الشاي الأخضر يصب ككل مرة بلا رغوة، والخبز يقطع إلى أجزاء ثم يدهن بالزبدة الرومية والعسل المغشوش، لم يلاحظ أحد أن حدوثة الإفطار هذه أصبحت مملة، والصمت الذي يطوف بالكؤوس فضح كل الأفكار السيئة التي تروج في الرؤوس، تمنيت ساعتها لو جرى الكلام بيننا و ستر سوء النيات و خبث التخيلات، لكنهم كانوا مصرّين على تكرار الحياة..لم أكن أستطيع أن أوقف مهزلة الأكل بلا شهية و العيش بلا أمل.. بعد قليل سيتفرقون في البيت و خارجه وسيلبسون نفس الملابس و سيقولون نفس الكلمات و يخطون نفس الخطوات و سأبقى أنا جالسا مكاني أراقب برّاد الشاي والكؤوس الفارغة بكره شديد وأنتظر إلى أن يتلاشى عني ألم المعدة الذي يجتاحني عادة بعد كل إفطار بالشاي والزبدة وسأقوم بعد ذلك وأنا أدندن بكل الأغاني التي أكرهها وأخرج من المنزل لأقف مع الأصدقاء وقفتنا المقدسة، و سيدور الكلام بيننا عن كل شيء غريب.. حتى الكلام عن عدل الملوك..
وستمر بجانبنا "أمل" الفتاة التي أحب وسيتغامز الأصدقاء ببلاهة وألاحقها لكنها كالعادة تصدني بدلال و تكتمل قصة البؤس.. لكن لا، هذه المرة كانت القصة مختلفة، فبعد انتهاء الإفطار زارتنا جارتنا زكية وهي بلا شك تحمل إلينا أخبارا جديدة عن آخر الطرق للهجرة .. في الحقيقة كانت زكية مثالا واضحا لامرأة القرن الواحد والعشرين، امرأة جريئة و سليطة اللسان ولا تتحدث إلا بالكلام الفاحش مطلقة و لها بنت مراهقة، لكنها رغم ذلك كانت امرأة محبوبة لدى الجميع و تتعامل معنا كأنها فرد من العائلة وتستطيع أن تساعدك في الهجرة و في إيجاد شغل حتى داخل البلد.. " جئتك بأخبار سارة.. فتاة فرنسية..جاءت مع إحدى الجمعيات، ما عليك إلا أن تعد عشرة ملايين.. فرصة لا تعوض..فيها كل المواصفات التي تحب..." ثم نظرت إلى الأم بابتسامة مشجعة وأعادت النظر إلي .." وكيف عرفت المواصفات التي أحب.. !؟ " هكذا أجبتُ فقامت واقفة..." الم تردها فهذا شغلك...مع السلامة أنت إنسان معقد..." وقامت الأم و حاولت إجلاسها وبعد مزاح و جذب و مداعبات نسائية جلست وهي تقول "لا أعرف لمن يشبه ابنك هذا ؟..» فردت الأم بحسم " لوالده طبعا" فقلت بغضب موجها الكلام للأم.. " وهل نملك العشرة ملايين؟".." في الحقيقة الثمن مرتفع يا زكية و نحن كما تعرفين...".."يا ربي.. من بلاني بكم...؟هل تريد الذهاب إلى الخارج بدون مقابل.. !؟ " قطبت حاجبيها واستغرقت في التفكير ثم بعد برهة قالت وكأنها عثرت على الحل السحري" إلم تردها فتزوج ابنتي وأنا سأساعدك في إيجاد عمل هنا..اتفقنا؟" غمزتها لتكف عن هذا الكلام الذي تعيده علي كلما صادفتني.."وهل قلت حراما...؟".."لا يا ابنتي لن نجد أنسابا مثلكم... لكن الظروف.." قالت الأم كلامها المأثور في مثل هذه المواقف و بعد تفكير تابعت..."حاولي أن تخفضي قليلا من الثمن..الولد لا يشتغل و الأب.. " . فقامت واقفة وهي تقول " سأحاول... مع السلامة ..." وقبل أن تخرج من الباب لكزتني وهي تقول لي بصوت مغري .." سأحضرها إلى هنا..ولننظر هل ستصمد أمامها.."
الأحوال حقيقة تغيرت بعد وصولها ، ولم يعد في الإمكان إدراك شيء كما يستحق و لم يعد ممكنا تقدير الأمور حق قدرها و لا الإحساس بها أو اتخاذ القرار بشأنها، إذن شئت أم أبيت الأيام تجري بسرعة البرق والأفكار متأخرة أو منعدمة والمشاعر لاهثة، على كل حال لقد أحببتها ولا أدري كيف و لماذا.. عادة هذا ما يقوله المحبون.." لكنني مختلف عنهم جميعا "هكذا قلت لها و هي تخبرني بطريقة مؤدبة وبفرنسية مفهومة أن العرب وصوليون و لا يفهمون في العواطف ..".منذ اليوم الأول الذي زرتنا فيه أنت و زكية وأنا أفكر فيك..كما لو كنت أحبك.." ابتسمت دون أن تجيب فأحسست بسعادة غريبة تجتاح كياني وتوقظ هزالي وتشعل في فكري مشاعر جديدة مفزعة وتذكرني ب..ب..لست أدري لكن .."بماذا..؟".هكذا تساءلت وهي تراني منهمكا في إيجاد كلمات بالفرنسية تعبر "عن..عن..لست أدري.." ضحكت ثم التفتت إلى أمي و أخواتي وراقبت همساتهم و ضحكاتهم المكتومة "..باردة كالثلج .."..".ماذا تقول له..؟" "وجهها أصفر ، إنها حتما مريضة بالسل.."، و أخذت تراقبهن و كأنهن قطيع من النعاج ترعى بجانبها و فجأة قامت منتفضة..".سأذهب "..
وانقطع الاتصال بيننا أياما، حاولت لقاءها عن طريق زكية لكنها أبت، و بعدها فهمت أنها غاضبة من أهلي، كنت يومها ناقما جدا على كل شيء.. على الأهل و جهلهم و على الفرنسية و تكبرها الزائد وعلى زكية و استغلالها لعواطفي المتسرعة..فكرت كثيرا و قلت لزكية "هل تفهم العربية؟".. "لا"
و هذا ما كنت أخشاه، فقد بدأ التفكير فيها ينمو كطفل و يحبو و يجري بلا توقف و يغني ويبكي كثيرا..و أنا لا أجد في داخلي شيئا يصلح للحد من ذلك التفكير المؤلم الذي جعلني أشتاق إليها كما لو كنت أحبها..وبعد أسبوع تقريبا زرتها في مقر الجمعية و..و بدون مقدمات خفت لما رأيتها، لأول مرة أخاف هذا الخوف كله من امرأة..اضطرب القلب وارتبك الصوت كثيرا و أنا..أنا.."أنا آسف..لكني لم أعرف ما الذي أغضبك.. !" فردت بتعال واحتقار أستحقه.."أنت لست مختلفا كما تدعي..كان عليك أن ترى كيف كان كلام عائلتك و كرههم واضحا في عيونهم..".."وكأني أحبك..." ضحكت واكتشفت لأول مرة أن الفتاة الأوربية بريئة من كل التهم الباطلة التي تتهمها بالاستهتار والانحلال..."ان لم أتزوجك سأموت حزنا.."..استقبلت كلامي باندهاش وقالت بلهفة " أحضرت النقود إذن..؟"...صمت طويل بدأ...وبدا واضحا أنني تضايقت من قولها..كنا جالسين لحظتها في مقهى وسط المدينة وتضايقت هي من صمتي..."أنا أتكلم عن الحب وأنت..." وازداد اندهاشها وأجابت وهي تقاوم رغبة ظاهرة في الرحيل.."هذا ما اتفقنا عليه ، أو لا؟ لن أعيد عليك رأيي في العرب..." "العرب يا صديقتي يحبون بسرعة" "بل ينسون وعودهم بسرعة..." وانصرفت ولحقت بها ولحقت بنا نظرات الناس ثم اختفت..فوجئت بوجع في معدتي وأنا أسمع عن زواج أمل التي أحسست يوما وكأني أحبها، كم رجوتها وصدتني بدعوى أنها تريد الزواج..لم أكن مستعدا لشيء.. يا لغبائها تظن أن الزواج أفضل من الحب..ما أغباني ظننت أنها ستفضل الحب على الاستقرار..كنت أحلم بها..لكن الفرنسية أيقظتني على حياة أخرى غير مستقرة.. هي كذلك ترغب في الزواج مني..لكن بمقابل..أنا أريدها من كل قلبي و لكنها تريد المقابل.. جميعهن يردن الزواج مني..جميعهن يردن المقابل..الحب لا يريده أحد..حاولت إقناعها أنني رجل مختلف..كم أنا رجل مخادع وواهم أظنني مختلفا.. ! أسرعت نحو زكية.. رجوتها أن تتوسط بيننا " فأبي سيبيع قطعة الأرض التي ورثها عن والده.. و.." فأجابتني بابتسامة خبيثة وقالت.." لقد سافرت.." ، الوجع في المعدة أنهكني ..صرخت، حُملت إلى البيت، أكلت كل أنواع الأعشاب.. لم أزر الطبيب لأنه يطلب المقابل.. لكن.. آه...سافرت !؟ "في الحقيقة زكية كانت تريدك لابنتها قالتها لي منذ البداية.."..لكن لماذا جاءتني بتلك الفرنسية.. !؟".."المال يعمي يا ولدي..."..كلكن مخادعات ، كلنا مخادعون .." ضحكت الأم بغباء..ودخلت أنا في قصة جديدة مع ابنة زكية.. قبّلتها عدة مرات وفكرت فيها ليل نهار وكأني أحبها.. ووعدتني أمها بعمل في الداخل ..لكن ظروف البلد لم تعد تسمح، وطالت القصة بيننا، وتعرفت على صديقتها الحميمة ، سافرنا معا وكنت في كل محطة أعجب بفتاة، لم أكن خائنا بل كنت حالما يبحث عن واقع.. لكن ولا واحدة منهن أيقظت أحلامي.