والتقينا ..
وضعت يدي في يدها الصامتة المرتعشة ومشينا ..
أوراق الخريف كانت تتساقط في ذلك المساء هنا وهناك وكأنها حيرتنا وارتباكنا يتناثران على الأرض .
شعرت بأصابعها تنتفض كجناحي طير مذبوح . هل تود أن تخلص أناملها من يدي المحمومة ؟
لا . لن أترك لها الفرصة وقد جمعت طوال هذين اليومين كل لطف الدنيا لأغرقها فيه حتى ترضى .
ليست أول مرة تغضب مني وأغضب منها ..
لا. ليست أول مرة .
بدأت العبارات تتزاحم على طرف لساني .كل عبارة ترى نفسها الأجمل والأحلى في أذن الحبيبة . وأنا أضرب الأوراق اليابسة بقدمي وأستجدي صوتي . تبا لهذا السد الذي انتصب في حلقي يمنع تدفق هذا النهر الهادر في أعماقي !
وظللنا نسير في الحديقة ..ويسير معنا الخريف .. ويسير هاربا أمامنا المساء ، وعصافيري تنقر الجدار الرخامي في عناد . وفجأة عمني فرح غامر . رأيت فجوة كبيرة في السد اللعين وانهمرت أنهاري . فتحت فمي لأتكلم حين سمعتها تقول :
- لقد مللت منك !
توقفت مشدوها . نظرت إليها لكني لم أرها . لم أعد أرى شيئا . فراغ هائل ابتلعني ، بينما ظهر وجه أمي حنونا رؤوفا ، تحتضنني تقاسيمه الساحرة .
لماذا يا أمي أرضعتني وتركت هذا الطعم الغريب من حليبك فوق شفتي ؟
لماذا لم تتركيني هناك في رحمك سعيدا في شرنقتي ، أمارس جنوني كما يحلو لي ؟
سمكة سعيدة كنت في رحمك يا أمي .. تصلني أغانيك الرقيقة ، ولمساتك الحانية ، فأشعر بغيبوبة لطيفة ، وأنا أتابع دقات قلبك الموسيقية العذبة . ترى ، هل حين أحببت هذه التي بجانبي الآن كنت أبحث عن رحمك يا أمي ؟
هل كنت أريد العودة بعد أن ابتعدت عنك ، حتى تهت وسط الزحام ؟
- قلت لك لقد مللت منك ، ألا تفهم ؟
تنبهت على صوتها ، مبحوحا ، محروقا ، متكسرا كزجاج نافذة داهمتها عاصفة .
داهمتني العاصفة بدوري ، وتكسر كل الزجاج في داخلي . بدأ النزيف يحرقني ، وأنفاسي تتقطع .
لا . هذه المرأة ليست أمي .
ليست حواء التي هربت من ضلعي ذات خلق فعدوت وراءها مبتهجا جذلا تحت أشجار تفاح عدن .
لا. أمي لم تقل أبدا " مللت منك " . كانت تضربني ..تقرصني .. تصرخ في وجهي .. لكن أبدا لم تقل لي مللت منك !
جمعت ما تبعثر مني ومن عيني ، وحدقت في عينيها .
آه كم أحببت هاتين العينين يا رب !
كنت أرى في بؤبؤ عينيها شرنقتي وأنا في رحم أمي .وحين كانت دموعها تنهمر أحيانا ، كنت أنتشي حد الغياب في هذا النهر المقدس ، متطهرا من كل ذنوبي .
اخبريهم عن ذنوبي التي اقترفتها وأنا في رحمك يا أمي .. أرجوك اخبريهم و اخبريني .. فما عدت الآن أدري .. في خضم هذا البحر من اليتم الذي فغر فاه أمامي !
أشاحت بعينيها عني ونظرت بعيدا لا أدري أين ..أبعدت عني البؤبؤ الحميم الذي كنت أسبح فيه وأستعيد براءتي ..حرمتني من شرنقتي حيث كنت أمارس جنوني ...
ثم تحركت تسير مبتعدة بينما ظلت يدها تبكي في يدي .. تنوح ..تتشبث بآخر أمل احتضنته آناملنا .. انفلتت يدها من يدي وسارت بينما ظلت أناملي تتبعها .. تتشبث بأناملها وأنا أنتفض ..أنظر إليها تبتعد وأنتفض ..أمسك يدي .. أعصر أناملي الممتزجة بأناملها.. أعتصرها ..تحرقني ..تحولت يدي لقطعة من نار .. جحيم يحرقني .. وهي هناك ما تنفك تسير مبتعدة ...
أعدو نحو البستاني الذي كان يقطع أغصانا بمنشاره الكهربائي .. أغافله وأضع يدي تحت المنشار وأصرخ نفس صرختى الأولى وأنا أغادر رحم أمي والدماء تتناثر حولي ...
وقبل أن أغلق عيني فاقد الوعي أراها تعدو نحوي ملتاعة ووراءها طيف أمي يعدو .. ثم أغيب في سكون لذيذ !