في "امرأة الرسالة" لرجاء بكرية، تفاجئك الكاتبة وتذهلك وتربكك كقارئ في آن معًا. فنصّها المذكور نصّ مخاتل ومراوغ. نصّ يشدّك نحو قراءته كرواية حينًا، ويجذبك لقراءته كنص أدبي حكائي استعاريّ حينًا آخر. ولكن في الحقيقة هو منزلة بين المنزلتين، والتعامل معه مهما اختلفت زاوية التناول، يجب أن يكون من خلال كونه نصًّا قصصيًّا، ذلك لأنّه يمتلك كل خصائص هذا الجانر. وهذا النص القصصي في جملته يروي حكاية امرأة مثقّفة من خلال علاقة مثلّثة بالرجل: "وائل الزوج الذي هجرها ورحل إلى الخليج بهدف العمل، والذي استقر هناك وتزوّج/ غسان الفنّان والسجين السياسي بتهمة الإرهاب الذي تعشقه عشقًا صوفيًّا روحًا وجسدًا وهو المحور الأكبر في النص/ وكاظم خيبر العراقي المقيم في لندن، والملجأ الذي يلمّها كلّما كبست عليها لحظات اليأس والضياع والحيرة، والذي يتقن العزف على مفاتيح الجسد".
هذه العلاقات مع التفاوت بينها هي التي تلم شعث النص. ولكن ونحن نقول هذا، يجب أن نكون حذرين، لأنّ العلاقات الثلاث بتشظياتها وانفتاحاتها وتلوّناتها هي علاقات مع رجال تستحضرهم الراوية/ البطلة من الذاكرة، فهم ليسوا شخصيّات نابضة حيّة فاعلة في الواقع، إنّها شخصيات تعيش في الذهن. تستحضرهم في الذاكرة ومنها، وتنبش في علاقتها مع كل واحد منهم وتحاوره وتداوره وتفتح هذا الاستحضار أحيانًا على الواقع الفلسطيني عندنا، ناقدة له وساخرة منه. الواقع الخارجي معكوس على واقعها الداخلي، فهي تراه حسب نفسيّتها القلقة المتلوّنة ووفقًا لآنيّة اللحظة والعلاقة.
والنص بسبب ما ذكر- أعني علاقة المرأة بالرجل روحيًّا وجسديًّا- مفعم بلغة الروح والجسد، يقوم على مفاتيح نصيّة تمثلها جمل استعاريّة رائعة وصور جميلة موحية تفتح النص على الرّحابة وتشي بأبعاد كثيرة.
هذا النص المربك الذي يكتنز في ثناياه الكثير، ويتطرّق إلى أدق التفاصيل، يتطلب حرفية كبيرة، وإتقانًا لآليات القص ولخيوط لعبته، كما يتطلّب حرصًا شديدًا في تصوير اللحظات المأزومة داخل النص، وتسييج ما يجري خوفًا من التسيّب والفلتان والبعثرة. من هنا تصبح عملية نقل العدوى إلى المتلقي عملية صعبة، كما تصبح عملية الموازنة بين الواقع والمتخيل عمليّة معقدّة. وهنا تجدر الإشارة إلى الجرأة التي تتحلى بها الكاتبة، وإلى حرفيّتها الراقية في تناول مثل هذه المواضيع، وإلى الثقة بالنفس التي تتجلى في التعامل السردي مع هذه الأمور. ومثلما يتطلب نصّ كهذا حرفيّة كبيرة من مبدعة، يتطلب أيضًا قارئًا متمرّسًا يعرف كيف وأين يضع أصابعه على المفاتيح الأساسية للنص، بغية فهم أبعاده ومراميه وطروحاته، ذلك لأنّ القارئ العادي معتاد على نصّ صراعاته خارجية وبنيته السردية واضحة ومعماره الحكائي مدماكي.
أقول إنّ النص يتطلب حرفيّة من مبدعه وتمرّسًا من قارئه، لأنّه نص لا يقوم على ما اعتدنا عليه وألفناه في الكثير من رواياتنا، وإنّما هو نص يقوم على البوح والدفق وانسياب الذكريات والتداعيات والمونولوجات الداخلية، والاستحضار الذاكري، والاسترجاعات والاستبارات النفسية والغوص في قاع النفس البشرية الأنثوية، وتحطيم التابوات الكثيرة التي تسيّج عالم المرأة، وتصوير الانفعالات الداخلية والشهوات الحسّية والشبق الجنسي والنزول إلى أصقاع عالم المرأة، وبالذات المرأة العربية، والنبش في جوّانية هذا العالم بتفاصيله الكثيرة والدقيقة، العالم الذي طالما تستّرنا عليه وتكتّمنا عنه لشدّة حساسيّته وحرجيّته، فهو عالم محاط بالكثير من السرية والأسيجة الاجتماعية. إنّ النبش في عالم المرأة الموصوف آنفًا على الرغم من اعتباره جرأة إلا أنّه يتطلّب الحذر كي لا يتغلب البرّاني الجسدي على الجوّاني النفسي. إنّ الموازنة بين الأمرين ليست سهلة وتتطلب مغامرة لأنّنا أمام عالم ملغز وملامسته أشبه بملامسة برميل ساخن من المتفجرات.
في نص رجاء بكرية نتعرف على المرأة، لا من الخارج فقط، ونحايئ عالمها ليس من السطح، بل نتغوّرها إلى أدق التفاصيل، إلى عطرها وأصباغها وملابسها حتى الداخلية منها، إلى جوعها النفسي والجسدي وشهواتها، وخفقان رحمها ولهاثها الشبقي، إلى جانب قلقها وانفعالاتها وردود فعلها وتفكيرها. يقف المتلقي مشدوهًا أمام جرأة المبدعة، أمام عالم لم يختبره، ولم يقرأ عنه بمثل هذه الصراحة.
إنّ موضوع المرأة والملابسات والمشاعر كالموصوف آنفًا، لا يمكن أن يستوعبه الوعاء السردي المعروف، لذلك يحتاج إلى سرد استباري استبطاني، الأمر الذي يجعل القارئ غير المتمرّس يشعر بالملل وبتبعثر الخط السردي الحكائي.
يتحدّث النص عن "نشوة"، تلك المرأة المفعمة بالأنوثة والتي أهملت من قبل زوجها الأول، ثمّ، بعد هجره لها تفتّحت شهوتها على الدنيا مع غسان الفنان والسجين السياسي، وانطلقت تلهث وراء جوعها الجنسي مع كاظم خيبر في لندن. لكن هذه القصة الغنية بالأحاسيس الأنثوية والشهوات والحريّة الكاملة، هي قصة نبش في محارة داخلية، لا تخرج إلى السطح. وكأنّ الواقع المحيط بالراوية/ البطلة مغيّب لا أثر له يذكر في بلورة شخصية البطلة، أو في تحريك أحاسيسها وانفعالاتها وترشيد ردود فعلها وتصرّفاتها، أو في رسم اندفاعاتها وشهواتها. الواقع الخارجي مغيّب وكأنّ البطلة تعيش داخل محارة مغلقة متقطّعة عمّا يجري، وهذا الأمر، أعني الانغلاق داخل المحارة ودهاليز العالم الجوّاني للشخصيّة، وعمليّة الاستبطان الدائمة تجعل الرواية/ النص، ذات إيقاع بطيء رتيب في معظمها، عدا الجزء الأخير. فنحن أمام أحداث مستحضرة من الذاكرة كما أسلفت، تقوم فقط على جانب واحد، على علاقة الروح والجسد مع غسّان. إنّ شريط القص قصير، رغم كبر حجم النص، وهذا الشريط يفتقر إلى بنية دراميّة متوتّرة مأزومة، ذلك لكونه منذ البداية يطرح مأزومه ويناور عليه أي على نفس المحور، وعلى ما يبدو، فقد شعرت رجاء بهذا الأمر، اعني برتابة البنية وبطء الإيقاع، لذلك تجدها تستعين على سدّ الثغرات الدرامية والحكائية والتحايل على ذلك، بتوظيف اللغة كمعادل، والاستنجاد بالوعاء الاستعاري المكثّف الجميل وبالصور الموحية المتلاحقة وبالتلاعب اللفظي. ولكنّ هذه الأمور، على أهميّتها وجماليّتها، بدلا من أن تؤدي وظيفتها بالشكل الصحيح، بسبب الإفراط في استخدامها، أدّت إلى عكس المرجو منها، أدّت أحيانًا إلى بعثرة البنية السردية وإلى تشظّيها، بحيث صار من الصعب على المتلقي لملمتها ووضعها في مسارها الصحيح، هذا من جهة، ولأن الوعاء الاستعاري والصّوري جميل يأخذ المتلقّي إلى مباهج اللغة ويشدّه إلى مفاتنها فيروح يلهث وراء تلك الصور التي تنقله إلى مناطق الشدهة، بحيث ينسيه هذا اللهاث البنية السردية ويضر بانسيابيّة البنية الحدثيّة، من جهة أخرى، ورجاء بكرية هي واحدة من القلائل الذين/ اللواتي يتقنون/ يتقنّ عملية النقل اللغوي بهذه الأوعية الاستعارية الصورانية الرائعة.
إنّ كلّ ما ذكرته سابقًا ينعكس على مركّبات النص بدءًا من الزمكانية، ومرورًا بالشخصيات وانتهاء بالدرامية، فالزمان يتمطّى على مدار خمس سنوات هي المدّة بين معرفتها بغسان، وسجنه وتحرّره، ولكنه زمان راكد متأسّن لأنّه مستحضر، لا نجد له أثرًا على الشخصيّة، فهي منذ بداية علاقتها بغسان وحتى سجنه ومدّة سجنه مشغولة بغسان، باستذكار أيّامها معه، بانفعالاتها وبلهفتها وبشهوتها وبجوعها المتولّد من فقدانه. هو ينام في غرفتها معها، وعلى سريرها كل ليلة، وهو مستحضر دائمًا في خيالها بحركاته، بحديثه، بتعليقاته، بوجهات نظره، مستحضر أيضًا مما كتبه ومما كتبته هي.
ولأنّ الامر كذلك، نجد أنّ المكان أيضًا مكان جامد لا أثر له على الشخصيّة ولا على البنية الحدثيّة، فهو رغم تنوعّه (عكا/ حيفا/ رام الله/ عمّان/ لندن/ يافا)، لا علاقة له مع الخارج، وهو مكان مغلق يناسب نفسيّة الشخصيّة/ البطلة، وهو مكان يلمّ مفاصل الشخصية حيث توقد فيه ذكرياتها وتشعل انفعالاتها وشهواتها وتشتعل معها. والمكان بارد، مثلج، ضبابيّ، ماطر، وللبحر المتقلّب فيه نصيب كبير كتقلّبات نفسية البطلة، المعذّبة القلقة. وحتى لندن المدينة الملجأ على ما فيها، تنحصر في شقّة كاظم، وفي غرفتها الأجاصيّة، حيث تعيش مع ذكرياتها واستحضارها لغسان.
والشخصيّات في النص لأنّها مستحضرة هي الأخرى، نجدها بلا معالم جوّانية، فوائل مثلا، لا نعرف عن هجره لها شيئًا، كل ما نعرفه أنّه هجرها للعمل في الخليج وهناك استقر وتزوّج وتركها، ما الأسباب؟ كيف كانت العلاقة؟ ما الذي فجّرها ودعاه إلى الهجرة- هجرة زوجته؟ فهذا مغيّب عن المتلقي. ثم العلاقة مع غسان هي علاقة مبطّنة. هذا الحب الجارف روحيًّا وجسديًّا، وهذه اللهفة الدائمة، وهذا اللهاث، وهذا الجوع، ما الدوافع التي أدت إلى كل ذلك بمثل هذه الحرارة والسخونة؟ هل لمجرّد رؤيته على فتنته الجسدية والكلامية والعمليّة يكفي لأن يكون دافعًا؟ هل جوعها للرجل هو دافعها إليه بمثل هذه الحرارة؟ هل الخواء النفسي هو الدافع؟ الدافع ليس واضحًا تمامًا. وكذلك كاظم خيبر هذا الملجأ في لندن. كيف تمّت العلاقة؟ لماذا أسلمت له جسدها؟ مع أن غسان يملأ قلبها وتقاطيع جسدها قطعة قطعة. هو أيضًا موصوف من الخارج، لا نعرف دواخله ونجهل تعلّقه بها سوى أنّها ذكّرته ببغداد (ص 173). كل ما نعرفه أنّها انجذبت إليه وما أحبّته (ص 171).
رغم تقزّزها من فمه ومن أسنانه الدامية. هو الذي دعاها إلى الأنوثة، "لفنّ لم يسجّله رفائيل ولا رفاقه... معه استلبت وتآكلت من شدّة النشوة" (ص 169). ولكن رغم هذا التصريح وما فيه من مخاتلة ومراوغة ومداورة، يرتفع السؤال، كيف يمكن لامرأة عاشقة أن تسلّم جسدها لشخص غريب لا تعرف عنه سوى أشياء بسيطة؟ ثم طالما أنّه نقلها إلى قمّة النشوة، لماذا إذًا يحتلّها غسان وبمثل هذه البساطة وهي على فراشه، فتهجره إلى غرفة أخرى، وتتركه يتحرّق شبقًا؟
وقد أثّرت أيضًا مباهج اللغة على الصراع والبنية الدرامية، فحيث يغيب الواقع يصبح الصراع جوّانيًّا، فالكاتبة تملك قدرة هائلة على الغوص في أغوار النفس البشرية الأنثوية، ولكنّ هذا الغوص دار على محور واحد رتيب وناور عليه وراوح مكانه، لذا شعر المتلقي بالتكرار لانعدام التلوّنات الأمر الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى الملل. وهذا التكرار أفقد الصراع دراميّته وتوتّره في أكثر من مرّة.
وما ذكرته هو آفة هذا اللون من السرد. أعني أنّ المبدعة مهما بلغت قدرتها على القص، لا بد من أن تعلق بما ذكرناه لأنّ ما ذكرناه نابع لا عن عدم معرفة بقدر ما هو نابع من طبيعة هذا اللون الحكائي، أعني الاستبطان.
وإذا نحن التفتنا إلى المبنى الثيّمي في النص كي نؤكّد على ما قلناه، نجده محصورًا ومحاصرًا بفكرة واحدة هي العلاقة مع غسّان: دفقها، تراجعها، انقطاعها، العودة إليها، على الصعيد الخارجي، ولكنها المستمرة والمحتلّة للبطلة على الصعيد الداخلي. ولكن هذا المبنى رغم انحصاره بهذه العلاقة، إلا أنّه يتفتّق هنا وهناك ليطال أفكارًا أخرى كالزواج من الأجنبيات والتمييز والخيانة والغيرة الأنثوية والقضايا الأمنية والإرهاب، ولكن كل هذه التقطيعات للمبنى الثيّمي الأساس تكون مبتسرة، ذلك لأنها لا تنطلق من احتكاك محسوس مع الواقع، بل من احتكاك مثار من الذاكرة. ولأنّ النص مبنيّ على تقنية الاستبار بعيد عن الاحتكاك بالواقع تصبح خير وسيلة لبدايته رسالة تشرع أما م المتلقّي الانفعالات والهواجس والدّواخل، والرسالة كتقنية في هذا النوع من البوح معروفة كموتيف في الأدب العالمي، فهي تعطي مساحة كبيرة لكاتبها كي يبوح بما يعتمل في داخله دون حرج المواجهة المباشرة. ولكن حتى الرسالة، المفتتح، أو "البرولوجوس" لا تأتي بالشكل الاعتيادي المألوف إنما تأتي لتشي بما سيكون من حب وشهوة جارفين "إنّها تكتب رسالة بروح امرأة تمتهن التخلّف بفنيّة عالية". وهي "تريد حبًّا فطريًّا بلا نظريّات". هذه الرسالة تأتي لتغطي المساحة بين رؤيتها لغسان والانقطاع عنها. تفتح الرسالة النص وتفجّره، فيلتقي القارئ من خلال الاستحضار بغسان وبانفعالاته وبردود فعله، وكي تتحايل الكاتبة على المتلقي وتجعله يعتقد بأنّه يواجه غسان حقيقة، لا من خلال ذاكرة البطلة، تقطع هذا الاستحضار بجمل هي أشبه بما يسبق المشاهد المسرحية من تعريفات. "التهم ما تبقّى من بدن السيجارة المحترقة ومسح حبيبات العرق" (ص 18)، "حكّ ذقنه وقطب ما بين عينيه" (ص 18)، إلخ.. من هذه التعليقات المتحايلة المعروفة قصصيًّا.
تنتهي الرسالة بجملة "أقبّل روحك" وهي تأكيد على روحانيّة حضور غسان أكثر من حضوره جسديًّا. بعد الرسالة ومعاناة إرسالها، تصوّر الراوية/ البطلة علاقتها بغسان ومعرفتها به وحبّها الجارف له. "متى تفهم ثورة امرأة لم تحب الحب قبلك" و"كيف يصبح الحب حالة مرضيّة على هذا النوع" (ص 34). وهكذا تندلق ذاكرة الراوية/ البطلة، فنتعرف على غسان من خلال مهاتفته لها، وعلى افكاره وفلسفته وانتقاداته السياسية المغلّفة والمبطّنة، ونعرف أنّه متزوّج من أجنبية، هذا الزواج الذي يثير الغيرة في داخلها، مع أنّها هي الأخرى كانت متزوّجة. "كيف يلتصق رجل وامرأة عمرًا استوائيًّا حارًّا دون أن يفلج أحدهما الآخر" (ص 46). وتصوّر جوعها للرجل "ما أشد كيد النساء حيث يعشقن وما أجنّ رغبتهن في الامتلاك" (ص 55)، ثم تصوّر من الذاكرة أيضًا لقاءها الأول في عكّا وبداية الحب. بعد اللقاء تسافر إلى عمّان دون ذكر السبب، وهناك تقضي ثمانية أيّام، وغسان لا يبرح ذاكرتها ولا غرفة نومها فهو مستحضر دائمًا تتوهّمه كل ليلة في سريرها. تعود لتجد أنّ غسان متهم بتهمة الإرهاب فيسجن خمس سنوات، وتبدأ هنا المطارحات الفكرية والانتقادات الساخرة لجهاز الأمن، كما يبدأ التحسّر والتفجّع "لم يأخذ الرجال خلال عمر طويل ما سببته أنت بلحظة" (ص 85). ويظل غسان مستحضرًا يسكنها في غرفتها وهو في السجن "لو يأخذوا عيوني كي يروك بها، لسجنوا الملفات مكانك، وأحدثوا انقلابًا لمفاهيم القانون عن الإرهاب" (ص 94)، فهي تحبّه "بألف فم، أحببتك بمليون قلب" (ص 98). زوجة غسان مع ولديه يغادرون البلاد إلى الوطن الأم يأسًا فتنحل عقدة الغيرة الأولى، تلك الغيرة التي عذبتها كثيرًا "ماذا يمكن لامرأة عاشقة أن تؤلف في حق امرأة معشوقة غير القبح والقحب" (ص 115).
هي عاشقة لسجين أمني وهذا ليس أمرًا سهلا. ولكن رغم ذلك، يعيش غسان معها في غرقتها دائمًا.وتبقى رهينة محبسيها: غرفتها وغسان، إلى أن تصلها منه رسالة فتفور وتبتهج جسدًا وشهوة، فالأمر يعني أنّه لم ينسها. "قرأك الرجال والنساء على قطع جسدي" (ص 109)، فتهدأ ثورتها وتعيش أمل خروجه من السجن.
بعد خروجه من السجن تقع في غيرة ثانية أشدّ وأقسى غيرة من المومسات اللواتي راح غسان يعاشرهن. ولا يعرف المتلقي ما الدافع إلى مثل هذه المعاشرة، ولا يجد مبرّرًا كافيًا لها سوى أنّها سهلة، ولا مواجهة بينها وبينه حول الموضوع. هنا تشعر بالإهانة "لم يجرّب الرجال أحاسيس امرأة مهانة لمّت أكتاف رجل من زنزانته، وبعد أن اتّسعت علّق عليها خصل سواها، وذهب" (ص 146). وعلى ما يبدو فإنّ صناعة الحب تحتاج إلى قليل من المومسة. "أنا لا أنكر تمامًا كيف يفكّر رجل بامرأة بعد أن تصبح مقلاته أو جرّته" (ص 143)، وهذا هو سر ابتعادها عنخ جسديًّا رغم حبّها الجارف. كرامتها جرحت. الخيانة تكسرها فتلجأ إلى لندن إلى كاظم خيبر الذي يأخذها إلى دفء جسده وشقّته، وهناك رغم علاقتها الجسدية تستحضر غسان "أصبحت مثل طفل أضاع ألعابه وجلس ينتظر عامًا يأتي كي يجلب معه عيدًا ولعبته" (ص 167). استحضارها لغسان يجعلها تنفر من كاظم. تشدّها الذكريات إلى غسان فتعود وهذه المرة إلى يافا، وتعيش على ذكرياتها مع غسان، ومن مناجاتها لنفسها في يافا نعرف أنّ رحمها في حالة إخصاب ملحّ، والأيام الخمسة الأولى من الشهر تحدث لجسدها هزّة عشق. بعدها يكون لقاء مع غسان مفاجئ وعلى غير توقّع، فتنقلنا إلى غسان إلى محاسبته لنفسه "لا يعيد للرجل صوابه غير الخيانة" (ص 253). غسان يحتلها في يافا، "تشهّت أن يدخّنها من بطنها السريّة حتى بركة عنقها المعلنة" (ص 273). تصمّم على رؤيته فتذهب إلى المسرح وتشاهد مسرحية له بعنوان "امرأة الرسالة"، وإذا المسرحية عنهما، أخذ غسان تفاصيلها من قصاصات الورق التي كتبت عليها هواجسها وخبأتها في الوسادة، حين شعر بالخواء. أشعرتها المسرحية بالمهانة وبفقدان كرامتها "لم تعد أنثى رجل، بل متسوّلة على فراش رجل" (ص 281)، وتعيش صراعًا داخليًّا بين غسان وكاظم، وهنا يأخذ إيقاع النص بالتسارع. ولأنها شعرت بالإهانة، تقرّر العودة إلى لندن، ولكن ليس قبل أن تزور غسان في بيته في عكا، لتمارس معه الجنس وليزرع فيها دون أن يدري جنينًا، تكتشف وجوده في لندن. وينتهي النص بهذه المكيدة الماكرة، تنتهي بحملها من غسان ليتأبد غسان في جسدها.
هذا المبنى الثيمي الذي نسجت عليه رجاء بكرية نصها، هو مبنى يناور على فكرة واحدة، لكنه مبنى مستحضر من الذاكرة وأحداثه تدور فيها، لذلك البنية السردية هي بنية محاصرة ومضغوطة، كلّها دفق وبوح واسترجاعات، تلعب اللغة في هذه البنية دورًا رئيسيًّا لسد الفجوات ولملء النواقص وللتعويض عن بطء الإيقاع الحدثي والدرامي. وحتى المشاهد الجنسية الصريحة، وهي ليست قليلة في النص، تلعب هذا الدور، ولكنّها لا تأتي ناتئة على شكل تصوير آلي ميكانيكي، إنّما هي موظّفة لخدمة البنية الحدثية/ السردية.
هذه هي امرأة الرسالة كنص قصصي. النص يشدّنا شدًّا ويفاجئنا بصراحة العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو على ما فيه من مداورات لغوية تضر أحيانًا بالدرامية وبانسيابيّة ما يجري، بحيث تجعل المتلقي غير المتمرّس يفقد ربط ما يجري، فتفقد البنية السردية حرارتها وتتبعثر ويصير من الصعب لملمتها، وكذلك على ما فيه من قطيعة مع الواقع الخارجي، هذا الواقع الذي من المفروض أن يقيم التوازن بين ما يجري في داخل النفس وما هو خارجها، أنّ الواقع هو المرجع، ومن المفروض أن يحيل النص بما فيه من غنى عليه، فصيرورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صيرورة البنى والأشكال الاجتماعية. وعلى الكاتب إذا أراد أن يثري نصّه أن ينبش في سرّية مجتمعه وواقعه وتاريخه وأن يكشف المضمر والمغيّب فيه، لا أن يقتصر على النبش في سريّة ذاته.
جمال النص عند رجاء بكرية يقوم على المكاشفة والمصارحة وتحطيم الكثير من التابوات، وإزالة كل المكيجة والأصباغ والغشاوة التي تسيّج بها عالم المرأة. جمال النص هو هذا الحفر الممتع والمتقن في عوالم المرأة الداخلية وتغوّر أحاسيسها وهواجسها وشهواتها المشروعة والكشف عما يدور في هذه العوالم من صراعات وتخبّطات. وإن أصاب النص بعض الجمود والترهّل في بنيته السردية، فهذا نابع من كونه يسرد من الجوّاني، من الذاكرة، من القاع. وهذا الجمود والترهل هو آفة هذا اللون.
النص يحرّر المرأة من نظرة الرجل الشرقي، ويردّ عليها كرامتها، ويجعلها كائنًا حيًّا له عالمه وله حريّته وله فضاءاته الواسعة يسبح ويحلّق فيها حسبما تملي عليه أفكاره وأحاسيسه وعواطفه، كما يحرّرها من رهابية القطيع التي تعيشه في مجتمعنا البطرياركي الذكوري. المرأة المثقفة بكلّ أبعادها تبوح وتدفق وبحريّة كاملة بلا محبطات ومعوّقات ولكن دون التنازل عن أنوثتها المرهفة.
إنّه عالم نجهله، هو هذا العالم الذي تهدم جدرانه رجاء وتسلّط عليه حدقتها الكاشفة وتنتشله من القاع إلى السطح، لنرى إلى ما في داخله من إشكاليات.
وأخلص إلى القول: إنّ ما جاء من ملاحظات على النص لا ينبع من عدم قدرة الكاتبة، أو من عدم اتقانها لخيوط اللعبة القصصية، وإنّما ينبع من كونها لجأت مضطرّة بسبب المضمون إلى الشكل الاستباري الاستبطاني الاستعاري. والمضمون كالذي ذكرناه يحتّم مثل هذا الشكل، وشكل كالآنف ذكره يحتّم على النص قلّة الحركة وخمول البنية السردية والزمكانية، وبطء الإيقاع، وضمور التوتّر، وهذه هي ضريبة هذا الشكل، ويغلّب الأحاسيس الفوّارة والعواطف اللاهبة والشهوة الحارقة وتصوير أصقاع النفس البشرية في صراعاتها الداخلية، وهو ما نرجوه من قصصنا دائمًا، أعني الابتعاد عن البراني واللجوء إلى الجوّاني، رغم ما فيه من ضريبة شكلية.
هنيئًا لرجاء بكرية هذه القدرة على القص، وهذه الطاقة الكبيرة في التصوير الإيحائي، والنبش في الجوّانيّات، وهنيئًا لها كذلك، هذه القدرة على امتلاك زمام اللغة في صريحها ومجازها وفي بنيتيها العاديّة والاستعارية.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
في نص رجاء بكرية نتعرف على المرأة، لا من الخارج فقط، ونحايئ عالمها ليس من السطح، بل نتغوّرها إلى أدق التفاصيل، إلى عطرها وأصباغها وملابسها حتى الداخلية منها، إلى جوعها النفسي والجسدي وشهواتها، وخفقان رحمها ولهاثها الشبقي، إلى جانب قلقها وانفعالاتها وردود فعلها وتفكيرها. يقف المتلقي مشدوهًا أمام جرأة المبدعة، أمام عالم لم يختبره، ولم يقرأ عنه بمثل هذه الصراحة.
إنّ موضوع المرأة والملابسات والمشاعر كالموصوف آنفًا، لا يمكن أن يستوعبه الوعاء السردي المعروف، لذلك يحتاج إلى سرد استباري استبطاني، الأمر الذي يجعل القارئ غير المتمرّس يشعر بالملل وبتبعثر الخط السردي الحكائي.
يتحدّث النص عن "نشوة"، تلك المرأة المفعمة بالأنوثة والتي أهملت من قبل زوجها الأول، ثمّ، بعد هجره لها تفتّحت شهوتها على الدنيا مع غسان الفنان والسجين السياسي، وانطلقت تلهث وراء جوعها الجنسي مع كاظم خيبر في لندن. لكن هذه القصة الغنية بالأحاسيس الأنثوية والشهوات والحريّة الكاملة، هي قصة نبش في محارة داخلية، لا تخرج إلى السطح. وكأنّ الواقع المحيط بالراوية/ البطلة مغيّب لا أثر له يذكر في بلورة شخصية البطلة، أو في تحريك أحاسيسها وانفعالاتها وترشيد ردود فعلها وتصرّفاتها، أو في رسم اندفاعاتها وشهواتها. الواقع الخارجي مغيّب وكأنّ البطلة تعيش داخل محارة مغلقة متقطّعة عمّا يجري، وهذا الأمر، أعني الانغلاق داخل المحارة ودهاليز العالم الجوّاني للشخصيّة، وعمليّة الاستبطان الدائمة تجعل الرواية/ النص، ذات إيقاع بطيء رتيب في معظمها، عدا الجزء الأخير. فنحن أمام أحداث مستحضرة من الذاكرة كما أسلفت، تقوم فقط على جانب واحد، على علاقة الروح والجسد مع غسّان. إنّ شريط القص قصير، رغم كبر حجم النص، وهذا الشريط يفتقر إلى بنية دراميّة متوتّرة مأزومة، ذلك لكونه منذ البداية يطرح مأزومه ويناور عليه أي على نفس المحور، وعلى ما يبدو، فقد شعرت رجاء بهذا الأمر، اعني برتابة البنية وبطء الإيقاع، لذلك تجدها تستعين على سدّ الثغرات الدرامية والحكائية والتحايل على ذلك، بتوظيف اللغة كمعادل، والاستنجاد بالوعاء الاستعاري المكثّف الجميل وبالصور الموحية المتلاحقة وبالتلاعب اللفظي. ولكنّ هذه الأمور، على أهميّتها وجماليّتها، بدلا من أن تؤدي وظيفتها بالشكل الصحيح، بسبب الإفراط في استخدامها، أدّت إلى عكس المرجو منها، أدّت أحيانًا إلى بعثرة البنية السردية وإلى تشظّيها، بحيث صار من الصعب على المتلقي لملمتها ووضعها في مسارها الصحيح، هذا من جهة، ولأن الوعاء الاستعاري والصّوري جميل يأخذ المتلقّي إلى مباهج اللغة ويشدّه إلى مفاتنها فيروح يلهث وراء تلك الصور التي تنقله إلى مناطق الشدهة، بحيث ينسيه هذا اللهاث البنية السردية ويضر بانسيابيّة البنية الحدثيّة، من جهة أخرى، ورجاء بكرية هي واحدة من القلائل الذين/ اللواتي يتقنون/ يتقنّ عملية النقل اللغوي بهذه الأوعية الاستعارية الصورانية الرائعة.
إنّ كلّ ما ذكرته سابقًا ينعكس على مركّبات النص بدءًا من الزمكانية، ومرورًا بالشخصيات وانتهاء بالدرامية، فالزمان يتمطّى على مدار خمس سنوات هي المدّة بين معرفتها بغسان، وسجنه وتحرّره، ولكنه زمان راكد متأسّن لأنّه مستحضر، لا نجد له أثرًا على الشخصيّة، فهي منذ بداية علاقتها بغسان وحتى سجنه ومدّة سجنه مشغولة بغسان، باستذكار أيّامها معه، بانفعالاتها وبلهفتها وبشهوتها وبجوعها المتولّد من فقدانه. هو ينام في غرفتها معها، وعلى سريرها كل ليلة، وهو مستحضر دائمًا في خيالها بحركاته، بحديثه، بتعليقاته، بوجهات نظره، مستحضر أيضًا مما كتبه ومما كتبته هي.
ولأنّ الامر كذلك، نجد أنّ المكان أيضًا مكان جامد لا أثر له على الشخصيّة ولا على البنية الحدثيّة، فهو رغم تنوعّه (عكا/ حيفا/ رام الله/ عمّان/ لندن/ يافا)، لا علاقة له مع الخارج، وهو مكان مغلق يناسب نفسيّة الشخصيّة/ البطلة، وهو مكان يلمّ مفاصل الشخصية حيث توقد فيه ذكرياتها وتشعل انفعالاتها وشهواتها وتشتعل معها. والمكان بارد، مثلج، ضبابيّ، ماطر، وللبحر المتقلّب فيه نصيب كبير كتقلّبات نفسية البطلة، المعذّبة القلقة. وحتى لندن المدينة الملجأ على ما فيها، تنحصر في شقّة كاظم، وفي غرفتها الأجاصيّة، حيث تعيش مع ذكرياتها واستحضارها لغسان.
والشخصيّات في النص لأنّها مستحضرة هي الأخرى، نجدها بلا معالم جوّانية، فوائل مثلا، لا نعرف عن هجره لها شيئًا، كل ما نعرفه أنّه هجرها للعمل في الخليج وهناك استقر وتزوّج وتركها، ما الأسباب؟ كيف كانت العلاقة؟ ما الذي فجّرها ودعاه إلى الهجرة- هجرة زوجته؟ فهذا مغيّب عن المتلقي. ثم العلاقة مع غسان هي علاقة مبطّنة. هذا الحب الجارف روحيًّا وجسديًّا، وهذه اللهفة الدائمة، وهذا اللهاث، وهذا الجوع، ما الدوافع التي أدت إلى كل ذلك بمثل هذه الحرارة والسخونة؟ هل لمجرّد رؤيته على فتنته الجسدية والكلامية والعمليّة يكفي لأن يكون دافعًا؟ هل جوعها للرجل هو دافعها إليه بمثل هذه الحرارة؟ هل الخواء النفسي هو الدافع؟ الدافع ليس واضحًا تمامًا. وكذلك كاظم خيبر هذا الملجأ في لندن. كيف تمّت العلاقة؟ لماذا أسلمت له جسدها؟ مع أن غسان يملأ قلبها وتقاطيع جسدها قطعة قطعة. هو أيضًا موصوف من الخارج، لا نعرف دواخله ونجهل تعلّقه بها سوى أنّها ذكّرته ببغداد (ص 173). كل ما نعرفه أنّها انجذبت إليه وما أحبّته (ص 171).
رغم تقزّزها من فمه ومن أسنانه الدامية. هو الذي دعاها إلى الأنوثة، "لفنّ لم يسجّله رفائيل ولا رفاقه... معه استلبت وتآكلت من شدّة النشوة" (ص 169). ولكن رغم هذا التصريح وما فيه من مخاتلة ومراوغة ومداورة، يرتفع السؤال، كيف يمكن لامرأة عاشقة أن تسلّم جسدها لشخص غريب لا تعرف عنه سوى أشياء بسيطة؟ ثم طالما أنّه نقلها إلى قمّة النشوة، لماذا إذًا يحتلّها غسان وبمثل هذه البساطة وهي على فراشه، فتهجره إلى غرفة أخرى، وتتركه يتحرّق شبقًا؟
وقد أثّرت أيضًا مباهج اللغة على الصراع والبنية الدرامية، فحيث يغيب الواقع يصبح الصراع جوّانيًّا، فالكاتبة تملك قدرة هائلة على الغوص في أغوار النفس البشرية الأنثوية، ولكنّ هذا الغوص دار على محور واحد رتيب وناور عليه وراوح مكانه، لذا شعر المتلقي بالتكرار لانعدام التلوّنات الأمر الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى الملل. وهذا التكرار أفقد الصراع دراميّته وتوتّره في أكثر من مرّة.
وما ذكرته هو آفة هذا اللون من السرد. أعني أنّ المبدعة مهما بلغت قدرتها على القص، لا بد من أن تعلق بما ذكرناه لأنّ ما ذكرناه نابع لا عن عدم معرفة بقدر ما هو نابع من طبيعة هذا اللون الحكائي، أعني الاستبطان.
وإذا نحن التفتنا إلى المبنى الثيّمي في النص كي نؤكّد على ما قلناه، نجده محصورًا ومحاصرًا بفكرة واحدة هي العلاقة مع غسّان: دفقها، تراجعها، انقطاعها، العودة إليها، على الصعيد الخارجي، ولكنها المستمرة والمحتلّة للبطلة على الصعيد الداخلي. ولكن هذا المبنى رغم انحصاره بهذه العلاقة، إلا أنّه يتفتّق هنا وهناك ليطال أفكارًا أخرى كالزواج من الأجنبيات والتمييز والخيانة والغيرة الأنثوية والقضايا الأمنية والإرهاب، ولكن كل هذه التقطيعات للمبنى الثيّمي الأساس تكون مبتسرة، ذلك لأنها لا تنطلق من احتكاك محسوس مع الواقع، بل من احتكاك مثار من الذاكرة. ولأنّ النص مبنيّ على تقنية الاستبار بعيد عن الاحتكاك بالواقع تصبح خير وسيلة لبدايته رسالة تشرع أما م المتلقّي الانفعالات والهواجس والدّواخل، والرسالة كتقنية في هذا النوع من البوح معروفة كموتيف في الأدب العالمي، فهي تعطي مساحة كبيرة لكاتبها كي يبوح بما يعتمل في داخله دون حرج المواجهة المباشرة. ولكن حتى الرسالة، المفتتح، أو "البرولوجوس" لا تأتي بالشكل الاعتيادي المألوف إنما تأتي لتشي بما سيكون من حب وشهوة جارفين "إنّها تكتب رسالة بروح امرأة تمتهن التخلّف بفنيّة عالية". وهي "تريد حبًّا فطريًّا بلا نظريّات". هذه الرسالة تأتي لتغطي المساحة بين رؤيتها لغسان والانقطاع عنها. تفتح الرسالة النص وتفجّره، فيلتقي القارئ من خلال الاستحضار بغسان وبانفعالاته وبردود فعله، وكي تتحايل الكاتبة على المتلقي وتجعله يعتقد بأنّه يواجه غسان حقيقة، لا من خلال ذاكرة البطلة، تقطع هذا الاستحضار بجمل هي أشبه بما يسبق المشاهد المسرحية من تعريفات. "التهم ما تبقّى من بدن السيجارة المحترقة ومسح حبيبات العرق" (ص 18)، "حكّ ذقنه وقطب ما بين عينيه" (ص 18)، إلخ.. من هذه التعليقات المتحايلة المعروفة قصصيًّا.
تنتهي الرسالة بجملة "أقبّل روحك" وهي تأكيد على روحانيّة حضور غسان أكثر من حضوره جسديًّا. بعد الرسالة ومعاناة إرسالها، تصوّر الراوية/ البطلة علاقتها بغسان ومعرفتها به وحبّها الجارف له. "متى تفهم ثورة امرأة لم تحب الحب قبلك" و"كيف يصبح الحب حالة مرضيّة على هذا النوع" (ص 34). وهكذا تندلق ذاكرة الراوية/ البطلة، فنتعرف على غسان من خلال مهاتفته لها، وعلى افكاره وفلسفته وانتقاداته السياسية المغلّفة والمبطّنة، ونعرف أنّه متزوّج من أجنبية، هذا الزواج الذي يثير الغيرة في داخلها، مع أنّها هي الأخرى كانت متزوّجة. "كيف يلتصق رجل وامرأة عمرًا استوائيًّا حارًّا دون أن يفلج أحدهما الآخر" (ص 46). وتصوّر جوعها للرجل "ما أشد كيد النساء حيث يعشقن وما أجنّ رغبتهن في الامتلاك" (ص 55)، ثم تصوّر من الذاكرة أيضًا لقاءها الأول في عكّا وبداية الحب. بعد اللقاء تسافر إلى عمّان دون ذكر السبب، وهناك تقضي ثمانية أيّام، وغسان لا يبرح ذاكرتها ولا غرفة نومها فهو مستحضر دائمًا تتوهّمه كل ليلة في سريرها. تعود لتجد أنّ غسان متهم بتهمة الإرهاب فيسجن خمس سنوات، وتبدأ هنا المطارحات الفكرية والانتقادات الساخرة لجهاز الأمن، كما يبدأ التحسّر والتفجّع "لم يأخذ الرجال خلال عمر طويل ما سببته أنت بلحظة" (ص 85). ويظل غسان مستحضرًا يسكنها في غرفتها وهو في السجن "لو يأخذوا عيوني كي يروك بها، لسجنوا الملفات مكانك، وأحدثوا انقلابًا لمفاهيم القانون عن الإرهاب" (ص 94)، فهي تحبّه "بألف فم، أحببتك بمليون قلب" (ص 98). زوجة غسان مع ولديه يغادرون البلاد إلى الوطن الأم يأسًا فتنحل عقدة الغيرة الأولى، تلك الغيرة التي عذبتها كثيرًا "ماذا يمكن لامرأة عاشقة أن تؤلف في حق امرأة معشوقة غير القبح والقحب" (ص 115).
هي عاشقة لسجين أمني وهذا ليس أمرًا سهلا. ولكن رغم ذلك، يعيش غسان معها في غرقتها دائمًا.وتبقى رهينة محبسيها: غرفتها وغسان، إلى أن تصلها منه رسالة فتفور وتبتهج جسدًا وشهوة، فالأمر يعني أنّه لم ينسها. "قرأك الرجال والنساء على قطع جسدي" (ص 109)، فتهدأ ثورتها وتعيش أمل خروجه من السجن.
بعد خروجه من السجن تقع في غيرة ثانية أشدّ وأقسى غيرة من المومسات اللواتي راح غسان يعاشرهن. ولا يعرف المتلقي ما الدافع إلى مثل هذه المعاشرة، ولا يجد مبرّرًا كافيًا لها سوى أنّها سهلة، ولا مواجهة بينها وبينه حول الموضوع. هنا تشعر بالإهانة "لم يجرّب الرجال أحاسيس امرأة مهانة لمّت أكتاف رجل من زنزانته، وبعد أن اتّسعت علّق عليها خصل سواها، وذهب" (ص 146). وعلى ما يبدو فإنّ صناعة الحب تحتاج إلى قليل من المومسة. "أنا لا أنكر تمامًا كيف يفكّر رجل بامرأة بعد أن تصبح مقلاته أو جرّته" (ص 143)، وهذا هو سر ابتعادها عنخ جسديًّا رغم حبّها الجارف. كرامتها جرحت. الخيانة تكسرها فتلجأ إلى لندن إلى كاظم خيبر الذي يأخذها إلى دفء جسده وشقّته، وهناك رغم علاقتها الجسدية تستحضر غسان "أصبحت مثل طفل أضاع ألعابه وجلس ينتظر عامًا يأتي كي يجلب معه عيدًا ولعبته" (ص 167). استحضارها لغسان يجعلها تنفر من كاظم. تشدّها الذكريات إلى غسان فتعود وهذه المرة إلى يافا، وتعيش على ذكرياتها مع غسان، ومن مناجاتها لنفسها في يافا نعرف أنّ رحمها في حالة إخصاب ملحّ، والأيام الخمسة الأولى من الشهر تحدث لجسدها هزّة عشق. بعدها يكون لقاء مع غسان مفاجئ وعلى غير توقّع، فتنقلنا إلى غسان إلى محاسبته لنفسه "لا يعيد للرجل صوابه غير الخيانة" (ص 253). غسان يحتلها في يافا، "تشهّت أن يدخّنها من بطنها السريّة حتى بركة عنقها المعلنة" (ص 273). تصمّم على رؤيته فتذهب إلى المسرح وتشاهد مسرحية له بعنوان "امرأة الرسالة"، وإذا المسرحية عنهما، أخذ غسان تفاصيلها من قصاصات الورق التي كتبت عليها هواجسها وخبأتها في الوسادة، حين شعر بالخواء. أشعرتها المسرحية بالمهانة وبفقدان كرامتها "لم تعد أنثى رجل، بل متسوّلة على فراش رجل" (ص 281)، وتعيش صراعًا داخليًّا بين غسان وكاظم، وهنا يأخذ إيقاع النص بالتسارع. ولأنها شعرت بالإهانة، تقرّر العودة إلى لندن، ولكن ليس قبل أن تزور غسان في بيته في عكا، لتمارس معه الجنس وليزرع فيها دون أن يدري جنينًا، تكتشف وجوده في لندن. وينتهي النص بهذه المكيدة الماكرة، تنتهي بحملها من غسان ليتأبد غسان في جسدها.
هذا المبنى الثيمي الذي نسجت عليه رجاء بكرية نصها، هو مبنى يناور على فكرة واحدة، لكنه مبنى مستحضر من الذاكرة وأحداثه تدور فيها، لذلك البنية السردية هي بنية محاصرة ومضغوطة، كلّها دفق وبوح واسترجاعات، تلعب اللغة في هذه البنية دورًا رئيسيًّا لسد الفجوات ولملء النواقص وللتعويض عن بطء الإيقاع الحدثي والدرامي. وحتى المشاهد الجنسية الصريحة، وهي ليست قليلة في النص، تلعب هذا الدور، ولكنّها لا تأتي ناتئة على شكل تصوير آلي ميكانيكي، إنّما هي موظّفة لخدمة البنية الحدثية/ السردية.
هذه هي امرأة الرسالة كنص قصصي. النص يشدّنا شدًّا ويفاجئنا بصراحة العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو على ما فيه من مداورات لغوية تضر أحيانًا بالدرامية وبانسيابيّة ما يجري، بحيث تجعل المتلقي غير المتمرّس يفقد ربط ما يجري، فتفقد البنية السردية حرارتها وتتبعثر ويصير من الصعب لملمتها، وكذلك على ما فيه من قطيعة مع الواقع الخارجي، هذا الواقع الذي من المفروض أن يقيم التوازن بين ما يجري في داخل النفس وما هو خارجها، أنّ الواقع هو المرجع، ومن المفروض أن يحيل النص بما فيه من غنى عليه، فصيرورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صيرورة البنى والأشكال الاجتماعية. وعلى الكاتب إذا أراد أن يثري نصّه أن ينبش في سرّية مجتمعه وواقعه وتاريخه وأن يكشف المضمر والمغيّب فيه، لا أن يقتصر على النبش في سريّة ذاته.
جمال النص عند رجاء بكرية يقوم على المكاشفة والمصارحة وتحطيم الكثير من التابوات، وإزالة كل المكيجة والأصباغ والغشاوة التي تسيّج بها عالم المرأة. جمال النص هو هذا الحفر الممتع والمتقن في عوالم المرأة الداخلية وتغوّر أحاسيسها وهواجسها وشهواتها المشروعة والكشف عما يدور في هذه العوالم من صراعات وتخبّطات. وإن أصاب النص بعض الجمود والترهّل في بنيته السردية، فهذا نابع من كونه يسرد من الجوّاني، من الذاكرة، من القاع. وهذا الجمود والترهل هو آفة هذا اللون.
النص يحرّر المرأة من نظرة الرجل الشرقي، ويردّ عليها كرامتها، ويجعلها كائنًا حيًّا له عالمه وله حريّته وله فضاءاته الواسعة يسبح ويحلّق فيها حسبما تملي عليه أفكاره وأحاسيسه وعواطفه، كما يحرّرها من رهابية القطيع التي تعيشه في مجتمعنا البطرياركي الذكوري. المرأة المثقفة بكلّ أبعادها تبوح وتدفق وبحريّة كاملة بلا محبطات ومعوّقات ولكن دون التنازل عن أنوثتها المرهفة.
إنّه عالم نجهله، هو هذا العالم الذي تهدم جدرانه رجاء وتسلّط عليه حدقتها الكاشفة وتنتشله من القاع إلى السطح، لنرى إلى ما في داخله من إشكاليات.
وأخلص إلى القول: إنّ ما جاء من ملاحظات على النص لا ينبع من عدم قدرة الكاتبة، أو من عدم اتقانها لخيوط اللعبة القصصية، وإنّما ينبع من كونها لجأت مضطرّة بسبب المضمون إلى الشكل الاستباري الاستبطاني الاستعاري. والمضمون كالذي ذكرناه يحتّم مثل هذا الشكل، وشكل كالآنف ذكره يحتّم على النص قلّة الحركة وخمول البنية السردية والزمكانية، وبطء الإيقاع، وضمور التوتّر، وهذه هي ضريبة هذا الشكل، ويغلّب الأحاسيس الفوّارة والعواطف اللاهبة والشهوة الحارقة وتصوير أصقاع النفس البشرية في صراعاتها الداخلية، وهو ما نرجوه من قصصنا دائمًا، أعني الابتعاد عن البراني واللجوء إلى الجوّاني، رغم ما فيه من ضريبة شكلية.
هنيئًا لرجاء بكرية هذه القدرة على القص، وهذه الطاقة الكبيرة في التصوير الإيحائي، والنبش في الجوّانيّات، وهنيئًا لها كذلك، هذه القدرة على امتلاك زمام اللغة في صريحها ومجازها وفي بنيتيها العاديّة والاستعارية.
د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.