...هنا يتوقف "سيزيف" /
هنا تنفلت الصخرة من بين يديه، لتندحر إلى سفح الجبل / ما أشقاك يا "سيزيف" / هل ستعاود الكرٌة مرة أخرى، لتحمل الصخرة من جديد، ثم تتحمل مشقة الصعود إلى قمة الجبل، فتهوي بك مرة ثالثة ورابعة وخامسة ...إلى الحضيض؟؟/
ما أشقاك يا "سيزيف" / ماذنبك هذا الذي عوقبت عليه هكذا عقاب؟؟/
كفكف دمعك يا "سيزيف" // هات أحملُ عنك / هات نتقاسم الشقاء والعذاب مثلما تقاسمنا رغيف الخبز والفول المدمًس// قد كنتَ مخلصا لي يا سيزيف..أفلآ أخلص لك ؟/ قد مددت لي يد محبة ووفاء وإعانة..أفلا أمد لك يدي ؟؟/ قد أقرضتني كثيرا كثيرا من وقتك وكلماتك الصادقة وطيبوبة قلبك..أفلا أرد بعضَ بعضِِ ديٌُني؟؟/
يا "سيزيف"/ الصديق صديق الضيق، فاجعلني أكون صديقا//
يا "سيزيف"/ لم أخجل منك حينما كنت في حاجة إليك، أفتخجل مني وأنت على شفير الهلاك ؟/ نعم يا سيزيف.. أنا لست ذا قوة وبأس، ولا يستطيع كاهلي أن يتحمل ثقل هذا الجلمود الفرعوني، كما أن ساقيً النحيلتين لن تقاوم هذا الجبل الشديد الانحدار...
نعم..نعم..أنا أعلم بانك تعلم ذلك...لكن هذا لن يمنعني من تقديم بعض المساعدة..
يا "سيزيف"/ أنت تقول لي :
- يا صديق..أنت حقا حقا أخ ورفيق..لكني لن أسمح بأن يتألم صديقي، ولو كان في ذلك هلاكي..لأنك حقا صديقي فلن تئن بسببي ولو بوخزة إبرة، وليس بجبل وصخرة..لا يا صديقي/ قد تحمل عني وزرا أكبر من هذا وأفظع، لكن عذابي سيضاعف أكثر من ذي قبل، كما أنك لن تحمل عني وزرَ ما جعلتك تزِِر.
أنا يا صديقي، رضيت هذا الجبل ركوبا، وهذه الصخرة حملا..أما أنت، فاذهب...
اذهب بعيدا...وانس صديقك "سيزيف"..وتمتًٌع بحياتك..عشها من أدناها حتى أقصاها،
فحينما تعيش بهجتك وسعادتك، فإنك تعيش حياتي أيضا. ذلك لأن بهجتي وسعادتي تكمن
في غبطتك وفرحك...هيا يا صديق..كفكف دمعك وابحث عن درب آخر للحياة غير هذا الدهليز الحليك الذي استوي فيه سقفه بأرضه وظلامه بنوره..هيا ارحل ولا تلتفت أبدا إلى هذا الوراء الذي لاينتهي إلا بوراء...".
لم أجد بدا من العودة أدراجي، بقلب كسير متحسر على صديق آلت به الحياة إلى نهاية مأساوية شجية، ودمع غزير لن يجديه نفعا ولن يبدل شقاءه سعادة، ثم أخذت الذكريات تتهافت على مخيلتي كوابل من الصواعق وسيل جارف من الآلام...لقد كان "سيزيف" ملكا بن ملك، ظل همه الوحيد هو البحث عن مصلحة مملكته بأية وسيلة شرعية كانت أم غير ذلك، فاستعان بإله النهر "أسوبوس" لتزويد أمته بالماء بعد أن كادت تُهلك بسبب نضبه، وقد استطاع بجبروت قوته أن يهزم إله الموت "ثانتوس"، فكبّله وأسره، فحرر بذلك أهل مملكته والبشرية جمعاء من سلطة الموت وأعتقهم من قبضته..
ولأنه كان متمردا ورابط الجأش، فقد فضح أسرار الآلهة ونزواتها، مما جعلها تلعنه وترسل به إلى غياهب الظلمات، ولكن بذكائه الحاد استطاع أن يعود إلى كوكب الأرض، فزاد ذلك من حنق الآلهة عليه، فكان العقاب أن يشقى ويكد دون طائل ودون نهاية: لأن الآلهة ارتأت أن أفظع عقاب يمكن أن يلحق به هو العمل الشاق دون غاية ولا نتيجة، هو أن يطارد الضباب ويعيش العبث المطلق، هو أن يحمل على ظهره أكبر حجر ويتسلق به الجبل حتى موطئ قمته.. منذ ذلك الحين و"سيزيف"حمًال صخرٍ، صعّاد جبل...
ورغم كل هذه التضحيات النبيلة الإنسانية، فقد تنكر له التاريخ واتهمه بالمكر والخديعة والجشع..لكنه كان بعيدا كل البعد عن هذه الصفات الدنيئة، بل كان مثال الصداقة والوفاء..والإخلاص، كان سيزيف صديق الكل، رؤوف بالكل، محب للكل. لقد عاش كريما متفانيا في خدمة مبدئه الأسمى: مبدأ الخير المطلق، لم ينطق لسانه إلا بما جاش في عمق أعماق شعوره، إلا بما طابق قوله فعله، ولم يمد يده إلا مسالما مصافحا، لم يكن فعله إلا مطابقا لصدق طوية نيته، لم يخدع، لم ينافق، لم يؤذ غيره مهما كانت الظروف..كان بالفعل حقا مجسدا رائعا لمثال الصداقة... ذاك هو"سيزيف" الذي آمنت به، وآمن به كل تائه في دروب الحياة، وباحث عن ركن عفة ونضج ووفاء ...نعم، ووفاء.
تلك أسطورة "سيزيف"، أما أسطورتي أنا (أسطورة من باب التجاوز)، فقد عايشتها وعايشها كل إنسان مقذوف به في هذا العالم، بيد أني بحثت عن "صديق" عله يعوضني
- يعوضنا- عن صديقي القابع في ذاتي وذواتنا، المعذب والمشوه في ذات الوجود، فلم أجد مثل "سيزيف" في زمني هذا وفي الزمن الذي ولى، لا ولا في الزمن الآتي. لقد بحثت عنه في المدينة، في القرية، في المدرسة، في مقهى الحي، في الأزقة الضيقة، في رفوف الكتب، في غابات السرو والصفصاف والأرز، في الساحات والحانات، في منتديات الأنترنيت، وفي كل وجوه الناس، بحثت عن "سيزيف" في كل ركن ركين، وفي كل ثانية من ثواني الساعات والأيام والليالي والسنين... لكن خاب مسعاي ونضب بقية الباقي من الأمل في بئر عزيمتي.
حينئذ، قررت أن أجعل الصداقة تبحث عني، فكفاني بحثا عنها، إلا أن أحدا لم يطرق بابي، ولم يسألني كلمة أو تحية أو محبة...
أما الآن، وقد اكتشفت عبثية البحث عن صداقة تعيش من ذاتها وتدوم لذاتها، تيقنت
بأنني –أننا جميعا - أمام حلين : إما أن ينطوي كل منا على ذاته، أو أن نقوم بانتحار جمعي، طالما أن أحدا منا لن يستطيع الاستغناء عن الآخر، وكذلك لن يستطيع أي منا أن يخلص للصداقة ولروح "سيزيف". لكني أبصرت في الحلين سخافة وهراء وعبثية أكثر من عبثية الصداقة نفسها.
هنا/ قررت أن أعود إلى صديقي "سيزيف"، ليس لأعزيه في شقائه وعقابه، وأنسيه بعض مكابدته وآلامه، بل عدت لأحمل على ظهري جلمودا فرعونيا، وأتسلق قمة الجبل حتى إذا أشرفت على الوصول إلى المنتهى ، تدحرجت الصخرة مرة أخرى وتهاوت إلى أسفل السفح، فأعيد الكرة مرة أخرى، تماما كما يفعل "سيزيف"....
يا "سيزيف"/ أنت تقول لي :
- يا صديق..أنت حقا حقا أخ ورفيق..لكني لن أسمح بأن يتألم صديقي، ولو كان في ذلك هلاكي..لأنك حقا صديقي فلن تئن بسببي ولو بوخزة إبرة، وليس بجبل وصخرة..لا يا صديقي/ قد تحمل عني وزرا أكبر من هذا وأفظع، لكن عذابي سيضاعف أكثر من ذي قبل، كما أنك لن تحمل عني وزرَ ما جعلتك تزِِر.
أنا يا صديقي، رضيت هذا الجبل ركوبا، وهذه الصخرة حملا..أما أنت، فاذهب...
اذهب بعيدا...وانس صديقك "سيزيف"..وتمتًٌع بحياتك..عشها من أدناها حتى أقصاها،
فحينما تعيش بهجتك وسعادتك، فإنك تعيش حياتي أيضا. ذلك لأن بهجتي وسعادتي تكمن
في غبطتك وفرحك...هيا يا صديق..كفكف دمعك وابحث عن درب آخر للحياة غير هذا الدهليز الحليك الذي استوي فيه سقفه بأرضه وظلامه بنوره..هيا ارحل ولا تلتفت أبدا إلى هذا الوراء الذي لاينتهي إلا بوراء...".
لم أجد بدا من العودة أدراجي، بقلب كسير متحسر على صديق آلت به الحياة إلى نهاية مأساوية شجية، ودمع غزير لن يجديه نفعا ولن يبدل شقاءه سعادة، ثم أخذت الذكريات تتهافت على مخيلتي كوابل من الصواعق وسيل جارف من الآلام...لقد كان "سيزيف" ملكا بن ملك، ظل همه الوحيد هو البحث عن مصلحة مملكته بأية وسيلة شرعية كانت أم غير ذلك، فاستعان بإله النهر "أسوبوس" لتزويد أمته بالماء بعد أن كادت تُهلك بسبب نضبه، وقد استطاع بجبروت قوته أن يهزم إله الموت "ثانتوس"، فكبّله وأسره، فحرر بذلك أهل مملكته والبشرية جمعاء من سلطة الموت وأعتقهم من قبضته..
ولأنه كان متمردا ورابط الجأش، فقد فضح أسرار الآلهة ونزواتها، مما جعلها تلعنه وترسل به إلى غياهب الظلمات، ولكن بذكائه الحاد استطاع أن يعود إلى كوكب الأرض، فزاد ذلك من حنق الآلهة عليه، فكان العقاب أن يشقى ويكد دون طائل ودون نهاية: لأن الآلهة ارتأت أن أفظع عقاب يمكن أن يلحق به هو العمل الشاق دون غاية ولا نتيجة، هو أن يطارد الضباب ويعيش العبث المطلق، هو أن يحمل على ظهره أكبر حجر ويتسلق به الجبل حتى موطئ قمته.. منذ ذلك الحين و"سيزيف"حمًال صخرٍ، صعّاد جبل...
ورغم كل هذه التضحيات النبيلة الإنسانية، فقد تنكر له التاريخ واتهمه بالمكر والخديعة والجشع..لكنه كان بعيدا كل البعد عن هذه الصفات الدنيئة، بل كان مثال الصداقة والوفاء..والإخلاص، كان سيزيف صديق الكل، رؤوف بالكل، محب للكل. لقد عاش كريما متفانيا في خدمة مبدئه الأسمى: مبدأ الخير المطلق، لم ينطق لسانه إلا بما جاش في عمق أعماق شعوره، إلا بما طابق قوله فعله، ولم يمد يده إلا مسالما مصافحا، لم يكن فعله إلا مطابقا لصدق طوية نيته، لم يخدع، لم ينافق، لم يؤذ غيره مهما كانت الظروف..كان بالفعل حقا مجسدا رائعا لمثال الصداقة... ذاك هو"سيزيف" الذي آمنت به، وآمن به كل تائه في دروب الحياة، وباحث عن ركن عفة ونضج ووفاء ...نعم، ووفاء.
تلك أسطورة "سيزيف"، أما أسطورتي أنا (أسطورة من باب التجاوز)، فقد عايشتها وعايشها كل إنسان مقذوف به في هذا العالم، بيد أني بحثت عن "صديق" عله يعوضني
- يعوضنا- عن صديقي القابع في ذاتي وذواتنا، المعذب والمشوه في ذات الوجود، فلم أجد مثل "سيزيف" في زمني هذا وفي الزمن الذي ولى، لا ولا في الزمن الآتي. لقد بحثت عنه في المدينة، في القرية، في المدرسة، في مقهى الحي، في الأزقة الضيقة، في رفوف الكتب، في غابات السرو والصفصاف والأرز، في الساحات والحانات، في منتديات الأنترنيت، وفي كل وجوه الناس، بحثت عن "سيزيف" في كل ركن ركين، وفي كل ثانية من ثواني الساعات والأيام والليالي والسنين... لكن خاب مسعاي ونضب بقية الباقي من الأمل في بئر عزيمتي.
حينئذ، قررت أن أجعل الصداقة تبحث عني، فكفاني بحثا عنها، إلا أن أحدا لم يطرق بابي، ولم يسألني كلمة أو تحية أو محبة...
أما الآن، وقد اكتشفت عبثية البحث عن صداقة تعيش من ذاتها وتدوم لذاتها، تيقنت
بأنني –أننا جميعا - أمام حلين : إما أن ينطوي كل منا على ذاته، أو أن نقوم بانتحار جمعي، طالما أن أحدا منا لن يستطيع الاستغناء عن الآخر، وكذلك لن يستطيع أي منا أن يخلص للصداقة ولروح "سيزيف". لكني أبصرت في الحلين سخافة وهراء وعبثية أكثر من عبثية الصداقة نفسها.
هنا/ قررت أن أعود إلى صديقي "سيزيف"، ليس لأعزيه في شقائه وعقابه، وأنسيه بعض مكابدته وآلامه، بل عدت لأحمل على ظهري جلمودا فرعونيا، وأتسلق قمة الجبل حتى إذا أشرفت على الوصول إلى المنتهى ، تدحرجت الصخرة مرة أخرى وتهاوت إلى أسفل السفح، فأعيد الكرة مرة أخرى، تماما كما يفعل "سيزيف"....