كان يقود السيارة على عجل من أمره كأنه يسابق الزمن كي يسافر عبره، الطريق ملتو لا ينتهي يفوق الأفعى في التوائها، قرص الشمس يسير نحو التواري كي ينير عالما آخر، هدوء كبير يلف المكان والزمان والذكريات البعيدة جدا... تناول سيجارته المفضلة، كان طعمها يبعث فيه حلاوة المنتشي من إنجاز حققه، وكم كان الأمر مثيرا عندما ضغط زر الموسيقى حيث أغنية "سلو قلبي" لأم كلثوم تسمو به في أقصى الأقاصي، هناك في الأفق حيث الحلم يحضن كل كبيرة وصغيرة، حيث الطموح سيد العالم، وحيث الامتنان لشيء مجهول لا يفوقه امتنان، فجأة رن هاتفه النقال الذي كان كافيا لانتباهه إلى السرعة التي يسير بها، نظر بعين واحدة نحو شاشته فكانت مفاجأته كبيرة حين لمح اسمها تطلبه بعد غياب دام زهاء سنتين وما ينيف...
تردد في الاستجابة لطلب مكالمتها، كان مستعدا لاستقبال أي شيء إلا هذا الذي يحصل معه الآن، كيف تذكرته وقد انقطعت أخبارها بالمرة، هكذا قال في نفسه، هام طويلا فلم يترك لنفسه مهلة التردد ثم اتخاذ قرار الإجابة من عدمه، غاص في شيء لا يدري طبيعته وجوهره، إلى أن غاب عنه صوت رنين التلفون، وكان هذا كافيا لتذكرها من جديد، مرت أمام مخيلته بوجهها الشاحب وابتسامتها الهادئة، ومرت معه لحظات لا حصر لها عندما كانا معا، توتر بعض الشيء لعودتها إلى سطح الذكريات، اختلطت عليه الأشكال والأشياء، فقرر التوقف قليلا حيث لفه صمت المكان بسحره إلى جانب سحرها مما أضفى على وجدانه طابع الانصياع لذكريات تبخرت وأفل نجمها، أشعل سيجارة مرة أخرى علها تحرق ما مضى، كان يتأمل الفضاء الشاسع أمامه لكن في قلبه ضيق احتمل كل الأشياء بما فيها الشساعة نفسها، وحده صوت أم كلثوم يعيده إلى ماهو عليه الآن، نظر في كل الاتجاهات، رمى السيجارة أسفل حذائه، سحقها بكل حسرة ومرارة متخيلا نفسه يسحق تلك القرارات الرعناء التي أخذها عن طيب خاطر، ثم عاد للسيارة طلبا في إكمال نهاية هذا الطريق الملتوي عله ينتهي...
لم تكن حالته تدعو للارتياح، أحس بشيء يجثم عليه بثقل مبالغ فيه، ربما لأنه سمع خبر مرض والدته وأنها على فراش الموت وهاهو الآن يقطع هاته الأميال طلبا في رؤيتها التي قد تكون الأخيرة، لا يعرف لماذا تذكر بطل رواية "الغريب" لألبير كامي، رغم الاختلاف الكبير بينهما، ربما لأن الجامع بينهما هو الاستجابة لنداء الذات بعيدا عن التقاليد والاعتقادات... نظر صوب المرآة أمامه كان الطريق مقفرا إلا من بعض الإشارات المرمية هنا وهناك، أشعل لنفسه سيجارة ثم زاد من سرعة سيارته محاولا اختراق شيء لا يعلمه حتى هو، عند انتهاء سيجارته انتبه إلى صوت الهاتف مرة أخرى، فوجد أنها تعيد طلبه، تناول سماعته بعفوية كأنهما التقيا هذا الصباح، فالتقطت أذنه صوتها:
ــ ألو محمود، أنا منى، آسفة إن كنت قد أزعجتك...
لم تترك له فرصة الرد حين أردفت قائلة:
ــ أتمنى أن تكون بألف خير، على العموم اتصلت بك كي أقدم لك تعازي الحارة، فقد توفيت والدتك قبل ساعة من الآن، كنت المشرفة على العملية الجراحية، لقد بدلت كل ما في وسعي لكني لم أتمكن من القيام بما تمنيته...
ساد صمت طويل... قطعه صوتها الذي لم يتغير رغم مرور كل هاته المدة:
ــ إلى اللقاء محمود...
أحس بالعالم أمامه جامدا جمود عباراتها، لقد قتلت مشاعره عندما تزوجا، حيث لم تكن تفرق بين حياتهما وغرفة العمليات، وها قد أضحت سببا غير مباشر في وفاة والدته، كأنه يعيش مسلسلا محبوكة أحداثه بطريقة لا يدخل منها الهواء، لم يعرف ما الذي يفعله، الشيء الوحيد الذي استطاع النفاذ لنفسه هو تلك الصور الوهمية التي لا زال يحتفظ بها في ذاكرته، حينما ودع والدته لأول مرة في حياته نحو لندن، حينما قررت أن تقدم له ممتلكات والدها كي تساعده على نشر أول رواية له، حين رفضت زواجه بمنى، وحينما تحدى العالم من أجل منى مقررا الزواج بها، ربما يدفع الآن ثمن اقترافات كان من الأجدر أن لا تكون، لكن مالذي يمكن أن نفعله أمام إرادة الأزمنة الرديئة منها والمجيدة... وبينما هو على هاته الحالة انفلت المقود من يده التي تصلبت وجمدت رغما عنه، كان يرى ويسمع لكنه فقد الحركة على التحكم في سيارته بل في جسده أيضا، كان يرى حتفه بأم عينيه كأنه كتب عليه الموت في يوم وفاة والدته كي يتجاورا تحت تراب تلك الأرض التي هجرها منذ ومن بعيد، فكر في كل شيء في رمشة عين، والسيارة تنحرف من مكانها إلى أن سقطت به على حافة الطريق ومعها سقط وعيه وغاب تماما...
وبدون سابق إنذار وجد نفسه خارج الزمان والمكان، فقد الإحساس بانتمائه للعالم، بل إنه فقد كل معالم الوجود، ومعه توقفت حركة جسمه النحيل، وحده صوت الطبيب لازال يطن في أذنيه وذاكرته:
ــ للأسف أصبت بشلل نصفي، من الآن فصاعدا لا تقترب من التدخين، تجنب شرب الخمر، ربما لن
تستطيع الكتابة أيضا، يدك اليمنى ماتت واليسرى تسير نحو العطالة... لقد عملنا كل ما في وسعنا دون جدوى، ابتسم الطبيب بطريقته الباردة ثم انصرف تاركا وراءه رائحة عطره الفاخر الممزوجة برائحة غرفته بالمستشفى، كل شيء أبيض، كل شيء بارد، وكل الاشياء لا تغدو أشياء وإنما بقايا زمن يسير نحو الاندثار والتواري بعيدا عن الشغب، بعيدا عن الإحساس بالحياة، كم كان الأمر صعبا عندما تلقى هذا الأمر، كان يجب رؤية والدته مباشرة، وسماع صوتها، كان على موعد مع صديقته الألمانية كوزيما، كان على موعد مع مدير دار النشر للتشاور حول روايته الجديدة، كان على موعد مع برلين بأجراس كنائسها بخضرتها وعبيرها وبشخوصها الآلية، لكنه لم يكن على موعد مع شلل نصفي وآخر في طريقه للانسياب... همهم في نفسه، زفر بقوة كمن يحمل هموم العالم برمتها، أغمض عينيه بمحض إرادته ثم
سافر بعيدا حيث الذكريات وأشياء أخرى... استمر على هاته الحالة زهاء شهر إلى أن ألف الوضع مثلما ألف أوضاعه السابقة...
في هذا اليوم بالذات زارته منى، كانت تحمل باقة ورد من الأنواع التي أحبها، ابتسمت له بطريقة ساحرة لا برودة فيها، حاولت أن تحدثه على كل الاشياء، كان يتظاهر بالاستماع، وبدورها كانت تعرف ذلك، إلى أن شعرت أنها لا تخاطب سوى جبل جليد ضخم، قبلته في خذه ثم انصرفت دون أن تحمل معها بعض الكلمات التي لا زالت تسبح في فضاء غرفته، مباشرة بعد ذهابها، استلقى على الجانب السليم من جسمه غير مستاءٍ من وضعه وغير فرحٍ به، كانت غرفته بالمستشفى هادئة تماما لدرجة أن أذنه التقطت صوت الصمت أكثر من وَهلَةٍ، أحس بالجمود هاته المرة لا يلف جسمه النحيل فقط، وإنما تسرب إلى عمق خياله... لم يفكر في أي شيء إلا في هذا الذي لا يفكر فيه، رفع رأسه بصعوبة صوب الساعة الحائطية، كانت عقاربها تشير إلى الساعة الثالثة بعد الزوال، تخيل الساعة امرأة جميل قوامها، أُعجب بقدرتها على الاشتغال طوال الوقت، أحس بأنها تفوقه قدرة وهو الذي فقد نصفه رغم أنه لا زال ينتمي إليه، تمنى لو كان جنديا في معركة كي يفقد الحياة بدل هذا الذي حل به... أحيانا نحس بأن يدا خفية تلعب بنا، قد تكون الحياة، قد يكون التاريخ، قد نكون البنية الخفية التي كان يؤمن بها لدرجة أنه لقنها لطلبته لمدة طويلة محاولا أن يصبحوا بنيويين أكثر من جاك لاكان و بياجي وألتوسير ودوسوسير... التهم هاته التأملات الخارجة عن وعيه، تساءل بروح الأب العطوف لحظة الحاجة لذلك:
ــ في هاته الساعة بالذات أكون على موعد مع أحب الأقسام إلي.
زفر بشدة ثم أردف قائلا كأنه يخاطبهم:
ــ ترى ماذا تفعلون الآن بدوني...
ابتلع ريقه ثم أغمض عينيه متخيلا نفسه يدخن بنهم ويحتسي كأس جعة في لوكاردينال مادامت هاته الأشياء محرمة عليه ليس باسم الدين وإنما باسم الطب، بعدها غاص في نوم عميق حيث رأى أعضاءه التي شلت تحاسبه، تحدثت إليه يده معاتبة إياه على الذي اقترفه، وكان أول خطأ قامت به يده هو عندما لامست وجه منى وجسها، وعندما داعبت شعرها، باحت له يده بأنها لم تكن تحب ذلك لكنها هي فقط مجرد خادمة لإرادته، عاتبته رجله أيضا على ذلك اليوم الذي قرر فيه الذهاب إلى متحف الفنون المعاصرة حيث التقيا لأول مرة، كانت رجله تعرف هذا الأمر لكنها لن تستطيع الحديث إليه، وإذا حدث ذلك فإنه سيجن لأن الأرجل لا تتكلم، وإنما تنفذ الأوامر على حذافيرها، صرخت في وجهه كل أعضاءه بدون استثناء، عاتبته على ما أنانيته المفرطة، عاتبت منى أيضا لأنها كانت السبب في هذا الذي حصل لهن ربما ساهمت في التسريع في وفاة والدته انتقاما من كرهها لها، على الأقل إذا لم شعورها فإن لاشعورها كانت له يدا كبيرة في ذلك وهو الأدرى بهذا الأمر، غابت عنه جميع الأعضاء، صرخ بشدة دون أن يسمع صوت صراخه كأنه في بئر عميقة، مرت من أمام عينيه والدته مبتسمة تلك الابتسامة التي ألفها، لأول مرة يذرف دموع الألم ربما أسفا على ضياعه نصف جسده، أو ألما وتحسرا على وفاة والدته، أو حنينا إلى منى التي عادت إليه بعد أن طردها... كان على بينة من كل ماحصل له، صدق كل هذا السيناريو المرعب، لكن شيئا واحدا لم تستطع قريرته أن تتقبله ألا وهو هذا الشلل النصفي الذي أصابه مانعا إياه من عودته إلى الحياة مثلما كان عليه آنفا...