ماذا تنتظر ؟
هكذا قالت حين مرت به ، سمع صوتها و لم ير سوى طيفها يمر.
كان ساهيا يقتعد حجرة مرمية جنب الطريق المغبر الطويل ، ويحني رأسه بين كتفيه و يخطط بعود في التربة خطوطا تتشابك بلا هدف،كتلك الأفكار التي تتشابك في رأسه.
عندما ابتعدت هي في الطريق ،و أفاق هو من دوامته، و تذكر أنها مرت عليه و قالت ما قالت ، و رفع بصره في أثرها سيطرت على عقله فكرة أنها ربما تدعوه للمرافقة ،وترمي من كلامها أن تقول له: هيّا ماذا تنتظر؟
فكر أنه ربما سقطت من سمعه هيّا تلك، و فاته أن يمشي معها، فلا شك أن الطريق سيبدو قصيرا و مريحا و ممتعا ،له و لها ،و ربما هذا ما قصدت بكلامها.لم يطل التفكير كثيرا ، نهض و ركض وراءها، جرى بكل ما أوتي من سرعة، غير أنه كلما توقف قليلا لاستجماع أنفاسه من أجل المواصلة، و نظر إليها ليستطلع المسافة الباقية ،يجدها تبتعد أكثر. إلى أين تأخذه؟ حار في أمرها و أمره، و فكر أنها قد تكون من غير الإنس،وربما من كوكب آخر، وربما سرعته لاتناسب سرعتها.فكر أيضا في ذلك الطائر الأصفر ذو الذيل الطويل ،الذي يلهي الرعاة،و يتحايل على عقولهم الصغيرة، يحط قريبا منهم حيث يلعبون، فيطاردونه ظنا منهم أنه لا يثقن الطيران ،و أنهم يستطيعون الإمساك به ركضا ،مثلما يفعلون مع دجاجة،لكنهم كلما اقتربوا منه يطير هو بضع خطوات و يحط كأنه منهك ،فيزداد طمعهم به و يستمرون في ملاحقته، حتى يجدوا أنفسهم تاهوا عن قطعانهم، فسموه ملهي الرعاة.
فكر أيضا أنها قد تكون مؤامرة من مؤامرات الطريق،و ربما من مفاجآته، لكنه حسم في الأمر أخيرا ، و قرر أن يتابع طريقه في أثرها، هو على أية حال كان يسيرفي نفس الاتجاه ، و ما عليه الآن سوى أن يزيد في سرعته قليلا. تابع ركضه لمسافات طويلة ، يركض و ينادي بصوت متقطع من شدة التعب، بكل الأسماء التي يعرف و خطرت بباله في ذلك الوقت.لم تتوقف هي و لم تلتفت ،إنما في لحظة سهو منه مفاجئة ،أحسها تمر بجانبه في الاتجاه المعاكس بسرعة فائقة .لم تترك له فرصة رؤية حتى ملامح وجهها.
هو الآن يقتعد حجرة أخرى جنب الطريق المغبر الطويل ، صار له ما ينتظر،ينتظر مرورها ثانية ، فقد علم من خطوط خطتها على التراب قرب الحجرة ،أنها نسيت اسمها أو ربما سقط منها في الزحام ،و رجعت لتلتقط حروفه المشتتة من تحت الأقدام ،هناك في الممشى الدائري ،و تعود.