" إن أمر الحسن أدق وأرق من أن يدركه كل من أبصره"1[1]
لقد اهتم الفنانون في الإسلام بمختلف المهن والحرف وأتقنوا التصوير والنحت والرسم والتزويق والهندسة المعمارية والعزف والغناء ولكنهم برعوا في الشعر والخطابة وفن القول والخط والزخرفة والمنمنمات والفسيفساء وتذوقوا الطبيعة واعتبروا آيات الله في مخلوقاته وما تضمنته من تصميم بديع وجمال خلاب. لقد غادر الفن الإسلامي مساحة الخصوصية العربية وعانق رحاب الكونية وذلك حينما تم الاختلاط مع الثقافات الوافدة من الهنود والإغريق والرومان والفرس وعكس نظرات المسلم المنفتحة على العالم2[2].
كما أظهر الفنانون عناية خاصة بالطبيعة وحاولوا الاعتبار من مظاهرها الجميلة وما تكنزه من عجيب ومدهش وأسرار وتعاملوا مع عوالم الجماد والنبات والحيوان بوصفها ظاهر إعجاز وقرائن عظمة الله.
لقد ابتعد الفنانون عن فن الصورة وفن النحت وذلك لتفادي شبه مشاركة الله في صفة المصور وتحاشيا لاستعادة مظاهر الوثنية وعبادة الأصنام التي كانت سائدة في الجاهلية وتم التضييق على الشعراء والمغنين صيانة للأخلاق الحميدة وتحصينا للشباب من الفسوق ولكنهم اعتنوا في المقابل بالخط والعمارة والزخرفة للتعبير عن أفكارهم وتخطى الرسام مضمون الخط العربي وسافر به نقشا وحفرا ورميا وتخييطا وبني به أشكالا جميلة أنيقة وعناصر زخرفية طيعة واشتغل على الكتابة في الجداريات والمصاحف والقصور.
اللافت للنظر أن أبا عثمان الجاحظ -على سبيل الذكر ولا الحصر- قد أفرد جانبا هاما من رسائله للتطرق إلى الجمال والفن واعتنى بالخصوص بالجمال وركز على مفهوم الحسن وعلى البديع في البلاغة والخطابة والشعر. لقد وضع الجاحظ الأصول الفنية لنظريته المالية في كتابي "الحيوان" و"البيان والتبيين" وأشار الى أن إدراك الجمال لا يتوقف على الحواس بل يقتضي تدبير العقل والثقافة والرياضة والتجربة والمران وحدد معايير الجمال بالاعتدال في المقدار والتمام في الأعضاء والتوازن بين التكوين والتناسب في الجسم ورأى أن المقياس هو الجسم المتوسط المعتدل التكوين فما اقترب منه عد جميلا وما ابتعد عنه عد قبيحا.
الأصول الكونية للنظرة الجمالية استنبطها الجاحظ من نظرته الكلامية وهي:
- يمكن استخراج مقاييس محددة للجمال من الأشياء الجميلة ذاتها والحكم بها على مواضيع أخرى.
- الجمال موضوعي أي قائم في الأشياء وليس أمرا ذاتيا نضيفه عليها من عندنا.
- الجمال مادي جسمي ( تأثر بنظرية الطبائع) ولا دخل للجوانب الروحية والأخلاقية.
- العقل والجسم يدخلان معا في تقويم الأشياء من الناحية الجمالية ( نظرية التحسين والتقبيح).
- يقوم الجمال على الاعتدال والتوسط ( خير الأمور أوسطها) والتناسب ولا إفراط ولا تفريط.
على هذا النحو تكون البلاغة هي الفصاحة والوضوح وذلك بتجنب السوقي والغريب والإيجاز والاقتصاد.
وآلة الخطابة هي جمال الهيئة وطراوة اللسان وجهارة الصوت وحدة النبرات وإيصال الكلام إلى المسامع.
أما الشعر فهو الكلام الموزون المقفى وصناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير واختراع الخيال. وبناء على ذلك كانت وظائف الشعر هي المدح والهجاء والتثقيف والدعاية وكذلك إيقاظ الشعور بالجمال لدى البشر لوقعه الساحر في النفوس. وما قيل :" أن في البيان لسحرًا"3[3].
في سياق ثان نجد مؤلف الحسن بن أحمد بن علي الكاتب، في كمال أدب الغناء ،الذي عاش في القرن الحادي عشر ميلادي وقد اهتم بالموسيقى وقسم الألحان إلى ثلاثة أصناف وهي المقوية والملينة والمعدلة وقسمها إلى صنف أول يلحق منه اللذة بالحواس وصنف ثان يفيد النفس من التخيلات والانفعالات. وبعد ذلك تمكن من استخراج أربع أحوال يذكر فيها المنفعة من الفن وهي التالية:
- إفادة السامع باللذة الحسية (الموسيقى)
- إيقاع التخيلات في النفس ( الشعر)
- اكساب النفس الانفعالات (التراجيديا)
- كسب جودة الفهم ( الأقاويل التي قرنت حروفها بنغم الألحان)4[4].
غير أن عبد الرحمان ابن خلدون يعتبر الولع بالجمال فطرة جبل عليها الإنسان ويجعل من تمييز الحسن عن القبح هو الغاية الشريفة للفن بقوله:" لما كان انسب الأشياء وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني كان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي اقرب إلى فطرته ، فليلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة"5[5].
في العموم لقد كان الفن الإسلامي خير معبر عن الهوية الحضارية الدينية ولقد حاول الجمع بين الفرد والمجموعة وتحقيق الاستقلالية عن أشكال المحاكاة وبالتالي كان طموحه إبداع شكل تجريدي يعكس فيه تمثلاته الجمالية والثقافية للعالم المحيط به ويعبر كونية الرؤية للوجود لدى المسلم وتصوره للحق والواقع.
لكن ماهي عيوب نظرية المحاكاة الموروثة عن الإغريق؟ ولماذا تحولت إلى عائق ابستيمولوجي أمام تقدم الفنون؟وكيف تمكن الفن من تحيق استقلاليته عن الفلسفة في العصور الحديثة؟
الهوامش والاحالات:
[1] أبو عثمان الجاحظ، رسالة القيان، ضمن آثار الجاحظ ، تحقيق عمر أبو النصر، مطبعة النجوى، بيروت، 1969، ص.81.
[2] Graber Oleg, Penser l’art islamique, une esthétique de l’ornement, éditions Albin Michel S.A, Paris,1996.
[3] علي أبو ملحم، في الجماليات ، نحو رؤية جديدة لفلسفة الفن ، مجد ، بيروت، طبعة 1990،صص.32-38.
[4] الحسن بن أحمد بن علي الكاتب، في كمال أدب الغناء ، تحقيق غطاس عبد الملك خشبة وراجعه محمود احمد الحفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975
[5] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، فصل في صناغة الغناء، دار الجيل، بيروت، 2005، ص364.
المصادر والمراجع:
Graber Oleg, Penser l’art islamique, une esthétique de l’ornement, éditions Albin Michel S.A, Paris,1996.
أبو عثمان الجاحظ، رسالة القيان، ضمن آثار الجاحظ ، تحقيق عمر أبو النصر، مطبعة النجوى، بيروت، 1969،
عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، فصل في صناغة الغناء، دار الجيل، بيروت، 2005،
الحسن بن أحمد بن علي الكاتب، في كمال أدب الغناء ، تحقيق غطاس عبد الملك خشبة وراجعه محمود أحمد الحفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975.
علي أبو ملحم، في الجماليات ، نحو رؤية جديدة لفلسفة الفن ، مجد ، بيروت، طبعة 1990،
كاتب فلسفي
[1] أبو عثمان الجاحظ، رسالة القيان، ضمن آثار الجاحظ ، تحقيق عمر أبو النصر، مطبعة النجوى، بيروت، 1969، ص.81.
[2] Graber Oleg, Penser l’art islamique, une esthétique de l’ornement, éditions Albin Michel S.A, Paris,1996.
[3] علي أبو ملحم، في الجماليات ، نحو رؤية جديدة لفلسفة الفن ، مجد ، بيروت، طبعة 1990،صص.32-38.
[4] الحسن بن أحمد بن علي الكاتب، في كمال أدب الغناء ، تحقيق غطاس عبد الملك خشبة وراجعه محمود احمد الحفني، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975
[5] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، فصل في صناغة الغناء، دار الجيل، بيروت، 2005، ص364.