كانا يتقاطعان كل صباح، فيحيي أحدهما الآخر ثم يواصل كل منهما طريقه ويمضيان في اتجاهين متعاكسين، وتظل كلماتها تدغدغ مسامه إلى أن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيها.
كلمتان ليس إلا فعلتا فيه هذا الفعل، أسرتاه وشدتاه إليها. في صوتها عذوبة وفي لحنها انسيابية فريدة، رقة ودفء وحنان. كلمتان تنثرهما في حياء فوق أديمه الجاف فتزهران دون انتظار زمن الإزهار، تتمردان على كل النواميس الطبيعية، تتحديان برودة الطقس وارتفاع درجات الحرارة، لا تخضعان لقوانين الفصول. كلمتان متمردتان تبوح بهما دون أن ترفع عينيها عن الأرض. لم ير عينيها يوما ولم يتأمل تفاصيل وجهها، يكفيه صوتها، هذا المغناطيس الآسر.
استعاض عن بصره بأذنيه منذ فقد حاسة البصر إثر تعرضه لمرض أصاب عينيه في عامه الثاني، فقَدَ بصره كله في لحظة واحدة، لم تفلح معه حبات بذور الحرمل التي أُرغِم على ابتلاعها، ولم تنفع معه التمائم التي علقتها والدته له على رقبته أو فوق أثوابه. ورضي بوضعه الجديد وكان لزاما عليه أن يرضى. كان أحب الأصوات إليه صوت أمه حين تناديه لتخرجه من وحدته وعجزه، تؤنسه تلك الكلمات القليلات التي تذكره كل مرة أنه ليس وحيدا في البيت وفي هذه الدنيا، وأن هناك من يرافقه ويراقبه ويرعاه. وحين غاب ذاك الصوت ظل وحيدا ولم تحتفظ مخيلته سوى بذلك الرجع من ذلك النغم الشجي الذي كلما استعادته ذاكرته الموبوءة انفجرت عيناه دموعا لا يحاول أن يداريها. يريد أن يبوح للعالم أنه ظل وحيدا منذ رحيل الغالية من الحياة.
في ركن قصي من ذاكرته يحتفظ أيضا ببقايا أصوات أخوته الأربعة الذين حملهم الوالد فجر يوم قائظ، تأبطهم كالجراء وتركه وحيدا في البيت، ثم عاد في المساء بعد أن شتتهم بين الفجاج ووزعهم بين دور أخوالهم ليُعَوِّدُوهُمْ على وعورة الفيافي القاحلة ويدربوهم على صراع لفح الصحاري وتتبع الضواري واصطيادها لتأمين عيشهم. لم يبح له الوالد يومها بكلمة، أطبق عليه الصمت والجوع، وعندما مضى من الليل شطره أيقظته الجلبة وحُمِل، لا يعلم إلى أين. لم يبك ليلتها، استسلم لمصيره ليجد نفسه بعد عذاب الطريق بين أصوات كثيرة متداخلة لم يتبين منها سوى صوت محمد الجموسي يردد "تمشي تمشي وترجع بالسلامة" فأدرك رغم صغر سنه أنها بشرى خير. واشتد حنقه منذ تلك الليلة وحقد على والده، كيف يفرط فيه وفي أخوته دون أن تتحرك فيه مشاعر الأبوة...
مازال ذلك الصوت يتردد في أذنيه، يرفض الرحيل ويأبى المغادرة. أي امرأة هذه التي تداهمه على حين غفلة منه، تحاصره كلماتها، تشد حلقها على الحروف كأفعى تعصر فريستها وتتمتع بعذابها، تقتلها بتمهل، وحين تتيقن من مفارقتها الحياة تشرع في ابتلاعها شيئا فشيئا. كلمتان نشبتا في ذاكرته، رحلتا به إلى عوالم قصية ما كان لقدميه أن تطآها، ودنتا به من عالم لم يكن يراه إلا خلال وحدته، عالم كله صفاء ونقاوة وطهر وعفاف، عالم لا لوثة فيه ولا أدران، مليء بالفرح والأحلام، عالم خال تماما من الضغائن والأحقاد.
الحياة سرداب لا يسكنه إلا الذين تدربوا على العيش في الظلمة، وهو قد ألف الظلمة، لم ير النور يوما، هكذا نشأ، عيناه لا تبصران لكن بصيرته ثاقبة، تخترق الأشياء، تغوص في الجوهر، لا تأبه للقشور، تجوس في الألباب. يرى الأشياء كما لا يراها المبصرون. ألم يقل السابقون أن كل ذي عاهة عظيم؟ وهو يشعر بعظمته، يدركها ويحياها حين لا يخال الآخرون أنه كفيف، قلبه نابض بالحياة والأمل. اكتشف أن السعادة تنبع من القلب، فأحب قلبه وحافظ عليه، ملأه بحب الآخرين.
يخرج كل صباح من بيته، يعد خطواته، يحسبها بدقة، يلتزم أثناء سيره الطوار الأيمن، تقوده بصيرته، يتجاوز السكة الحديدية ثم يتجه شمالا، يمشي إحدى وثلاثين ومائتي خطوة لا تزيد ولا تنقص، ألِفَ العد فلم يمله يوما، يتسلى به أثناء غدوه ورواحه، وصارت الخطوات وحدة قيسه للمسافات. يرد على تحايا العابرين دون أن يخطئ في العد ، يعلم أنه إن أخطأ سيظل طريقه. المسافة بين سكناه ومقر عمله لا تقاس بالأمتار عنده، بل بالخطوات، بالعد التصاعدي، بلا جمع فيه ولا طرح ولا ضرب ولا قسمة. حسبه أن يسمع مزلاج الباب تسحبه يده حتى يشرع في العد. وكان يسعد عندما يخطو خطوته الأولى خارج البيت الذي عده سجنا قميئا.
في غرفته التي وضعوه فيها منذ أن اقتادوه خلال تلك الليلة القاسية التي لن ينسى تفاصيلها المؤلمة، يؤتى إليه بالطعام والشراب، لم يطلب يوما شيئا من أحد، هكذا تعلم، لا يشعر بالحرمان لأنه لم ير الأشياء ولا يعرف ألوانها أو أحجامها، بالروائح والطعم كان يميز الأشياء ويختار لها أسماء خاصة به. في غرفته تلك كان يسمع أصوات المقرئين تأتيه من الخارج وهم يرتلون الذكر الحكيم أو يلهجون بالأدعية، فحفظ كثيرا من الآيات الكريمة ومن الأدعية المأثورة التي كان يرددها في مقر عمله وهو جالس ينتظر رنين الهاتف ليرد على المتصل ثم يحول المكالمة إلى وجهتها المقصودة، تتحسس أنامله الأرقام تقرؤها، وقلبه يصدق ذلك أو يكذّبه.
هكذا كانت حياته رحيلا متواصلا بين الأصوات، لا يسأل عن اسم المتصل أو حاجته أو مكان عمله أو وظيفته، يرد على التحية بأدب جم وباقتضاب شديد ويصمت، وما إن يصله رقم المكتب المطلوب حتى يضغط على الأرقام ثم يضع السماعة حين تُرفع الأخرى. ويظل قابعا في انتظار رنين آخر لهذه الآلة العجيبة.
حافظ على حياده التام مع كل الأصوات، أما صوت الصباحات فقد أسره، عجز على أن يكون محايدا معه. صوت عذب يأتيه كزخات المطر تروي يبوسة أيامه، يأتيه وهجا يرسم أمامه سبلا لم يسر فيها سواه، يرافقه ما تبقى له من مسافة، يضاف إليه العطر الفريد المميز الذي لم يعرف يوما مثيلا له. فيؤنسه الصوت والأريج، ثم يواصل سيره هائما لا يصغي إلى الأصوات التي تأتيه من كل الجهات. يحس لحظة الالتقاء بينهما، ففي الخطوة الرابعة والخمسين وبعد أن يعبر السكة يرد على التحية، يعوّض العدد بصباح الورد.
مساحة الفرح التي يتركها ذلك الصوت الصباحي لا تقاس بوحدات القيس المألوفة، مساحة شاسعة لا يحدها بصر المبصرين، وحده يرسم حدودها وأبعادها، تطوّح به بعيدا عبر أزمنة غابرة، تنقله إلى كوكب لا يصغي فيه إلا لصدى ذلك الصوت يتردد في كل الأرجاء، يسربله بغلالة من الفرح والنشوة، يتلبس به ويسكنه، يتغذى به وينام محتضنا إياه ويصحو على نغماته، يتعمد به في طقس تعبدي لا يمارسه سواه، يتسربل به كخيوط الفجر، يأتيه لحنا نقيا طاهرا كأن صاحبته لم تترنم به لغيره...أنساه ذلك الصوت كل أحزانه، صار أنيسه في غرفته، وصارت أصوات المقرئين والمدّاحين صدى لهذا الصوت الحبيب الذي اخترق قلبه وكل حواسه ليسكن فيه.
في إحدى الصباحات عنّ له أن يخالف المألوف وأن يسير على الجانب الأيسر من الطريق بعد أن عبر السكة الحديدية. لم يخطئ العد، وحين خطا الخطوة الرابعة والخمسين ارتطم بصاحبة الصوت، فتناثرت كلماتها واندلق عطرها ليضمخ الكون بأريجه وتصافح الجسدان في لحظة توقفت فيها نبضات القلبين، لحظة انفتحت فيها البصائر ليدرك كل منهما أن صاحبه أعمى لا يبصر.