صدر هذا الكتاب عن دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ويقع في ثلاثمائة وثمانية وستين صفحة. يتضمن هذا الكتاب التأريخي بعد مقدمات المترجم والمؤلف سبعة أبواب توزعت على عدة فصول، كما ذيل الباحث كتابه بفهرس للأعلام والمحتويات.
يشير المؤلف إلى أن كتابه هذا هو أول محاولة لبيان تاريخ الفلسفة الإسلامية في جملتها، بعد أن وضع Munk كتابه "Melanges de philosophie juive et arabe"، ويعتبر كتابه هذا بدءا جديدا لا إتماما لما سبقه من مؤلفات. (ص 13).
ينبه الباحث إلى أنه اقتصر في بحثه على فلاسفة الإسلام، فلا يذكر ابن جبرول وابن ميمون إلا عرضا، كما أنه أغفل عن ذكر غيرهم من مفكري اليهود وإن كانوا من الناحية الفلسفية ينتمون إلى دائرة الثقافة الإسلامية. (ص 14).
في الباب الأول الذي جعله مدخلا لكتابه أرخ دي بور لمختلف المراحل والأحداث التي عرفتها المنطقة العربية قبل وبعد الإسلام، وهكذا فبلاد العرب القديمة كانت قبائل رحل في الصحراء أكثر ما كان يستهويها الغزو والنهب، أما الذخيرة العقلية فتجلت فيما تتوارثه القبيلة جيلا بعد جيل. (ص 15).
يرى الكاتب أن المقر الأكبر للثقافة العقلية كان في البصرة والكوفة لالتقاء العرب والغرب والنصارى واليهود والمجوس هناك، وبذلك فبواكير العلم العقلي الدنيوي نشأت من مؤثرات نصرانية مصطبغة بالفلسفة اليونانية في دورها الشرقي ومن روافد فارسية. (ص 20).
ارتباطا بذلك، وعندما بلغ النشاط العلمي أعلى ذرى صعوده كانت عظمة الإمبراطورية الإسلامية في دور الهبوط بفعل العصبيات والسخائم التي لم تتلاش قط (ص 21).
يشير دي بور إلى أن ما جاء إلى المسلمين من الحكمة الهندية والفارسية كان أهم من كل ما أثر لهم من العقل السامي. (ص 25). ومن المحتمل أن تكون تعاليم الفرس الدينية بما فيها من أثنينية قد أثرت في الخلافات الكلامية في الإسلام إما تأثيرا مباشرا أو عن طريق المانوية أو الفرق الغنوصية الأخرى. ولكن مذهب الدهرية هو أعظم من ذلك تأثيرا في المفكرين الذين لا يتصل تفكيرهم بالدين. (ص 26). لكن، ولكي يتجه الفكر إلى معرفة حقائق الأشياء الخارجية، لم يكن يحتاج إلى خيال الهند؛ بل إلى عقل اليونان الذي وصلت إبداعاته ومنجزاته إلى العرب من الإسكندرية بعد ترحال عبر مراكز أخرى (الرها، نصيبين، جنديسابور... ) بفضل الترجمات السريانية التي لازمتها مطبات من أبرزها المنحولات ككتاب أتولوجيا المنسوب خطأ إلى أرسطو وغيره.
وبخصوص رأيه الصريح من الفلسفة الإسلامية الذي نلمسفيه نوعا من التناقض يقول: "ظلت الفلسفة الإسلامية على الدوام فلسفة انتخابية عمادها الاقتباس مما ترجم من كتب الإغريق، ومجرى تاريخها أدنى أن يكون فهما وتشربا لمعارف السابقين لا ابتكارا، ولم تتميز تميزا يذكر عن الفلسفة التي سبقتها، لا بافتتاح مشكلات جديدة، ولا هي استقلت بجديد فيما حاولته من معالجة المسائل القديمة، فلا نجد لها في عالم الفكر خطوات جديدة تستحق أن نسجلها لها." (ص 53).
ومع ذلك فشأن الفلسفة الإسلامية، من الوجهة التاريخية، أكبر كثيرا من مجرد الوساطة بين الفلسفة القديمة وبين الفلسفة المسيحية في القرون الوسطى. لأن تاريخ الفلسفة في الإسلام يرينا أول محاولة للتغذي بثمرات الفكر اليوناني تغذيا أبعد مدى وأوسع حرية مما كان عليه الأمر في نشأة علوم العقائد عند النصارى الأولين. (ص 53).
نكاد لا نستطيع أن نقول إن هناك فلسفة إسلامية بالمعنى الحقيقي لهذه العبارة، ولكن كان في الإسلام رجال كثيرون لم يستطيعوا أن يردوا أنفسهم عن التفلسف، وهم وإن اتشحوا برداء اليونان، فإن هذا الرداء لا يخفي ملامحهم الخاصة. (ص 54).
في الباب الثاني يقدم الكاتب نظرة بانورامية عن الفلسفة والعلوم العربية المرتبطة في تطورها بالنص القرآني. ويرى بهذا الصدد أن العلوم العربية ليست من مبتكرات العرب الخالصة، فقد نشأت وتكامل نموها باختلاط العرب بغيرهم من فرس، وكان للفلسفة اليونانية حظ في هذا التأثير. (ص 55).
بحسبه، نما علم الفقه قبل نمو علم العقائد لعلة وجودية تجلت في ضرورة التأويل في نوازل لم يرد بشأنها نص صريح. أما المباحث الأخلاقية في الإسلام فلم تسلم بدورها من أثر النظريات الفلسفية اليونانية، فعند كثير من أهل الفرق والصوفية وأهل السنة وعند المتزندقة مذهب خلقي ينزع إلى الزهد ويصطبغ بآراء فيتاغور وأفلاطون. (ص 64). وبخصوص السياسة، فقد نالت اهتماما أكبر من قبل مفكري الإسلام بسبب الكفاح بين الأحزاب السياسية حول مسألة الإماسة. "غير أن المسائل التي قام حولها النزاع كانت شخصية عملية أكثر مما كانت نظرية، فلا حاجة لمؤرخ الفلسفة أن يتعمق فيها، إذ يكاد لا يخرج منها شيء له قيمة فلسفية". (ص 64).
في هذا الباب أيضا يعقد الباحث فصلا مطولا للحديث عن المذاهب الاعتقادية عند المسلمين(علم الكلام)، وبعد أن يومئ إلى تأثير الثيولوجيا المسيحية في مذاهب المتكلمين( الملكانية واليعقوبية والنسطورية) بحكم الاتصال والتجاور، يؤكد حقيقة مفادها أنه إذا كان الجيل الأول من المتكلمين يعمل في إقامة بناء العقائد، فإن من جاء بعدهم لم يفعل أكثر من بسطها وإقامة الأدلة عليها. (ص 85). ويخص بالذكر هنا آراء المعتزلة في التوحيد والعدل وخلق القرآن ونفي الصفات وإثبات حرية الإنسان وإيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع، دون إغفال ما يرتبط بدقيق الكلام (الفلسفة الطبيعية التي يتبأر الحديث فيها عن الجزء الذي لا يتجزأ كفرع من فكرة الإرادة والعلم الإلهيين).
هذا، وقد اهتبل الباحث الفرصة للإشارة إلى الفرق الكلامية الأخرى لاسيما تلك التي شنعت على أهل الاعتزال وأهمها الأشعرية (مذهب أهل السنة والجماعة) التي نحت منحى توفيقيا(نظرية الكسب مثلا).
عموما يخلص دي بور إلى أن علم الكلام الإسلامي لم يتجاوز البحث في العلاقة بين الله والعالم، أو بين الله والإنسان. أما القول بوجود النفوس الإنسانية على أنها جواهر غير جسمانية وبوجود العقول المفارقة (كما قال بذلك الفلاسفة)، فلم يكن ليتفق مع مذهب المتكلم المدقق في التنزيه، النفس من عالم الأجسام، والحياة والإحساس وحركات النفس كلها أعراض (كاللون...). (ص 108).
في الباب الثالث يتحدث الكاتب عن ممثلي الفلسفة الفيتاغورية في التراث العربي الإسلامي، وبعد أن جعل من أبي بكر الرازي أكبر ممثل للفلسفة الطبيعية لاسيما عندما هاجم التوحيد الإسلامي الذي ينكر أن يكون إلى جانب الله شيء قديم كالنفس أوالمادة الأولى، عقد فصلا لإخوان الصفا الذين جمعوا بين الديني والفلسفي، لذلك اقتبسوا من كل المذاهب والديانات، ويرى هؤلاء أن ظاهر الشريعة إنما يصلح للعامة، فهو دواء للنفوس المريضة الضعيفة، أما العقول القوية فغذاؤها الحكمة العميقة المستمدة من الفلسفة. (ص 137). فلسفتهم ذات طابع روحي غرضها الرقي بالإنسان بل وأن تتشبه النفس بالإله بحسب الطاقة الإنسانية. (ص 137). ولأسباب سياسة غالبا ما أخفى إخوان الصفا آراءهم الانتقادية في رسائلهم (ألبسوها لباسا رمزيا). (ص 137).
يسهب دي بور في الباب الرابع في الحديث عن مشائية الإسلام المتأثرين بالنيوأفلاطونية في المشرق. وكدأب المؤرخين في مجال الفلسفة الإسلامية يستهل كلامه في هذا المقام بالكندي مستعرضا تصوراته وقضاياه في الإلهيات والطبيعيات ونظرية المعرفة والعقل. يرى الكندي أن العالم مخلوق لله، وفعل الله في العالم بوسائط كثيرة، فالأعلى يؤثر فيما دونه، أما المعلول فلا يؤثر في علته التي هي أرقى منه في مرتبة الوجود، وكل ما يقع في الكون يرتبط بعضه ببعض ارتباط علة بمعلول. (ص 153).
تمثل اللحظة الفارابية مرحلة مهمة في تطور فعل التفلسف الإسلامي نظرا لما دبجه أبو نصر في مختلف أصناف القول الحكمي. فلسفة الفارابي في جملتها مذهب روحي منسق أو مذهب عقلي. كل ما هو مادي محسوس فمنشؤه القوة المتخيلة، ويمكن اعتباره تصورا مشوشا. والوجود الحقيقي إنما هو العقل، وإن كان ذا مراتب متفاوتة، والله وحده هو العقل المحض الذي لا تخالطه كثرة، أما العقول التي تفيض عنه منذ الأزل، والتي يفيض بعضها عن بعض ففيها كثرة. وعدد العقول المفارقة يتفق مع مذهب بطليموس، وهو يوازي مراتب الأفلاك السماوية، وكلما ابتعد أحد هذه العقول عن العقل الأول نقص نصيبه من الوجود العقلي. وجوهر الإنسان أي عقله يفيض من عقل الفلك الأدنى. الموجودات سلسلة متدرجة متصلة، والعالم كل منظم، وأجزاؤه مرتبة ترتيبيا بديعا، والشر في الجزئيات إنما هو نتيجة لازمة لكونها جزئية متناهية، ووجوده فيها هو الذي يبرز ما في النظام الكلي من خير. (ص 187).
هذا النظام البديع الذي يتجلى في هذا العالم الفائض عن الله منذ الأزل هل يجوز أن يطرأ فيه الفساد؟ وهل يجوز أن يرجع إلى الله ثانيا؟
هناك رجوع مستمر إلى الله، فالنفس تشتاق إلى ما فوقها؟ وكلما زاد حظها من المعرفة صفا جوهرها وارتقت، ولكن إلى أي درجة يكون ارتقاؤها؟ لم يستطع الفلاسفة ولا الأنبياء الإجابة عن هذا السؤال إجابة واضحة. والفارابي يذهب إلى أن حكمة الفلاسفة، وكذلك حكمة الأنبياء، تفيض عن العقل الفعال، وهو يذكر النبوة بين حين وآخر، وكأنها عنده أعلى مرتبة يبلغها الإنسان في العلم والعمل. ولكن هذا ليس من رأيه الحقيقي أو على الأقل ليس هو النتيجة المنطقية التي تلزم عن فلسفته النظرية؛ وتدعي هذه الفلسفة أن كل أمور النبوة في الرؤيا والكشف والوحي ونحوها تتصل بدائرة التخيل، فهي في الرتبة الوسطى بين الإدراك الحسي وبين المعرفة العقلية الخالصة. على أنه إذا كان الفارابي في آرائه في الأخلاق والسياسة يجعل للدين شأنا كبيرا في التهذيب، فهو يعده من حيث القيمة المطلقة أدنى مرتبة من المعرفة العقلية الخالصة. (ص 187).
رمى علماء الإسلام فليسوفنا بالزندقة، وقد يكون لرأيهم هذا ما يؤيده، فكما أن الفلسفة الطبيعية جرت الناس بسهولة إلى اعتناق المذهب الطبيعي وإلى إنكار الصانع، فكذلك أدى التوحيد بأهل المنطق إلى القول بوحدة الوجود دون أن يفطنوا لذلك. (ص 188).
مع التلاميذ (يحيى بن عدي، أبو سليمان السجستاني) تحولت فلسفته إلى فلسفة لفظية (التدقيق في تحديد المعاني) مع الاعتناء بالنفس الإنسانية من حيث عجائب أفعالها (أهل المنطق بحثوا في جوهرها والعروج بها إلى العالم العقلي الأسمى). (ص 189).
جدير بالإشارة أن الفارابي وبخلاف أرسطو يقول بحدوث العالم، وأن الزمان حادث أما العالم فمبدع من غير شيء. (ص 196). كما خالفه في القول بأن الله هو المدبر لجميع العالم (ينكر أرسطو علم الذات الإلهية بالجزئيات). لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل ولا يفوت عنايته شيء من أجزاء العالم. (ص 196).
النقطة الثانية هي التي أشار إليها Goldziher في مقاله عن الفلسفة الإسلامية من أن الفارابي ( وليس ابن سينا كما ذهب إليه البعض) هو الذي التمس المخرج من المأزق الذي ينشأ عن القول بضرورة وجوب هذا الكون إذا كان معلولا للعلة الأولى الواجبة، وذلك بأن أحدث صاحبنا مقولة جديدة هي "واجب الوجود النسبي". (واجب الوجود بالغير عند فلاسفة الإسلام). ومن الممكن القول بأن الفارابي قد أحدث هذا المفهوم الجديد الذي هو الواسطة الطبيعية بين واجب الوجود وبين الممكن العقلي المحض لكي يعبر عن هذا العالم ويصفه وصفا ينطبق عليه (جانب من الابتكار في الفلسفة الإسلامية أو في إصلاح مذهب أرسطو ومواصلة بنائه). (ص 197).
بعد ابن مسكويه الذي تنحو فلسفته منحى أخلاقيا صرفا، ينبه المؤلف إلى جهود ابن سينا خاصة تلك التي فارق فيها الفارابي، فالشيخ الرئيس يذهب إلى أن المادة لا تصدر عن الله، وبذلك جعل المعقولات في مكان أعلى من كل ما هو مادي، فرفع بهذا من شأن النفس من حيث هي وسيطة بين عالم العقول وعالم الأجسام. (ص 211). بحسبه، لا ينبغي أن نستنبط البرهان على إثبات البارئ مستدلين عليه بشيء من مخلوقاته، بل ينبغي أن نستنبط من إمكان ما هو موجود وما يجوز في العقل وجوده، موجودا أول واجب الوجود، وجوده عين ماهيته. (ص 211). يثبت المتكلم واجب الوجود بالإستناد إلى الحدوث، مستدلا على الخالق بمخلوقاته، بينما ابن سينا يستند إلى الإمكان فيستدل على الواجب بإمكان الممكنات.
في الباب الخامس يتحدث دي بور عن نهاية الفلسفة في المشرق بمجيء الغزالي الذي عمل على حرق الأرم على الفلاسفة بلا هوادة، يذهب الحكماء إلى أن العالم صدر عن الله منذ الأزل، كما أن المعلول مساوق للعلة غير متأخر عنها بالزمان، بينما الغزالي يقول بحدوث العالم عن الله من عدم.
يرى الفلاسفة أن الله هو الموجود الواجب الوجود، وأن ذاته عقل، يصدر عنه ما يعلمه بطريق الفيض من غير أن يريده على الحقيقة، لأن كل إرادة تقتضي أن يسبقها نقص أي حاجة ولابد أن يصحبها تغير في المريد. أما عند الغزالي فلله إرادة قديمة هي إحدى صفاته القديمة، والغزالي في مسائل الأخلاق والإلهيات يسير على مذهب أسلافه في أن العلم متقدم على الإرادة، ولكنه يعتقد أنه إذا كان القول بعلم إلهي لا يتنافى مع وحدة الذات، فالقول بإرادة الله لا يتنافى معها. (ص 283). يقول الفلاسفة إن الله يريد العالم لأنه يعلم أنه الأحسن، والغزالي يقرر خلافا لهم أن الله يعلم العالم لأنه يريده ويعلمه بإرادته إياه. (ص 284).
الله يعنى ويعلم الجزئيات، فعله أزلي محيط لها جميعا. وإذا اعترض معترض بأن القول بالعناية الإلهية يجعل كل موجود جزئي واجبا، أجاب الغزالي بمثل ما أجاب به أوغسطين من أن العلم بالشيء قبل وقوعه لا يفترق عن العلم به بعد وقوعه، أي أن علم الله منزه عن اعتبارات الزمان. (ص 296).
ويستدرك المؤلف عما سبق قوله منبها إلى أن الادعاء بأن الغزالي قضى على الفلسفة في الشرق بشكل نهائي خاطئ، إذ ازداد عدد أساتذة الفلسفة بعده مئات ودخل في الثقافة العامة قدر من الآراء الفلسفية. إن التراجع ظاهرة عامة تنطبق على جميع المعارف بحيث انتهى أمر النظريات الفقهية والكلامية بظهور التصوف وكذلك الفلسفة، فجاء عهد المختصرات والشروح والحواشي. أما عامة المؤمنين فانقادوا لشيوخ الطرق الصوفية. (ص 294).
في المجال الفلسفي قلت عناية الناس بمباحث الطبيعة وما بعدها، وزادت عنايتهم بالأخلاق والسياسة، أما المنطق فهو العلم الوحيد الذي كان يدرسه الجميع في كتاب مدرسي. (ص 295).
ينتقل دي بور في الباب السادس للحديث عن الفلسفة في المغرب إذ كانت الحياة العقلية في أبسط صورها، وكان في الأندلس إلى جانب المسلمين يهود ونصارى، أما أتباع زرادشت أو منكرو الصانع فخلا منهم المغرب. وتكاد انقسامات المشرق وخلافاته تكون غير معروفة في المغرب، ومن الناحية الفقهية، فهناك في المغرب فقط المذهب المالكي بعيدا عن صراعات المعتزلة والباطنية. (ص 289).
تبتدئ الفلسفة المغربية الأندلسية فعليا بابن باجة الذي تكاد تكون آراؤه في الطبيعة وما بعدها ومذهبه في المنطق يتفق مع ما قرره الفارابي، والشيء الوحيد الذي قد يكون له بعض الشأن هو طريقته في بيان مراتب تكامل العقل الإنساني ومبلغ الإنسان في العلم والحياة. (ص 303). بالنسبة لابن الصائغ ولكي يستطيع الفرد أن يعيش كما ينبغي أن يعيش الإنسان أي طبقا للعقل، فيجب عليه أن يعتزل المجتمع أحيانا (تدبير المتوحد)، وهو يطالب الإنسان بأن يتولى تعليم نفسه بنفسه، على أن الإنسان يستطيع بوجه عام أن ينتفع بمحاسن الحياة الاجتماعية دون أن يأخذ مساوئها في ذلك. (ص 307).
فلسفة ابن طفيل نجدها مثبتة في رائعته حي بن يقظان، عزم حي على الذهاب إلى جزيرة سلامان ليكشف للقوم هناك عن الحقيقة فعلمته التجربة أن العامة لا قدرة لها على إدراك الحقيقة مجردة، وأن محمدا أصاب إذ أبان لهم الحقيقة بضرب الأمثال الحسية، ولم يكاشفهم بالنور الكامل، عاد حي إلى الجزيرة بمعية آسال للعبادة. (ص 311).
انتهى ابن طفيل إلى ما انتهى إليه أسلافه في المشرق أي أن العامة يجب أن تقتصر في الدين على الظاهر، إذ لا قدرة لها على المضي فيما وراء ذلك، ولا يستطيع البلوغ إلى شهود الحضرة الإلهية إلا القليلون، فكمال الإنسان المطلق هو في إعراضه عن كل ما هو محسوس وانغماره في العقل الكلي في سكون وخلوة لا يكدرهما شيء. (ص 312).
قصة حي تصور تاريخ الإنسان في تطوره، وتدل نبذ كثيرة على أنه كان يقصد من حي أن يمثل حال الإنسانية لو لم ينزل عليها وحي سماوي، ويتمثل في قصة حي تطور الحكمة الهندية والفارسية واليونانية (ويبقى هذا الرأي راجحا في حاجة إلى إثبات)، فلا يخلو من مغزى قول ابن طفيل إن حيا نشأ في جزيرة سيلان (هذه الجزيرة التي يقال إن جوها صالح لإمكان التولد الطبيعي، وتقول الأساطير إن آدم وهو الإنسان الأول خلق في هذه الجزيرة، وفيها جاء الملك الهندي إلى الرجل الحكيم). وبعد أن كافح حي للخروج من الطور الحيواني الأول يدفعه حياؤه وحبه للبحث عن حقائق الأشياء، فانبعث في نفسه أول شعور ديني أساسه العجب وذلك من اكتشاف النار، وهذا يذكرنا بالديانة الفارسية. أما ما يلي ذلك من نظر عقلي فهو مستمد من الفلسفة اليونانية كما نقلها العرب. (ص 312-315).
بلغت الفلسفة الإسلامية أوجها مع ابن رشد الذي تكلف بشرح أرسطو الذي يعتبره المفكر الأعظم الذي وصل إلى الحق، وكثيرا ما انتقد أسلافه في فهم أرسطو الذي كمل عنده الحق.
على أن ابن رشد لم يتجاوز قط آراء الشراح من أهل المذهب الأفلاطوني الجديد، ولم يتخلص من أخطاء مترجمي العرب والسريان، وكثيرا ما كان يتبع آراء تامسطيوس السطحية دون آراء الاسكندر الأفروديسي الصحيحة أو هو كان يحاول التوفيق بينهما. وركز دي بور هنا على المسائل الخلافية التي جادل فيها أبو الوليد سلفه الغزالي: هل العلم الإلهي يحيط بالجزئيات أو هو يعلم الكليات فقط؟ أجاب ابن رشد بأنه لا يعلم هذه ولا تلك، لأن الذات الإلهية منزهة عن كليهما، والعلم الإلهي يوجد العالم ويحيط به، والله هو المبدأ، وملتقى جميع الأضداد، وهو الكل في أسمى صورة وجوده. ومن البين بداهة أنه بحسب هذا الرأي لا يمكن القول بعناية إلهية بالمعنى المألوف لهذه العبارة. (ص 320). كما يذكر بالمسائل التي خالف فيها الشارح الأكبر المعلم الأول، في نظرية العقل يباين أستاذه (أرسطو) مباينة كبيرة دون أن يفطن لذلك. ورأيه في العقل الهيولاني وهو مستمد من النيوأفلاطونية هو رأي خاص به. إن هذا العقل (الهيولاني) ليس مجرد استعداد أو قوة في النفس الإنسانية، ولا هو مساوق للتخيل المتردد بين الحس والعقل، بل هو شيء فوق طور النفس وفوق طور الشخص. العقل الهيولاني أزلي لا يعتريه الفناء، شأن العقول المفارقة والعقل الفعال. أما استعداد الإنسان أو قوته على المعرفة العقلية فيسميه بالعقل المنفعل. وهذا العقل يوجد بوجود الإنسان ويفنى بفنائه. أما العقل الهيولاني فهو أزلي كالنوع الإنساني. (ص 321/322). ويخلص إلى أن في مذهب ابن رشد ثلاثة آراء إلحادية كبيرة مخالفة لعقائد الديانات الثلاث الكبرى: قوله بقدم العالم المادي والعقول المحركة له، ارتباط حوادث الكون جميعها ارتباط علة بمعلول على وجه ضروري لا يترك مجالا للعناية الإلهية أو للخوارق، وفناء جميع الجزئيات وهو قول يجعل الخلود الضروري غير ممكن. (ص 323).
في الخاتمة التي جعلها بابا يؤكد دي بور أن ابن خلدون لم يقنع بالفلسفة المتوارثة كما وصلت إلى علمه، وكان رأيه أن العالم لا ينصب في قوالبها الثابتة المقررة. ولو أنه كان أكثر تهيؤا للأبحاث النظرية لأنشأ مذهبا لفظيا (Nominalisme) (المعاني العقلية ما هي إلا ألفاظ). (ص 329).
يرى ابن خلدون أن العالم أوسع من أن يستطيع عقلنا الإحاطة به، وأنه يوجد من الكائنات والأشياء أكثر بما لا نهاية له مما نستطيع أن نعلم، وهو يقرر أن الأقيسة المنطقية لا تتفق في الغالب مع طبيعة الأشياء المحسوسة، لأن معرفة هذه لا تتسنى إلا بالمشاهدة، أما ما يزعمه البعض من إمكان الوصول إلى الحقيقة بمجرد استعمال قوانين المنطق فإنه وهم كاذب. إنها نزعة حسية واضحة. (ص 330).
المنطق لا يولد المعرفة بل هو يصف الطريق الذي نسلكه في تفكيرنا ويبين كيف نصل إلى المعرفة. فهو إذن علم مساعد وليس له ذلك الشأن الأساسي الذي يجعله له الفلاسفة. (ص 330).
انبرى فيلسوفنا يؤسس فرعا فلسفيا جديدا يهتم برد الوقائع التاريخية إلى عللها وكشف قوانينها. (ص 331). إن علم العمران يقوم على الوقائع الحاضرة، وما دام أن الوقائع المتناهية لابد أن تنشأ عن ظروف متشابهة، فإن معرفة الحاضر معرفة حية صحيحة هي خير ما يعين في الحكم على الماضي بل وإرسال نظرة إلى المستقبل. (ص 332).
موضوع علم التاريخ أو فلسفته هو الحياة الاجتماعية وكل ما يعرض فيها من حضارة مادية وعقلية (الصنائع). وبالنسبة له، فالجماعة في صور مختلفة وأطوار عدة: البداوة والتنقل والأسرة الحاكمة والدولة المتحضرة المستقرة. شأن الدول والجماعات الكبرى هو شأن البيوت في مدينة. (ص 334). ينتهي تاريخها فيما بين ثلاثة أجيال وستة، فالجيل الأول يبني ويؤسس، والثاني ليحافظ على ما بناه الأول، وربما فعل ذلك الثالث والرابع والخامس، أما الأخير فإنه يهدم، وعلى هذا المدار تجري المدنيات كلها. (ص 334).
بالنسبة ل August Maller فمذهب ابن خلدون ينطبق على تاريخ إسبانيا وغرب إفريقيا وصقلية فيما بين ق 11 و15م، لأنه استفاد من استقراء تاريخ هذه البلاد. (ص 335).
على أن الأوائل لم يوفوا المشكلة التاريخية حقها من الدرس العميق، فقد كتبوا مؤلفات ضخمة جديرة بمكان بين الآثار الفنية، لكنهم لم يحفلوا بالتاريخ كعلم من العلوم يقوم على أساس فلسفي. فمثلا كانوا يعللون عدم بلوغ الإنسانية منذ زمان بعيد درجة أعلى مما بلغته في المدنية مع وجودها منذ الأزل بالاستناد إلى حوادث أولية كالزلازل، كما أن الفلسفة النصرانية تعتبر التاريخ بما فيه من تطور تحققا أو تمهيدا لمملكة الله في الأرض، ثم جاء ابن خلدون فربط بين تطور الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة مع حسن الإدراك لمسائل البحث وتقريرها مؤيدة بالأدلة المقنعة؛ فهو ينظر مثلا في أحوال الجنس والهواء ووجوه الكسب ونحوها ويعرضها مع بيان تأثيرها في التكوين الجسمي والعقلي في الفرد والمجتمع. للمدينة والعمران البشري قوانين ثابتة يسير عليها كل منهما في تطوره. (ص 335).
آمال ابن خلدون في مواصلة التنظير لهذا العلم مع الخلف لم تتحقق، وكما أنه لم يسبق إلى ابتكار موضوعه فكذلك لم يجد من يخلفه في أبحاثه. (ص 335).
وأنهى الباحث كتابه بحركة ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية في اسبانيا مقررا أن تأثير العرب على الفلسفة النصرانية برز في مسألتين:
فمن جهة حصل النصارى على مذهب أرسطو في المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة على صورة أكمل مما كان عندهم من قبل، وقد كان هذا حافزا للعودة إلى أرسطو وترجمته من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة بشكل أفضل مما ترجم عن العربية أو غيرها..
أما أهم أثر للعرب فهو أن النصارى بعد قراءتهم لمؤلفات العرب وخاصة ابن رشد صاروا يرون في نظريات أرسطو رأيا خاصا، فاعتبروها الحقيقة العليا. وقد أدى هذا إلى تصادم بين علوم العقائد وبين الفلسفة.
وحين بدأ تأثير العرب يظهر في القرن 12م اصطبغت علوم العقائد عند النصارى بصيغة أفلاطونية جديدة تمازجها صبغة أوغسطينية. وكان كبار الدومينيكان (توما) فد أخذوا بمذهب أرسطو معدل على صورة تتفق مع الكثير مما عند الفارابي ولا سيما مع ما عند ابن سينا. (ص 345).
أعظم تأثير أحدثه ابن رشد فيما يعرف بالرشدية اللاتينية، وقد لقي مذهبه معارضة شديدة من لدن توما الأكويني وألبرت الكبير، كما تابعه في نتائجه المنطقية سيجر البرابنتي. (ص 343).