتجربة الحياة في المدينة، تلك المعاناة المحددة بالإطار الحضاري في مستواه الفكري الصرف، هناك وجه آخر من وجود العلاقة بين الشاعر والمدينة، يجسم فيه ارتباطه العضوي بها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الوطن ككل.
وقد مرت سورية خلال العقود الأربعة الأخيرة بأحداث كثيرة ملأت حياة المدينة بالحركة، وغيرت من وجهها وملامحها، فأتيح للشاعر بذلك نوع من الارتباط بها.
وقد عمد ممدوح عدوان إلى تشخصيه النسوي للمدينة في قصائد كثيرة، ويطالعنا هذا التشخيص في ديوانه الأول "الظل الأخضر":
رأيتك أمس عابرة
وكنت غمامة بيضاء تغمرني
مررت، وكنت ترتعشين
مثل نوافذ الأكواخ في المطر
لففت الغربة السوداء شالا باكيا
ومضيت بين الأهل والمحن
وغلفت البكاء ببسمة صفراء
كالمدن 28))
يجسد ممدوح عدوان في شخص المرأة هنا: مدينة القنيطرة، ومن خلالها الوطن بأجمعه، وصورة القنيطرة هنا هي صورة الفتاة المسببة، الغريبة، الخائفة الحزينة الباكية:
عبرت... وكنت ناعمة... وقاسية
علي كقسوة الريح
أحاطت هالة الشهداء والأيتام عينيك
عبرت مليئة بالدمع في خفر
ضبابا مثقلا في غابة الشوح
دموعك ملء خطوة ملء خديك
حقنت تنهدات اليتم في ألم
كما تتكون الأنسام في الأيك
حملت دموع من ماتوا
حملت صفاءهم
وحملت أحقاد المجاريح
وجئت إلي أول من يجوس الأرض عن نوح (29)
هكذا تتلاشى حدود العلاقة بين صورة الفتاة اليتيمة الباكية الغربية والمسبية، أمام صورة المدينة التي ترزح تحت نير الغزو الصهيوني في هذا المقطع الشعري، فتغدو المرأة هنا رمزا لمدينة القنيطرة، أرض أولئك الذين دافعوا عن شرفها واستشهدوا في سبيلها، تاركين إياها يتيمة ترسف في أغلال العبودية، وتمارس مع أهلها الباقين الظلم والاستعباد.
ويتكئ ممدوح عدوان في هذا المقطع الشعري على الفعل الماضي الذي يطغى على زمن الفعل لأنه يستعير لحظة ماضية لدلالة على قسوة الحاضر (عبرت ـ كنت ـ أحاطت ـ حقنت ـ حملت ـ جئت...)
وتجر الذكرى الشاعر إليها جرا، حينما يخاطب المدينة/ الحبيبة، فيقارن بين ماضيها الزاهي ـ قبل الغزو ـ وحاضرها المشؤوم ـ بعده ـ:
أيا ماض تعتق ذكريات...
وانتهى رعبا
هنا كنا ندوس على الطريق.. ولا يرى من خطونا أثر
ولكن الطريق يظل كالحبلى:
يموج بنا.. وينتظر
ونحن نموت.. والأضواء تحتضر
وأنت كدمعة تسرين حائرة بلا خد
أود.. أود.. لو نزلت على زندي
وكنت يتيمة قبل المآتم،
كيف أصبحت؟
لو أنك مرة في الحلم لوحت
قتلت لدي حتى وقفة الطاووس والديك. (30)
إن الشاعر يعاني ـ هنا ـ من وضع مدينته القنيطرة؛ ولذلك فهو لا يستطيع الإفلات من هذه الصور القاتمة الكئيبة التي رسمها لحبيبته: (المدينة)، وهو لا يقوى على فعل أي شيء سوى إدانة الذات وتأنيبها، إلا أنه يحاول اختراق غشاوة الكآبة هذه:
أرطب من نداك جفاف أحلامي
وأحميها... لتصمد إن لقت حرا
وتولد منك آلامي رؤى مشدودة سمرا
تضوي درب من وسط الدجى عبروا
ومن كنا بكيناهم
وننهض وحدنا،
وعلى الجراح نقوم نتكئ
ونبتدئ
فتحمر السماء بنا.. وتنهمر
ويلتفت الطريق إلى..
والشجر. (31).
إن عدوان لا يقنع من مدينته (القنيطرة هنا) ببقائه متفرجا خارجها، أو مبهورا بوجهها المادي، بل إنه يتحدث عن المدينة من داخلها، وانطلاقا من تجربة الحياة فيها، فهي تمثل في نظرة الوجه السياسي للأمة العربية جمعاء. لقد احتلت المدينة عنده مكانها في فترة مبكرة من وعيه الشعري، ومن ثم فإن رحلته من البادية إلى المدينة إنما هي رمز لعبور تجربة الشاعر من بيئة "ساكنة" إلى بيئة "متحركة"، ومن بيئة "بسيطة" إلى بيئة "مركبة" ومن بيئة: "مؤنسة" إلى بيئة" "موحشة":
دعاني من جفاف الوهم صوتك مترعا نسغا
فجئت إليك:
ملء عظامي الصفراء أرصفة
وفي عيني يحترق الهوى مبغي
أتيت معبأ بنعاس أجيال
بوجه معّسته سنابك الصخب
وخلف جفوني الصفراء أوردة
حرقت يباسها تبغا
قضيت العمر في الأوحال:
في كرم بلا عنب
أصارع أمسي الجائع
نسيت لديك آمالي...
وحلمي أن أكون أبي
وجاء هواء بعد تلملم الضوء
فهز الصمت وانهمرت علي رؤاك في عجب
تدغدغني
وتفسدني:
كرهت رطوبة الطرقات في المدن
وضوء أزقة الحانات في بدني
وكانت لي والأصحاب مزرعة
بها كنا نصارع أمسنا الجائع
أتيتك إبرة عريانة تعبى
فكنت غطائي الضائع.(32)
لقد بدأ الإحساس بالضياع عندما رمت المدينة الشاعر في طريق التيه الذي يؤلب عليه الحزن الداخلي والضغط المادي الخارجي، ثم الإحساس الفاجع بالوحشة. ومن هنا ترتبط صورة المدينة لديه بالقلق الدائم، وبالأمل الضائع وبالقهر الروحي والمادي وبمراحل العمر الخاوية التي تنتقل ضائعة من جدب إلى جدب:
أتيتك تائها مضنى
ظننت الأمر وقفة ضيف
فأغرقني الجنون بظلك اللبق
وكل عزائمي أضحت سحائب صيف
فإن أصرخ بك ابتسمي
وصوتي بعدها سيذوب
وإن أصفق ورائي الباب في نزق
فلا تثقي
لأن الحب ما أبقى لدي دروب. (33)
هكذا إذن، يصطدم الشاعر بواقع المدينة المر، الشيء الذي يدفعه إلى إحساس عميق باليأس والضياع والتعب، لأن المدينة أصبحت معادلا للقهر والخوف والعذاب الذي لا ينتهي:
يقول قي قصيدة بعنوان: "الأغنية الثالثة":
أتيتك مترعا..
فرجعت أجوف كالمياه سرت بغير قرار
أضعت لديك أحزاني
وعدت محملا بالرعب والتعب،
ففي عينيك، خلف الصمت،
خلف الليل، لاح نهار
فأرعبني
وأرعبني خيال شد فوق جدار
إلى حد قوله:
هربت.. هربت.. لا ألوي
تركت لديك حرماني.. وأحزاني (34)
ويتكرر تشخيص ممدوح عدوان النسوي لمدينة "القنيطرة" في ديوانه الثاني: "تلويحة الأيدي المتعبة"، ويمتاز تشخيصه لها بروح شعرية عالية، وقد خصص لهذه المجموعة الشعرية مقدمة نثرية مشحونة بحبه لها، ورفضه لأي حب آخر، حيث يقول:
" أنا متعب وحزين، وأنت دائي المزمن، وجوه الناس اللامبالية تنكأ جراحي. لم أعد أدري ماذا أفعل بكل هذا الغضب والحزن...لو أنني أستطيع التصرف، لعلقتك في أجفانهم، لجعلتك أرقهم الذي لا يهدأ. إنني أرحل معك كل ليلة. مرة عدت إلى البيت في الفجر. كان أهلي ينتظرونني بقلق. رأوا اصفراري فسألوني بلهفة:
- خير؟ ماذا حدث؟
- قلت: سقطت القنيطرة.
- كادوا يضحكون وهم يقولون لي: هذا حدث منذ عامين." (35)
إن ارتباط ممدوح عدوان بـ "القنيطرة" قد أخذ عليه نفسه، فهي أرقه وداؤه المزمن، وهي ترحل معه حيث يرحل وقد حمل في صدره حبه لها كما يحمل الولد الصغير أعز ما لديه.
وتحتل التجربة العاطفية مكانا بارزا في رؤية ممدوح عدوان، إلى المدينة، إذ تحتل حيزا كبيرا في ديوانه الثاني: "تلويحة الأيدي المتعبة" وتأتي علاقته بها ضمن قصة حب يائسة لمشاعر عاطفية حادة تجتاح مجموعة من قصائده التي تمضي من خلال عنصر بشري يشار إليه بـ "ضمير المخاطبة" مصورة مشاعر الخيبة والدمار والقهر والخوف والموت... حتى تستقر عند صورة المدينة (مركز التحول وعنصر الربط في القصيدة) فتعقد مقارنة بين خيالات الحلم وحقائق الواقع.
وفي قصيدة: "تلويحة الأيدي المتعبة" إحساس قاتل بضياع المدينة التي أصبحت معادلة: للقهر والخوف والذل والوحدة، إنها تقف وحيدة والموت متربص بها بعد أن انصرف عنها أبناؤها، وهي تنظر إلى الشاعر وتلوح له، لكنه يتجاهل التلويح ويغمض الطرف عنها، لأن المروءة والعزة والإباء خصال ماتت في نفسه:
تواعدنا وكان الوعد أن ألقاك في الصحراء
فجئت، وكانت الأضواء في عينيك ترتجف
وتبكي حرقة.. وأنا وراء النهر أرتجف
وصد خطاي عن لقياك فيض الماء
رأيتك تلعقين دماءك الحيرى
فكل شهودك انصرفوا
وماتوا في ملاجئهم.. وما عرفوا
وما تركوا سوى الأشلاء
ووحدك كنت واقفة
وما في الموت من شك لمن يقف.
* * *
تنهدت الدروب وقد رأت دربي
يصد من ضفاف النهر
وأنت تكومين الرمل،
تختلسين نحوي نظرة خجلي بلا مقل
أتيت، سمعت رقرقة السواقي
صرخة حمراء كالسعل
فغاض الريق وسط فمي
ظمئت، تشققت شفتي
لحست يباسها،
ومضيت محنيا لنير الدهر
غضضت الطرف في صمت
كأني لا أدري الأيدي تلوح لي
ولم أعرف:
ترى كنت السراب لنا
أم أنك قد حملت بريق ماء النهر
ففي عينيك كانوا توأمين
معكرين بحمرة من قهر
* * *
تيمتت الهلال فلم أجد أحدا بضوء جبينه الخاوي
وأنت هناك واجمة
كعذراء تودع حبها الذاوي
وكنت صديقتي
أطرقت خشية مقلتيك
وسرت منشغلا فما حييت
وكأن النهر يفصلنا
وكان البدر شاهدة
وكنت القبر، كنت الميت.(36)
لقد هزمت المدينة إذن حين هزم فيها الإنسان، وهزيمته عميقة، إذ يراها ترسف في أغلال العبودية والقهر والذل، وهو لا يقوى على فعل أي شيء سوى الخوف والإطراق والهروب:
أتيناك
أتينا راكضين إليك، كنا متعبين
ومغمسين بنزف ذكراك
فلحت
وكنت ناشرة قميصك،
كي تثيري نخوة الفرسان
وفوق تلالنا أنى التفتنا
ولوحت للركب كفاك
وهب الليل يحمل لفحة الأحزان
هربتُ ورفقتي رجلا
تحدثنا عن الطقس الرديئ وموعد المزن
تحدثنا بهمس
لم يحدق واحد منا بوجه رفيقه
كنا نخاف تكشف الأسرار في السحن
على عجل تحدثنا
وأشعلنا لفائفنا.. وأطرقنا
وعدنا للحديث عن الطريق ونسوة المدن. (37)
هكذا يتحول الفارس العربي، رمز النخوة والإباء إلى إنسان حقير متخاذل وهارب لا يقوى على الدفاع عن عرضه ـ رغم ما تثيره فيه مدينته من نخوة وتلويحها له واستغاثتها به ـ إنه يوظف في هذا المقطع الشعري مفهوم العرض والشرف عند الإنسان العربي، ويتلخص في كون المرأة عرض الرجل وشرفه، وعلى كاهله يقع واجب صون هذا العرض من غزو الغرباء، فرمز الشرف عند المرأة يتجسد في العفة والبكارة، وينتهي بدفع الرجال للدفاع عن هذا العرض حينما يكون مهددا، ودور المرأة في المعركة هو إثارة النخوة في الرجال، تماما كما كانت تفعل المرأة الجاهلية، وهذا ما عبر عنه شعراء هذه الحقبة والحقب التي تلتها كحسان بن ثابت الأنصاري حينما قال في فتح مكة:
تظل جيادنا متمطرات ** تلطمهن بالخمر النساء.
وهكذا يتضح ـ من خلال تتبعنا لهذه المقطوعات الشعرية ـ أن ارتباط عدوان بمدينته هو بمثابة قدر يلاحقه ويحاصره في مجمل ما كتب من شعر، كما أنه يبعث في قصائده روائح ارتباط قدري لا مفر منه، وهذا ما يفسر شدة ارتباطه بمدينته "دمشق". إن حنينه إليها يتوزع إلى كل جزء فيها، كل ما في دمشق قد غدا جزءا من كيانه، وتظل هي الأثيرة عنده بكل ما فيها:
كنت أعرف هذي المدينة،
كانت شوارعها تتأبطني في ليالي الضجر
وتواعدني في الغياب،
تكاتبني إذ يطول السفر
تشتكي لي، وتنقل بشرى
تذكرني بالزمان القديم
أتوهج شوقا
وحين أرى وجهها في اللقاء أبش
فتبتسم
تربكني بابتسامتها الساحرة
والشوارع كانت تلاعبني في استراحتها
فتغامزني، وتشير إلى حلوة عابرة
...
كنت أعرف هذي المدينة:
كانت دمشق (38)
إلا أن دمشق هذه، هي المفجرة لعذابه الذي لا ينتهي، وأرقه المتواصل، وحزنه الذي لا محيد عنه، لأنها حوصرت واستبيحت وانهدمت واستنجدت، ولكن الشاعر عاجز لا يملك إلا أن يطلق زفراته وأساه:
ودمشق اتسعت حتى احتوت كل البكاء
ما الذي يفعله حين دمشق اتسعت؟
ضيقت من حول عينيه حصارا
***
ما الذي يفعله حين دمشق اتسعت.. وانهدمت واستنجدت؟
....
ما الذي يفعله الآن إذا راودها الغزو
إذا أخجلها السبي
وعبر الخوف شاءت أن تداري الخزي
أن تطلب من يسمع منها نهدة القهر
وأوجاع النداء
...
ما الذي يبعد عن أحلامه الآن عيون الشهداء
اللابسين الموت فوق اللحم
من أجل دمشق
والذين انتثروا لم يعرفوا الزاد بدنياهم
ولا قبرا على درب دمشق
ما الذي يخفيه عن عيني دمشق؟
حينما تصبح عيناها ضميرين وجرحين من الأعماق
لا يشفيها الخمر ولا العشق
ولا زحمة تجار دمشق (39)
إن دمشق هنا عارية ـ وهي إذ تتعرى تظهر على حقيقتها بؤرة لكل ألوان الخسف والذل والبؤس والقهر، ومظاهر هذا القهر كثيرة:
تفرج معي
أهل هذي المدينة أهلي
وهم يتقنون الجنائز
حشد من الحزن والتعزيات
وحشد من الأحجيات...
هكذا تصبح دمشق نقطة ارتكاز لهموم أبعد من كيانها المادي.
لقد حظيت المدينة بحيز كبير في متن ممدوح عدوان الشعري، وتعددت مواقفه منها ـ لأن تجربة الحياة فيها قد كشفت للشاعر عن مضمونها الحقيقي ـ لتبلغ به هذه المواقف إلى حد التناقض:
ـ في جانب: تظهر المدينة طاهرة، عفيفة، خالصة، عذراء، "معشوقة" ومبرأة من كل العيوب.
ـ وفي الجانب الآخر: تظهر مزيفة، مشوهة، ملفوظة، وملعونة.
ومن خلال هذين الموقفين المتباعدين إلى حد التناقض، تنبثق المدينة/ الرمز التي تجسد بصفاتها معنى شاملا للوطن، والحياة ذاتها.
وهي ترتبط في الجانب الأول:بالعاطفة الوطنية والكفاح القومي. وترتبط في الجانب الثاني: بالخيانة والجبن والذل والمسكنة. وبذلك تكون المدينة قد فرضت نفسها على الشاعر باعتبارها أرضا ووطنا وتاريخا، ولذلك تعددت دلالاتها بتعدد زاوية النظر إليها:
ـ فهي تارة: المرأة المعشوقة أو الأم الحنون البديلة لجفاء الواقع، تبث الدفء، وتنشر الحنان وتعيد التوازن المفقود لأن الشاعر يعتبرها طرفا في حوار يبادلها همه وحزنه ويأسه وحبه وفرحه وكرهه وغضبه.
ـ وهي تارة أخرى: بؤرة للقبح والتشويه والفساد والاستكانة والضيم والإحباط. وهنا بالذات يقع الارتداد من : "المدينة (الموضوع) إلى الذات (الشاعر)، حيث يتفجر اليأس والحزن، ويتفرع في مجريات القصائد.
وبذلك يكون ممدوح عدوان قد جعل من المدينة/ الوطن رمزا شعريا كاملا، ووعاءا تتزامن في داخله:
ـ قيم الماضي: وذلك بالدفاع عنها وعشقها والاعتداد بها.
ـ وقيم الحاضر: بإنكارها وتنكرها ـ معا ـ
ب ـ المدينة/ الواقع/ الحياة:
وهنا تبرز المدينة باعتبارها الصورة المجسمة لواقع الحياة، ولحقيقة الوجود الإنساني، ولذلك فالشاعر لا يخاطب المدينة من خلال رموز وإشارات توسع من دائرة الدلالة ـ كما كان عليه الحال في القصائد السابقة ـ ولكن يخاطبها على نحو مباشر، وعندئذ يزول عنها التشخيص النسوي لتعبر عن وجه الحياة المقزم الذميم، وهنا ترتفع نبرة الهجاء المطرد للمدينة، والسخط العارم عليها، وهي نبرة لها أكثر من مصدر.
المصدر الأول: مشاعر الوحدة والغربة نظرا لتنكر المدينة له رغم ما مارسه من تجارب في أحضانها، وتظهر هذه المشاعر حادة قوية رغم ما تعج به المدينة من حياة وصخب.
وسأقتصر فيما يلي على إيراد بعض النماذج الشعرية من مختلف مجموعاته الشعرية للدلالة على هذا المصدر الأول.
يقول في إحدى مقاطعه من قصيدة: "هاجرت من عروبتها"(40)
كنت أعرف هذي المدينة
صوت بكاء أعزيه
فرحة عمر أغني لديها
ديارا تكفكف مني اغترابي
وحضنا على صدرها أترعرع.
ومن قصيدة له بعنوان: "لابد من التفاصيل" يقول: (41)
عشر سنين أضرب كالغارق في السيل أتخبط في الشارع
قدام الفيترينات
أتابع خفقات الأضواء
أتشاجر مع حراس الليل،
وأنضم لصف سكارى الليل
في كل مساء أتلاقى بالأصحاب،
وتنضم للحزب مسيرة
وعلى أرصفة المدن
...
كنا نتجول كالأغراب.
ويقول في قصيدة: "أتلفت حولك أبكي" (42)
غربتي كشفت وجهها
ولكي أتقرب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناء
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعي غال
تعلمت كيف استوى الدمع بالدم.
وهذا نموذج آخر من قصيدة له بعنوان: "ولا تحسبن"(43) إذ يقول:
ولا تحسبن أنني عاشق
غربتي الريح، والأرض راكضة.
كيف أوقف قلبي على امرأة رجفت
في البلاد التي تتأرجح نازفة
ثم التي تتخبط غارقة في دم الشهداء
أنا لست إلا غريبا
وغربته بدأت منذ أن صار للأبجدية معنى ومعنى
وصار الشهيد الضحية
صار الرصاص علامة موت وبدء زفاف.
هكذا أضحى الشاعر مغتربا في مدينته، متخبطا في شوارعها وعلى أرصفتها، ومتكبدا مشاعر الحزن والعناء، باكيا بالدمع والدم، ومنضما لصف سكارى الليل.
المصدر الثاني: مشاعر خيبة الشاعر وإحباطه التي تنساب كالسيل في كثير من قصائده، وهي نتيجة لتجربة الحياة في المدينة ولحقيقة وجوده الإنساني بها، إنها تجربة الألم والعذاب التي لا يفارق الشاعر إلا لتسلمه لرثاء ذاته والارتداد إلى عالم الطفولة، وسأقف على بعض المقاطع الشعرية من مختلف مجموعاته للدلالة على هذه التجربة.
يقول من قصيدة بعنوان: "هذا هو الحب إذن"(44) معبرا عن تجربة الألم هذه، ومصورا مشاعر التيه والضياع وارتداده إلى عالم الطفولة:
وأنا في دمشق التي تهت فيها
وضيعت أمتعتي وغنائي
فقدت بضوضائها قدرتي أن أحب
وجرأة طفل على الضحك.
ومن قصيدة: "زمن الجنائز الجميلة" (45) يقول الشاعر:
إلى أين يا صاحبي؟
قل إلى أين؟
لم أشرب اليوم
لكن عيني تغيم
وهذه الدروب تزوغ
دروب تدور
دروب مقطعة لا تؤدي
دروب التردي
دروب الحشود التي تتهادى على يأسها
تتنامى على بؤسها
كل درب يضيق سراطا
يسيح صحارى
وكل صباح توشح بالدمع أو بالسواد
وكل أغاريدنا للحداد....
إلى آخر القصيدة.
وتبدو مشاعر خيبته هذه وكأنها صورة لانقطاع العلاقة العاطفية بين الشاعر ومدينته ـ هذه العلاقة التي سبقت أن وقفت عندها سابقا والتي تجسدت في تشخيصه النسوي لها ـ وانقطاع علاقته بها ما هو إلا نتيجة لفعالية المدينة التي أصبحت تدور "دورة معاكسة" لما كان ينتظره الشاعر منها، فاستبيحت حرمتها، وانتهكت كرامتها، وتهاوت بذلك القصور التي بنيت من قبل على أساس وهمي، وانهارت الأحلام، وشاع الإحباط المكبل للحرية، والمفجر لنبرة الحزن والأسى التي ترتفع باطراد في قصائد عدوان:
وعلى جفنيك يدعوني نداء
أخرس النبرة سحري الدعاء
وجهي المطلي بالأتعاب دام
كلما حاولت أن أخطو إليك
صدني سور زجاج
...
غير أني سأنادي
فلعلي أتخم الصوت دعاء
عل صوتا يقحم الأسوار يسري في الزجاج
يسحب الدهشة من وجهي إليك (46)
لقد كان الكشف كاملا، فانقشع الوهم نهائيا، ولذلك لم يبق أمام الشاعر سوى رد فعل أخير، إنه الصراخ.
إلا أن رد الفعل هذا جاء سلبيا وقاسيا على الشاعر، الشيء الذي يفسر نزعة الألم والمرارة التي أضحت جذرا مشتركا لمجموعة كبيرة من قصائده الشعرية:
وجهي المطلي بالأتعاب يهفو ليديك
عله يغفو لديك
متعب في صحبتي من ألف جيل
هائم كالريح من دنيا إلى دنيا وراء المستحيل
قطرة النوم، إذا جاءته يغفو
مثل لص هارب يسمع أصوات الكلاب
قبل أن يستيقظ يعدو
صار لا يغفو، ومثلي لا يفيق
هائم مثلي في كل طريق... هارب من كل دار
قافز دوما ورائي من قطار... لقطار (47)
لقد أصبح يحكم القصيدة معجم شعري يساعد على الإحساس بمشاعر الإحباط هاته، ولذلك تحملنا قصيدة عدوان إلى قلب الماضي الذي يصبح هو مجال التشكيل الشعري في القصيدة، رافدة الحاضر المؤلم بركيزة تساعد على توسيع مجال الرؤية وتوليد أبعاد دلالية جديدة.
لقد انشطر الموقف بين الماضي ـ رمز النخوة والإباء والفروسية ـ والحاضر ـ رمز الهزيمة النكراء، والموت واليباس العربي ـ :
من ترى ألقاك في دربي؟
لماذا كلما حدقت في عمري، يبكي
في دمي طفل، وماض ودوار؟
ذلك الماضي رأى عينيك في حلمي، فأجهشنا
ولكن لم يكن عندي دموع
حينما نفجع نحتاج لدمع..
نحن منذ البدء، للدمع نجوع...
غير أن اليوم كالومض يولي
ليته يكفي لبحث وهروب ولذكرى ودموع
آه لو يمتد هذا اليوم ساعات لتكفي ذلك الماضي بكاء
ذلك الماضي رأى عينيك في حلمي.. فثار
شدني بين يديه
ثم طار
ورياح الحزن أدنته إليك
جاء كي يغفو، كي ينحر جيلا دامعا بين يديك
غير أن الليل أقصاه مرار
ومرارا صده عنك جدار (48)
إن هذا الهروب إلى الماضي يبدو غير يقيني، لأنه نتيجة لمشاعر حادة من الحزن واليأس والألم، ولكنه يضع نقاء الماضي في مواجهة شوائب الحاضر، ولذلك تصطدم براءة الحلم بجهامة الواقع وانقشاع الوهم، إلا أن إحباط الشاعر ليس مطلقا أو نهائيا.
وننتقل الآن إلى القراءة الثانية للخلفية الوطنية في شعر ممدوح عدوان، بعد أن انتهينا من قراءة المستوى الأول والذي يتمحور ـ كما رأينا ـ حول الوطن المشوه والمهزوم والمنزوع الهوية.
2- المستوى الثاني: قراءة في الوطن الساكن في أعماق الشاعر: الوطن/الحلم:
ومع تطور رؤية ممدوح عدوان الشعرية، تظل المدينة/ الوطن شاغلة حيزا كبيرا من اهتمامه، وتتغير صورتها بتغير أسلوب النظر إليها، في حين يبقى معناها الرمزي قائما ـ كما فصلت الحديث عنه سابقا في المستوى الأول ـ دون تغير كبير.
وهكذا، وبفعل تبلور الوعي المتزايد بالمكان، ينتقل عدوان في أعماله الشعرية اللاحقة من التشخيص النسوي للمدينة إلى التعبير المباشر عن البيئة المادية المعقدة والمتشابكة لها، هذه البيئة المرتبطة أساسا بواقع الوطن ككل، وهنا يقع الانتقال من المدينة/ المرأة/ الأم، إلى المدينة/ الواقع/ الوطن، لقد بدأ نوع من الالتقاء بين الشاعر والوطن ـ عبر المدينة، وأخذ في استكشاف جوانب جديدة لملامحها، ولذلك برزت مجموعة من الأسئلة أمام الشاعر، فراح يبحث عن المسؤول عن وضعها: السياسي والاجتماعي والوطني، وإذا به يتبين أن المدينة/ الوطن ليست مسؤولة عن ذاتها، وأننا نحن المسؤولون، فكل سماتها هي من صنعنا، فنحن الذين شوهوا وجهها بفقداننا لجوهرنا. وفي هذا الموقف الجديد انتقال من النقيض إلى النقيض، أي من شجب المدينة كلية، إلى تبرئتها كلية.
وقراءة هذا المستوى الثاني ضرورة لفهم مواقف الشاعر من القضايا الوطنية، سواء تجسدت في واقع المدينة المعقد، أم تمثلت في أرجاء الوطن ككل.
يقول في قصيدة: "وكيف يعشق القتيل": (49)
يمتلئ الشارع بالأعداء والرماة
يمتلئ الشارع بالمطاردين والجناة
يمتلئ الشارع إلا بالحياة
يمتلئ الشارع إلا بي.
لقد بدأ الشاعر في البحث عن المسؤولين الحقيقيين عن وضع المدينة السياسي والاجتماعي.
يقول في قصيدة: الرماد الساطع(50)
بالسر نختزل المدينة غرفة وزجاجة
بالسر نبدأ حبنا لهوا لنخترع البلاد
...
بالسر نختزل المدينة
نبدأ الحب الذي لم يلق سعرا في المزاد
فأغلق الكتب الجديدة والقديمة والعقيمة
...
هيهات...
طاردني الطغاة لكي أنظف منك
طاردك الطغاة ليفرغوا مني الشوارع
نختلي
بالسر نختزل المدينة:
كل هذا الحب ليس سوى بكاء من صبابه
بالسر نخترع العزاء...
هكذا يتحول موقف الشاعر من مدينة إلى الطرف المقابل، فبعد أن كان ناقما عليها كل النقمة، يرتد بهذه النقمة إلى الطغاة والأعداد الحقيقيين لما تعانيه من أوضاع متردية. لقد أصبح الشاعر ينظر في اتجاه واحد، هو تعرية المسؤولين الحقيقيين عـن وضع المدينة/ الوطن، وبدأت هذه النظرة تكسب موقفه من المدينة والوطن حيوية وعمقا في النظرة:
يا سماء المدينة ضاق الحصار
يا لصوص المدينة أين مضيتم بضوء النهار
لم أزل راكضا كي أفتش عني وعنها
سأعرفها بجدار وحيد سيسندني في الصدام
وسأعرفها حين تأتي إلي
فيعصي الكلام رغائبها
وتخون التعابير أحزانها
ترتمي في ذراعي
وتسلم أقوالها للدموع
فأفهم عزلتها الدامية (51)
ها قد أصبح الشاعر يفهم الأسباب الحقيقية وراء حزن المدينة وعزلتها، وأصبح يتعرف على المجرمين الحقيقيين، إنهم السلطة والأثرياء والمتخمون. وحينما يضع الشاعر يده على المسؤولين الحقيقيين عن وضع المدينة، يكتشف وجها آخر، إنه وجه الوطن الساكن في أعماقه، إنه الوطن/ الحلم، الذي هز الشاعر هزا طوال عقود أربعة من الزمن بفعل الأحداث التي أرقته وجعلت منه بؤرة لكل أنوع العسف والخيبة والهوان، ومن ثم يتساءل:
ما الذي تبتغيه إذن؟
لا وضوح الخيانات أرضاك
ولا رعدة الجبناء
ولا شهقات الدماء
ولا تراكم قتلى المرور
ولا الاغنيات
هل يستوي الشهداء
بما يربح الوسطاء
أتى الأهل رتلا من الطامحين
فصاروا طواغيث
أرضك ترجعهم لقراهم توابيث (52)
إن واقع الوطن يضع على الشاعر أكثر من سؤال:
ماذا تريد إذن؟
أنت مازلت تحلم أن تستعيد لدمعتك الكبرياء
تبغي أن تطال السماء
إنه زمن غير ما علموك
وغير الذي جاء في كتب الله
أو كتب الماركسيين
غير الذي أنذر الأنبياء به
والذي عنده استشهد الشهداء
قصب السبق موت
وحبك صوت
بلادك مصيدة
والسيادة فيها عزل
الشراتون يفتح أبوابه
ويفتح عزل البلاد المنيعة (53)
لقد تغيرت أحوال الوطن، وتبدلت ملامحه، وتغيرت صورته بين الأمس واليوم، ولذلك ستتغير كل الدلالات، فالزغردات تصبح نعيقا، والأفراح أحزانا، والأحياء موتى:
هذي الزغاريد للمنتصرين
وأخرى لرتل الجنائز
من جعلوا للهزيمة هذا الثمن
زغردات تزين الطريق
المؤدي لمقبرة
لم تجد ما تضم
سوى حلمنا في الوطن
وتبقى بلادي "غيتو"
سخيا بأمواته
وطليقا إذا ما أردت السفر
مطمئنا أسير
وقد أدركتني كلاب الأثر
مطمئنا أسير
إلى أين؟
أين المفر؟ (54)
إن الشاعر يرى أن انتماءه لهذا الوطن هو انتماء يسلبه الحرية والأمان، ويحاصره بالخوف واليأس، ولذلك تنتابه مشاعر حادة لدرجة التفكير في تغيير ملامحه ودمه، وخلع نسبه حتى يتطهر كليا من هذه الصلة التي تربطه بوطنه المتخلف المهزوم:
إني تبرأت مني
أغير حتى الملامح والدم
أخلعهم من ضميري ونسبي
أتطهر من هذه الصلة المنكرة
واستمحتك يا وطني
ورجوت دموعك مغفرة. (55)
إنه يرى الواقع السياسي لوطنه مدانا، ويرى أنه معطوب كفرد، وهذا ما يقوده إلى تقرير حالته:
هنا وطن ضائع في مسامي
أنا ضائع في مفاصله
أمس جردني من سلاحي وحزني
وقدم لي علبا بعواطف جاهزة
...
فسبحان من خلق الطاعة البشرية
...
سبحان من جعل العنق صالحة للمشانق
والأمن منسجما مع عتم السجون
وأنشأ للكفر ناطحة للسحاب
وأنشأ أقبية في بلادي
وسبحانه
كيف أخفى معاجزه عن عيوني (56)
هكذا يقف الشاعر من وطنه موقف الشاهد على حاله، والمكتوي بناره، يقرر حالته متمردا عليه، ومتنكرا له، وهو موقف يعبر عن الظمإ الطاغي لوطن بديل يسوده العدل والحرية والكرامة:
ها قد كبرنا فلا وقت للخوف والحلم
لا وقت للماء
لا وقت للاغنيات أو الأمنيات
ولا "موطني، موطني"
...
أين فرت زهور البساتين؟
أين العصافير في أغنياتك؟
أين الصبايا وقوس قزح؟
والبلاد التي تزدهي خطبا وسياطا
تباهي بنا نصبا ومشانق
تحتاجنا في معارضها جثثا
والبلاد التي تتشكك في ضحكات الصغار
وفي نهدات الثكالى
وصمت الرجال
البلاد التي صار فيها البغاث نسورا
وشدت سروج الكلاب العريقة
هذي البلاد التي عاتبتنا على نزفنا
دجنت صرخات التفجع
أو نهرتنا لنخنق نبض التوجع
...
أيها الوطن الناعم النائم
أيها الوجع الدائم
كان صوتي نديا
وعذبه الشوق للماء
حتى أنجرح
ثم لا وقت للماء
لا وقت للغيث والغوث
أو للندى
...
ها هو وطني امتد رمضاء
ما بين ماء وماء
وها وطني الآن أشجع مني:
...
من يوجه أمرا إلى العاصفة؟ (57)
لقد كان للأحداث الكبيرة التي شهدتها سورية، والوطن العربي، منذ حرب فلسطين، ومرورا بالهزائم التي تلتها، الأثر البارز لظهور صيحة اليأس والهزيمة هذه، وفقدان الأمل في المستقبل كليا، وهذا ما حدا بالدكتور أحمد بسام ساعي إلى القول:
"ولا شك أن هزيمة حزيران جرح عميق الغور كان من الممكن أن يؤدي ـ لو استمرت آثاره إلى ما بعد حرب تشرين 1973 ـ إلى انتكاسة نفسية خطيرة في نفوس شعرائنا قد تمتد لتأخذ اتجاها عميقا وخطيرا في الشعر العربي، يشبه في مأساويته وسلبيته ذلك الخط الرومانسي المتشائم في الأدب الفرنسي"(58).
وبتتبعنا لمجموعات ممدوح عدوان الشعرية، يتضح لنا أن موقفه من وطنه لا يزال قلقا نظرا لوشائجه الحميمة اتجاهه، إلا أن هناك تطورا متصاعدا يبلغ به مستويات جديدة من النقد الاجتماعي ومن التحليل الشعري. لقد اختنق الوطن الحلم، وحل محله زمن الانصياع:
هكذا اختنق الوطن الخلبي
من الشط بالنفط والدعوات
وأقفرت الأرض
رحت أهاجر من جسدي حالما
...
جاءنا زمن الانصياع
...
زمن تصبح القصص العربية فيه
من القتل والجوع والذل
مهروءة مضجرة
سوف ننسى غدا
أن شمس البلاد السعيدة
قد ذبحت
فالدعاء المضيء يغطي النزيف
وحاجتنا للرغيف
ويبهرنا في المواسم وهج الخطابة
...
والبلاد تضيق
تضيق بنا اللغة المنكرة
...
إنها اللغة البكر
والآن سوف نعيد القراءة
سقطت بيننا كالنيازك
صرة حلم
مكبلة بالكلام البليغ
بدأنا نفك الحروف العريقة
فانكشفت جثة الوطن الدمع (59)
لقد انكشف الوهم إذن، وانقشعت الأحلام، وبدأ الشاعر في استقراء أبعاد الأزمة التي خلخلت توازنه، ولذلك يتهيأ لفعل جديد، إنه رسم ملامح جديدة لوطنه الساكن في أعماقه، إنه التمرد على منطق الهزيمة ومحاولة استنبات الأمل من جديد:
كنا في الصحراء
ظمأى نبحث عن قطرة ماء
حين أتت طائرة الأعداء
قصفتنا
قصفتنا
قصفتنا
ألقت كل قنابلها
فتفجر نبع الماء.(60)
لقد فجر مياه الأرض القاحلة بقنابل الأعداء وجراح الهزيمة، وبذلك ينفجر اليأس القاتل عنده أملا طافحا بالبعث والتجدد، وهنا نكتشف مع ممدوح عدوان الوجه الآخر للحظة تاريخية حاملة للبشارة والتخطي، إنه الوجه الذي يبشر بأعراس الغد الآتي، وبالثورة المحتدمة في النهاية. ومن ثم تنزع اللغة وشاح حدادها لتغمرها الدلالات المضيئة:
أيهذا الوطن اسمعني
فقد ناديت عمري فيك لم أسمع سوى رجع النداء
سوف أختار على أرضك موتا
لم يكن يخطر يوما في ضمير الأنبياء (61)
هكذا ينقلب الموقف من يأس إلى أمل، ومن موت إلى بعث:
إن الأرض تسبقني إلى وجهي
وتسبقني إلى وجعي
وكأن ترابها جرحا
فصار له ضماد (62)
وبذلك يكون الشاعر قد انتهى إلى التبشير بالوطن /الحلم، الوطن/ البديل ليكسب موقفه منه حيوية وعمقا في النظرة.
III- الخلفية الاجتماعية:
1- بنية التوحد: توحد الشاعر بالهموم الاجتماعية للوطن المفجوع وبالفقراء والمحرومين
يقول مممدوح عدوان:
"إنني في حياتي كلها، وفي كل ما كتبت من شعر ومسرح ومقالات صحفية، كنت مهتما إلى أبعد الحدود بما يجري حولي... إن متابعة ما يجري لا تعني فقط الاستماع إلى الأنباء ثم كتابة الشعر، بل تعني التوتر والقلق والخوف والتورط في مواقف غير أدبية، وربما الانفعال والبكاء أو الغضب وخوض المشاجرات، وربما التطوع في القتال. متابعة ما يجري تعني أن يصبح الوطن قلقا شخصيا مؤرقا أكثر مما يؤرق فراق الحبيبة أو الانشغال بصوت الريح في ليلة عاصفة...وتصبح المطالب التي لها وجه سياسي، مطالب شخصية، والهم الوطني هما شخصيا، حتى يمكنني الادعاء بأنني لم أكن أكتب عن نفسي كنت أكتب مخاوفي وفجائعي وانكساراتي".(63)
نستنتج من هذه القولة أن العمل الفني ـ في نظر ممدوح عدوان ـ هو: استجابة واضحة لوظيفة محددة سلفا، قد تتفاوت بين ما هو قومي أو وطني أو اجتماعي، لكنها لا تستطيع الإفلات من شرطها الذاتي.
فإلى أي حد وفق ممدوح عدوان في المحافظة على هذه المعادلة؟ وإلى أي حد توحد الشاعر بالهموم الاجتماعية، واندمج بالفقراء والمحرومين؟
يبدو عدوان من خلال مجموعته الشعرية "الدماء تدق النوافد"، شاعر الطبقة التي عانت العذاب المر، والوضع اللاإنساني، لذلك يعلن انتماءه لجبهة الفقراء والجياع ضد المتخمين والأمراء والمستغلين. وانتماؤه لقضية الكادحين هذا، لا يكشف عن وعي الشاعر الإيديولوجي فحسب، ولكنه يكشف كذلك عن موقعه الطبقي.
ولنبدأ بأول قصيدة تطالعنا في ديوانه "الدماء تدق النوافذ" وهي معنونة باسم الديوان، حيث يستهلها بقوله:
يبدأ الجرح في وطني بالتراب الجريح
ثم تحمر منه الدماء
يبدأ القهر من صرخة الأقبية
ثم يمتد حتى السماء
يبدأ الوطن المترجى من طعام الصغار
ومن الفقر حين تضايقه التسمية
ينبع الفقر من أوجه الفقراء
حينما استغفروا الله مسكنه
حمدوه على اللقمة المخزيه
ستروا فقرهم
مثلما تستر المعصيه(64)
إن انتماء ممدوح عدوان هذا، لا يقتصر على مجرد التعاطف مع جبهة الفقراء، بل هو إيمان بدورهم التاريخي، ودعوة لتنظيم وتأطير حركة الجماهير الفقيرة لتكون بديلا للترهل السائد في أوضاع القوى والتنظيمات القائمة:
ها أنا بدم أتدثر
إن الدماء تدق النوافذ
توقف زحف المشاة
بدأ الدم من جرح كف تجاهد للخبز
تجني مجاعتها كل عام
بدا الجرح من نهر ماء يفيض بوجه الحسين المضرج
وتدفق في النيل
والنيل يحمل وجه الشفيع المدجج
بدأ الدم من شجر (بين عمان والنهر)
كانت تقصفه الريح
والزارعون يغصون بالدم
خوف الطغاة(65).
إن توحد الشاعر بهموم الفقراء والجائعين، هو الذي يدفعه إلى تصور كيفية الخلاص من بؤسهم ومن (لقمتهم المخزية)، واستشراف ثورتهم الواعية المسؤولة. لذلك فهو يجهز على الخوف والتوقع الكامنين في أعماق الكادحين والمحرومين، والمبيدان لكل محتوى إنساني:
كان الجياع يجوعون سرا
يخافون جهرا
ويخفون في القلب حتى الدعاء
وأنا أرقب امرأتي خلسة بين جميع النساء
وأرى رعبها يتجمد نبض سؤال
والدماء تدق النوافذ
ـ كانت بنادقنا في المخابئ ـ
والغاضبون امتطوا حرقة العمر
(كي لا يموتوا اختناقا)
فماتوا اغتيال. (66)
إن الشاعر يتمرد على الإحباط والخوف والمسكنة، لأنه يريد الوجود الأصفى والأكمل للإنسان لكي يحيى كما هو لا كما أريد له أن يكون.
وتمرده هذا تعبير لمعاناة حقيقة تلاحقه وتحاصره، لذلك نراه يحدد ملامح ممتصي دماء الفقراء والجائعين، والجلادين والقابعين بألوانهم المختلفة.
هو ذا زمن فيه أعداؤنا ينبعون من البيت
يسحبون الخناجر
يأتون من سحن الأصدقاء
ومن سحن الأقرباء
إنها هجمة بدأت بحصار الدمار
قلت يا امرأتي انتبهي
واحفظي ما ترين
سقطت عنهم الأقنعة
والأفاعي التي تطمئن
وتظهر أنيابها
ثم تهجر أوكارها
سوف نعرفها حية حية.. حية
حنشا.. حنشا
وسنرقب أوكارها
والأجنة وسط البيوض
ونعرف لون العظام (67)
إنه يكشف الأقنعة عن أعدائه الطبقيين، ويعريهم رغم التواءاتهم واحتيالاتهم وتذبذبهم، كيف لا وقد عاش الشاعر ووعى لذعة الجوع بفعل انتمائه الطبقي إلى الريف السوري الذي مازال الفقر يلف معظم هذه الطبقة الكبيرة من المسحوقين الذين لا يبارحهم سوط الاستغلال.
ولهذا نجد أن الشاعر يرسم لنا ـ بمهارة فائقة ـ أدق المشاعر المخزية التي ألحقت بالإنسان الجائع:
لم يزل فقراء القرى يأكلون البذار
لقمة توقف الجوع وليهجم السيل
مستقبل الجوع أوضحه أمسه
والخواء يفرخ وسط الجرار،
لم يزل فقراء القرى يولدون
من الكسل المر ينمون فيه عجافا ثمار السنين العجاف
ويروضهم جوعهم ليظلوا خرافْ
يفقدون الدموع
وتبقى العيون الكسيرة،
يستوي الأمر
هذي البوار كهذي المواسم إذ لا يرون القطاف (68)
لقد وضع الشاعر يده على جذور مشكلات فقراء القرى، حيث الاستغلال البشع لإنسانية الإنسان، وغياب الري المنظم، وتحول الأرض إلى صحاري في زمن هش مليء بالفراغات، ولذلك يصرخ الشاعر مناديا بالقضاء على هذا الجوع والخوف والخواء، لأنها في حقيقة أمرها ما هي إلا عادات اتخذ منها المجتمع تحديدا وضبطا لسلوك أفراده، خدمة لمصالح طبقية وسياسية، إنها أخلاق نفعية مسخت كل قيم الإنسان، وحقيقة الصافية:
كل ثأر يخبئه المتخمون
كل ثأر تبدد بين القرارات
والأمنيات التي علبت
والدموع التي حولت للمساحيق ماء
وأنا حامل دم أهلي
الذين تزور آلامهم كل صبح وكل مساء
وأنا أعرف الجوع إذ يتنكر صوما وأكل بذار
وأنا أعرف الخوف إذ يتبدل تقوى وحب شجار
وأنا أعرف الذل
إذ فرضوه القناعة: نكران هذه الحياة
جوعهم كافر:
صار ذاكرة
وبطونا مورمة
وجلود صبايا مهدلة
وامتنانا لفضل السماء (69)
ويستمر الشاعر أصيلا في وعيه، عميقا في تصوره للصراع، دقيقا في تحديد ملامح عدوه، منقبا عن أمراض النفس البشرية، محددا إياها في: الخوف ـ الشجار ـ القناعة ـ التقبل ـ الدعاء ـ الصوم.
ويتبلور وعي الشاعر أخذا مسيرته نحو التشكل وقف وعي ثوري أصيل، يعانق الجائعين في كل لحظاتها، إنه وعي الجوع والذل، إنه الانتقام من صانعيه، والمشوهين به وجه الإنسان، وهو يحدد نقطة الانطلاق نحو تصور الحياة، وكيفية الخلاص من "عقدة الجوع":
يبدأ الثأر من جوع أطفالنا
ودموع الرجال
سنخزن أحقادنا المبدعة
سنحل دماها:
أنا فارس الغد، حين نلاقي الزمان
إنني أرجع الدهر نحو بدايته المفزعة
وأنا أمتطي صعبتي وأراقب كل المداخل
جاءنا زمن القتل
لم يبق شهر حرام
فتعالي نعلم حجارتنا أن تشير إليهم وتتقن أسماءهم
أخذوا عمرنا من بدايته
ولنا سوف تبقى فصول الختام:
يلتقي الجائعون بجوع جديد مقاتل
إنه زمن القتل عبر جميع اللغات
لن يكون به آمن:
كل من دخل الأرض يضحي قتيلا وقاتل
وحجارتنا ستدل عليهم وتعلن أسماءهم
ثم لا عفو:
للفقر ذاكرة لا تخون الدماء السبيه (70)
إن الشاعر لا يحمل هما فرديا ـ وإن صح هذا جزئيا ـ بل يحتوي هموم الجماعة التي لوحها الجوع والحرمان، ويدفعها إلى استشراف غدها عبر ثورة لا تعرف الهوادة، إلا أن هذه الثورة يجب أن تكون على مرحلتين:
أ ـ المرحلة الأولى: ويتم فيها التمرد الكامل على "الأنا الأعلى" على المواصفات والأخلاق الموروثة، ومن هنا وجب الهجوم على قيم الأمس الأسود:
يا زمان الهجوم
والأراجيز في زحمة الهول
والهجمة الضارية
والمخاوف في القلب إذ يرتمي حافر الفرس الكابية
يا زمان السيوف
ويا رجفة القلب من ضربة نابيه
فقرنا كان كل الذي في اليدين
فامتشقناه، سرنا:
طريقا تشقق
تطويه للتأثر من عمرنا
قد شققت في الطريق.(71)
والثورة في مرحلتها الأولى هذه تعيد بناء الذات بعد تهديمها، وتبني أسس عالم جديد يتمتع فيه الإنسان بحيوية جديدة وانطلاق أوسع يقل فيه الإحباط والتراجع والتقصير:
أبدأ الشدو رغم العذاب القديم،
أنفض اليأس، أنهض
أشهر سيفي
وأهجم رغم العياء
ثم أهوي إذا ما غشاني ضياء:
لست رائد قومي ولست نبيا
وما بي علامه
من تنبأ لي أن ألاقي هذا العذاب؟
لم أزل أبصر الروم والفرس والترك في القصر،
والزنج في فقرهم يغرقون (72)
ب ـ المرحلة الثانية: وفيها تتحقق الثورة الكاملة على الواقع المعادي للإنسان لأنه مليء بالإحباطات والحرمان في أقصى صوره. إن الثورة هنا تعبير عن الذات الواعية بشروط حياتها المبصرة لمصادر إحباطها وحرمانها ـ نفسيا وطبقياـ ، إنها ثورة لا تقبل الجمود والتخلف، ولا تعرف الخوف والتراجع، لأنها تنشد تطهير الإنسان وتحريره من "عقدة الجوع":
صاح جرح لا يداوى:
أيهذا الوطن اسمعني
فقد ناديت عمري فيك لم أسمع سوى رجع النداء
سوف اختار على أرضك موتا
لم يكن يخطر يوما في ضمير الأنبياء
صاح فقر:
البلاد ابتدأت من دمها
والمهرجان اشتعلت فيه دماء الشهداء
يا بلادي
كلما مرت على أرضك نعمى نسيتنا
نسيت رؤية قهر الفقراء
إنهم قد أوصلوا جثة من مات إلى القبر زعاريد
لكي لا تلتقي عيناك فيهم بالبكاء
...
مرنا ما تشاء
فتلكن ما كانت الحرب:
طريقا دمويا للخيانات
ستارا دمويا لدموع الفقراء
فلتكن أغنية دامية عند وداع القدس
أو بابا يرد الغد عنا
فتلكن قبرا لنا أو لفلسطين
ولكن لن تكون الحرب أن تمضي للمذبح وحدك
....
إن قهر الفقر يأتي
وحده يركض بين الموت والموت
وبين الطلقة العمياء والجرح الذي تفتحه
ثم يغني في الدماء
وحده يبسم للموت
فموت العاشق الولهان في عشق حبيب القلب
عربون الوفاء (73)
إن لكلمتي "الجوع" و"الفقر" دلالات عن مخبآت نفسية لدى الشاعر، فهي رموز للفاقة والعوز والضعف والمسكنة والحرمان، ولذلك نرى أن كلمة "الجوع" رهيبة وشديدة الوقع على نفس الشاعر، نظرا لكون" الجوع" له سطوة على الإنسان، بل هو المحدد لمساره:
ـ فإما يصعلكه، ويجعل منه فاقدا للوعي، متبلدا.
ـ وإما يحرره تحريرا كاملا.
إنه أحد أعمدة التمرد الكبرى في الحياة البشرية، والشاعر لا يرضى إلا أن يكون ثائرا ومعبرا عن الأعماق الخفية للمكتوبين بنار هذا الجوع، كاشفا لها، وهو يبدأ هذه المكاشفة مع نفسه أولا، مبديا تناقضه الدفين تجاه واقعه:
أيها الجوع،
منذ التقينا امتشقت السلاح
وأقسمت: لا أسلم السيف حتى تموت
كيف أسلمتني للذي باعني
والذي لم يجع
لم يذق طعم هذا العراء
وأنا لم أذق،
منذ عاهدتك الله، قوت. (74)
لقد وجد الشاعر طريقة إلى الخلاص الاجتماعي الحقيقي، والجوع هو "حجته الواحدة":
كل نبع يحاصر
لم يبق للشرب إلا الدماء
من ضفاف المحيط إلى كربلاء
وحدنا فوق رمل البلاد هوينا
انتفخنا على الرمل حتى انفجرنا عفونة" (75)
يلخص هذا المقطع الشعري الأعماق الخفية للجماهير الفقيرة، والشاعر يلتقط هنا عناصر الطبيعة ويمزجها بعناصر الواقع:
النبع ↔ الماء، ثم يلتقط رمزا تراثيا: كربلاء، ليجعله مفتاحا لفهم المأساة الجديدة.
هكذا يتطور الوعي وفقا للتطورات المتناقضة طبقيا من حوله، فيتحول إلى وعي ثوري أصيل يقوم على أسس ثابتة وراسخة، إنه وعي الجوع والذل والمسكنة، إنه وعي يعانق نفوس الجائعين في كل لحظاتها لينتقم من صانعيه والمشوهين به وجه الإنسان:
كيف أخبئ سيفي
وجوعي معي
والطريق استحالت صحارى (76).
وينتابه التقزز من رؤية الإنسان الذليل في أعماقه، المتباهي في مظهره، المعاند كالأحمق المخذول:
لو أن الذل ريش الطواويس
حتى تباهوا به في عناد
ها هنا امتلأت هذه السوق بالذل
فلتبدأوا بالمزاد (77)
ويمضي الشاعر غير ملق سلاحه، متطلعا إلى مسار النجاح مهما كلفه ذلك من تضحية، فلا اليأس بقادر أن يثنيه عن عزمه، ولا الإخفاق بمستطيع أن يردعه عن إصراره:
لم تزل في الزمان بقية
لم يزل ما تبقى من العمل عمرا ولو كان مثل الهشيم
لم تزل في العذاب تقاوم هذه السبية،
قال لي دمك النازف اليوم رغم الجفاف
الينابيع تبقى سخية (78)
إن ثورة الشاعر على الجوع وصانعيه ثورة عارمة لا تقبل التقوقع ولا الجمود:
أبدأ الشدو رغم العذاب القديم
انفض اليأس، أنهض
أشهر سيفي
وأهجم رغم العياء (79)
وبذلك يكون ممدوح عدوان قد تألف مع قيم طبقته، لا يحيد عنها، فهي البصيرة التي ينفذ منها للعالم، وهي القيم التي يواجه بها سارقي خبز الفقراء، ويكون بذلك قد عمل على تطهير نفسه وتطهير الآخرين، محددا بذلك علامة الطريق الثوري للجائعين ضد المتخمين والتجار والصيارفة الذين زيفوا حقيقة المجتمع، واستباحوا حقوق الحياة الكريمة للأفراد والجماعات، وقد استطاع بذلك أن يضع يده على جذور مشكلات الشعب، معبرا عنها بصور فنية شديدة الوقع والتأثير على النفس البشرية التي عانت من "عقدة" الجوع.
وهكذا يتضح لنا أن دلالات القصيدة عند ممدوح عدوان تفترض أساسا علاقات متشابكة بأكثر من عنصر، وأكثر من خلفية: قويمة ـ وطنية ـ واجتماعية...، إلا أنها استجابة واضحة لوظيفة محددة سلفا باعتبارها وعيا للعالم.
إلا أن هذه العلاقات تتوحد داخل بنية القصيدة في محدد إيديولوجي وفكري واضح، يلتقط العناصر المفتتة، ويصبها في زاويتين متقاطعتين:
1 ـ الزاوية الأولى: ويجري فيها تقطيع القصيدة بجمل تقريرية تضيء المستوى الإيديولوجي، وتنساب في التقاط مفاصل التاريخ العربي في الفترة المعاصرة، وتفاصيله التوترية، ملتقطة بذلك مجموعة من التساؤلات التي طبعت الثقافة العربية التقدمية بعد هزيمة حزيران. لكن تعود هذه التقريرية إلى الاختفاء داخل تداعيات وتلاوين تاريخية وهنا ينجح الشاعر ـ بتحايل كبير ـ في العودة إلى عناصر تراثية مستقاة من الزمن العربي: الجاهلي والإسلامي على الخصوص، فيشتبك الزمن في لعبة إيقاعية تقود القارئ إلى مقارنة بين الزمنين واتخاذ موقف منهما.
2 ـ الزاوية الثانية: ويتم فيها تقطيع بنائي يقسم القصيدة إلى لحظات متداخلة، حيث يستطيع الشاعر إحداث انحناءات وتحولات تكسر دائريته سواء:
ـ بسرد الحوادث التاريخية
ـ أو تضمين نصه بأقوال تاريخية وعبر تراثية
إن لممدوح عدوان قدرة فائقة على استرجاع الزمن الماضي، وإعادة إحيائه كمرجع واقعي يبرز من خلاله:
ـ تردي الحاضر
ـ وسكونيته.
هوامش:
يوري لوتمان "structures du texte artistique" Production du texte 83.
مايكل ريفاتير: "Sementic over determination" in Poetry.77 in P.L.T. Vol 2.1977.
ما يكل ريفاتير: "تحديد الدلالة الشعرية "
لوسيان غولدمان: "البنى الذهنية والإبداع الثقافي".
10/18 Editions Anthropos. Paris 1970
من مجموعة الشعرية: "الظل الأخضر دار العودة. بيروت ط 2، 1982
نفسه، ص: 22
" رؤى عن الخنساء" من نفس المجموعة: "الظل الأخضر" ص: 22.
نفس القصيدة. ص:22 ثم ص: 25.
من مجموعة الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" دار العودة. بيروت ط 2، 1982، ص: 44-45-46.
"ولا تحسبن" من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 91/92/94/95.
نفسه ص: 98.
قصيدة: "وكان الخوف شوقا" فن المجموعة الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل"، مصدر مذكور. ص 113.
من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" دار العودة. بيروت، ط 2، 1982، ص : 53-55.
قصيدة "سقطه وحشي" من مجموعته :" تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 47/49/50.
"خارجي قبل الأوان" من مجموعته: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 67-68.
نفس القصيدة من نفس المجموعة. ص: 70-71.
"الهروب من ثورة الزنج" من مجموعته الشعـرية: "الدمـاء تـدق النـوافذ". ص: 25-26.
من قصيدة: "الدماء تدق النوافذ" من نفس المجموعة الشعرية. ص: 12-13.
19- من مجموعته: "الظل الأخضر" دار العودة بيروت. ط 82.2. ص: 44.
20- قصيدة: "الطاووس" من نفس المجموعة. ص: 47-48.
21- قصيدة: الطاووس" من نفس المجموعة. ص: 50-51.
22-"أقبل الزمن المستحيل" من مجموعته الشعرية التي تحمل نفس العنوان دار العودة. بيروت. ط.82.ص:26/27/28.
23- "أستميحك ذاكرتي" مـن مجموعته الشعرية: "لابد التفاصيل" دار العودة. بـيروت. ط 82.2. ص:54/56.
24- "ولا تحسبن" من المجموعة الشعرية": أقبل الزمن المستحيل" ص: 108-109.
25- ممدوح عدوان: "كلمات عاجلة إلى القنيطرة" من(تلويحه الأيدي المتعبة) ص: 5-6.
26- من نفس المصدر السابق. ص: 7.
27- من نفس المصدر السابق. ص: 10 وص: 12.
28-من قصيدة: "في الطريق" من مجموعته" الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص:37/38.
29- من قصيدة: " في الطريق" من مجموعته" الظل الأخضر" مصدر مذكور. ص: 38/39.
30- من نفس القصيدة. ص: 40-41.
31- من نفس القصيدة: ص: 42-43.
32- من قصيدة: "الأغنية الثانية" "الظل الأخضر" ص: 101-103.
33- من نفس القصيدة: ص: 104-105.
34- من مجموعته الشعرية: "الظل الأخضر" ص: 107-108.
35- ممدوح عدوان: "كلمات عاجلة إلى القنيطرة" ص: 13-14-15-16.
من مجموعته الشعرية: "تلويحة الأيدي المتعبة" مصدر مذكور
36- من قصيدة: "تلويحة الأيدي المتعبة" من ص : 37 إلى 40.
37- من قصيدته: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 42-43.
38- "هاجرت من عروبتها"من المجموعة الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص:29-30-31
39- مهرجان دموي للفقراء من مجموعته "الدماء تدق النوافذ ص: 75.74.73.
40- من مجموعة الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص: 31.
41- من مجموعته الشعرية: "لابد من التفاصيل" ص: 104-105.
42- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" ص: 6-7.
43- من مجموعته الشعرية: "أقبل الزمن المستحيل" ص: 107-108.
44- من مجموعته الشعرية: "يألفونك فانفر "ص: 18-19.
45- من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" ص: 52-53.
46- قصيدة الجدران من المجموعة الشعرية: "الظل الأخضر" مصدر مذكور ص: 112.
47- نفس المصدر السابق. ص: 113-114.
48- نفس المصدر السابق. ص: 114-115-116.
49-من مجموعته الشعرية: "للخوف كل الزمان" ص: 75.
50- من مجموعته: "للخوف كل الزمان" دار العودة ـبيروت. ط 1: 82. ص: 99-100-101.
51-من مجموعته الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص 41-42.
52- من مجموعته الشعرية: "لابد من التفاصيل" ص 27-28.
53- "أوتوستراد" من مجموعته: "لابد من التفاصيل" ص: 27.
54- "أستميحك ذاكرتي" من المجموعة الشعرية: "لابد من التفاصيل"
55- أستميحك ذاكرتي" من المجموعة الشعرية: "لابد من التفاصيل" ص: 42.
56- نفس القصيدة، من نفس المجموعة. ص: 76-77.
57- قصيدة صلوات داجنة. من مجموعته: "لابد من التفاصيل" ص: 83-87.
58- د. أحمد بسام ساعي: "حركة الشعر الحديث في سورية من خلال أعلامه" دار المأمون للتراث. ط 1. 1978. ص: 475.
59- "أستميحك ذاكرتي" من المجموعة: "لابد من التفاصيل" م ص: 48-56.
60- قصيدة: "الصحراء" من مجموعته: "تلويحة الأيدي المتعبة" ص: 132-133.
61- "الحصار" من مجموعته: "الدماء تدق النوافذ" ص: 76.
62- "وكيف يعشق القتيل" من مجموعته: "للخوف كل الزمان" ص: 101.
63- ممدوح عدوان: "دعوة إلى نقد جيل الستينات". جريدة البعث السورية عدد 6725. بتاريخ: 22/2/1985.
64- ممدوح عدوان: "الدماء تدق النوافذ" ص: 5-6.
65- ممدوح عدوان: "الدماء تدق النوافذ". ص: 7
669+- قصيدة : "الدماء تدق النوافذ" من مجموعته الشعرية بنفس العنوان ص: 9.
67- نفس المصدر السابق. ص: 11-12.
68- "الجوع يسرق المدينة "من مجموعته الشعرية: "الدماء تدق النوافذ" ص: 45-46.
69- نفس المصدر السابق. ص: 49-50.
70- من قصيدة: "الدماء تدق النوافذ" ص: 12-13.
71- من قصيدة: "الهروب من ثورة الزنج" ص: 18-19.
72- من نفس القصيدة: ص: 25-26.
73- من قصيدة: " مهرجان دموي للفقراء" ص: 76-80-81
74- قصيدة: "الهروب من ثورة الزنج" ص: 15-16
75- قصيدة: "سيأتيكم زمان" من المجموعة الشـعرية: "أقـبل الزمـن المستحـيل" ص: 45-46.
76- قصيدة: "أقبل الزمن المستحيل" من المجموعة الشعرية بنفس العنوان: ص 23.
77- قصيدة: "أقبل الزمن المستحيل" من المجموعة الشعرية بنفس العنوان: ص 25.
78- قصيدة: "الهروب من ثورة الزنج" من المجموعة الشعرية": "الدماء تدق النـوافذ" ص 23.
79- "الهروب من ثورة الزنج "من المجموعة الشعرية:"الدماء تدق النوافذ" ص: 25-26.