اعتادت أمي زهيرو أن تكنس باحة الفيلا كل صباح. تتخلص من أوراق الشجر اليابسة، ثم تلقي بالمقشة جانبا وتسرع الخطى نحو المخبزة قبل وصول الأجواد. لم تكن لي معها قصة بالتحديد، سوى أني توليت مراقبة الشارع ظهر كل سبت. حتى إذا لمحت سيارة النصراني، هرولت مسرعا إلى السوق المركزي لإخبارها.
الطبيعة تكره الفراغ، وكذلك أمي زهيرو. يمتد شغلها الإضافي من الزوال حتى آذان العشاء. تحصي الدريهمات، ثم تحمل أقراص الخبز إلى محل وجبات سريعة. تفاوض حول السعر بإلحاح من يصر على العيش لسنوات عديدة. قدّرت السن بالثمانين أو يزيد، لكنها، رغم انحناء الظهر وضعف السمع والبصر، تحمل على أكتافها شموخا يليق بالمحارب.
-جاء النصراني؟
- نعم!
أسبقها بخطوات كمن يُمهّد لها الطريق. تمتد اليد المتصلبة لتمسك بكتفي. صرت عكازا لأمي زهيرو فتطمح النفس لدرهمين أو يزيد. يبدو النصراني غير مبال لتأخرها في المجيء. من المفروض ألا تترك الفيلا قبل الغروب، لكنه يتظاهر بقبول شكواها. دوخة وروماتيزم، ثم لعنات تصبها على شجرة الجوز التي لا تكف عن طرح أوراقها الميتة.
يلملم النصراني عدة الصيد ويربط القارب الخشبي خلف السيارة. تتظاهر أمي زهيرو بكنس الباحة قبل أن تسرع الخطى مجددا صوب المخبزة، لكن هذه المرة دون الحاجة إلى عكاز. أصرّ على نيل أتعابي فألحق بها قبيل الغروب. أحمل عنها رزمة الخبز ثم أسلمها لصاحب المحل. تطلب سندويتش كفتة فيخفق قلبي بشدة. صرت رجلا يتناول عشاءه خارج البيت. أحفظ الورق الذي لُف فيه السندويتش شاهدَ إثبات على صدق ادعائي. لو سمع سندباد بخبر أمي زهيرو لكانت رحلتَه الثامنة.
أمسح فمي بكُم القميص ليبقى مذاق الكفتة رطبا في الذاكرة. أؤجل شرب الماء كي أتجشأ عنوة أمام أخي الصغير. يجهش بالبكاء لأن أمي زهيرو لم تكن عادلة، فهو يتولى كل صباح جمع أوراق الجوز اليابسة وإحراقها. يقسم أنه سيجمع الدود من الساقية ويبيعه طعما لقصبة النصراني:
- هل تتذكر يوم أعطانا خمسة دراهم؟
نعم، كان منظر الدود مقززا وهو يتلوى في قعر الطاسة!
ترقبت مجيئها صبيحة اليوم التالي، لكن توجب عليّ انتظار يومين قبل وصول الخبر. أمي زهيرو طريحة الفراش بعد أن صدمها سائق دراجة متهور. طرقت باب غرفة كئيبة على السطح ثم دخلت. للأمكنة عبق خاص يملأ شقوق الذاكرة. حتى في لحظات البوح النادرة لم تأت يوما على ذكر الزوج، كأن العجوز العاقر تخلصت من عبئها الذكوري لتستأنف الحياة.
لا ولد.. ولا وتد!
مشت يوما على ظلها فانكسر، وامتدت أصابعها الحادة كمخلب إلى جيب معطفها الكستنائي. ألقت إلي بالمفاتيح ثم ارتعشت من الوحدة:
- أخبر أباك أن يدبر أمره مع النصراني. مفاصلي التهبت من البرد والكنس، ولا حاجة لعجوز مثلي غير انتظار الساعة!
لم تنقطع زيارات الجيران لأمي زهيرو حتى خلا البيت مما خف حمله وغلا ثمنه.
- عجوز عاقر ماذا ستفعل بوسخ الدنيا؟
لمحت في عينيها انطفاء غريبا، وتمتمة شفاه لا تهدأ. لم يكن الزهايمر رائجا بعد في بلدة الصمت والنسيان تلك. همهمات وتلويح باليد لغرباء استوطنوا الذاكرة. تنام وتصحو على كوب حليب، وقطرات عسل تُفاوض الموت ليكون رحيما.
نثرت شجرة الجوز ما تبقى من ورق ميت. حملت مقشتها وكنست الباحة، لتهدأ روح صبي لا يزال مذاق الكفتة رطبا في ذاكرته.