قصدنا في هذا المقال أن نكشف عن الأصداء المتعددة والمتباينة التي خلفتها الطرق التدليلية الأرسطية عند مفكري الإسلام، فقد توزعت بين متبع لها كابن رشد الذي رفع من شأن البرهان حاذيا أرسطو حذو النعل بالنعل، وبين فلاسفة آخرين حافظوا على استقلاليتهم تجاهه، وكانوا أكثر أصالة واحتكاما إلى عقولهم، "فاعتمدوا طرقا تدليلية لا تنقطع عن خصوصياتهم ومرجعيتهم دون وصاية أرسطو"([1])(*).
يمكن القول، دون خشية السقوط في المبالغة، بأن الموضوع الأساسي للفلسفة هو العقل، ففي محاولتها تفسير العالم في شموليته تستعين بالمبادئ التي يتعين اكتشافها في العقل نفسه، ومن أبرزها مبادئ المنطق وقواعده، إذ "ليس في العلوم ما بلغ مبلغه في ضبط موضوعه ولا في تقنين منهجه"([2]).
وقد خضع علم المنطق في العالم الإسلامي لما خضعت له علوم الأوائل بشكل عام عندما ترجمت إلى العربية بمبادرة من بعض رجال السلطة السياسية بذريعة استحالة الجمع بين المأصول والمنقول، يقول السيوطي: "فمن أراد الجمع بين علم الأنبياء وعلم الفلاسفة بذكائه فلابد أن يخالف هؤلاء وهؤلاء، ومن كف ومشى خلف ما جاء به الرسل من إطلاق ما أطلقوا، ولم يتحذلق ولا عمق، فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا، فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه"([3]).
لا مراء في أن المشتغلين بالمنطق في ظل التراث العربي الإسلامي كانوا كثرة في عدد من الأقطار، ولم يكونوا منتسبين إلى عقيدة واحدة أو علم واحد، واتسم إنتاجهم بتعدد ألوانه وتنوع أحجامه بين الابتكار والترجمة والتلخيص والشرح، بيد أن هذا الزخم من الإنتاج المنطقي لا يدل على الإقبال العفوي على المنقول المنطقي ولا على الاعتراف الطوعي بمبادئه ومسائله، بقدر ما ينم عن الشعور بالحاجة إلى تقريبه من مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي(*)، لاسيما وأن هذا العلم لقي معارضة شديدة، كما أن المشتغلين به تعرضوا للمضايقة بأشكال متفاوتة في الحدة ومتباينة في الأسلوب (التجريح والاتهام والإيقاع والمتابعة والمعاقبة)([4])، ولا يبعد أن يكون الباعث على اتفاق أهل الممارسة التراثية على كلمة سواء إزاء المنقول المنطقي صبغته التجريدية والتي لا تتقاطع مع التوجه العملي الذي تتسم به أصول المجال التداولي العربي الإسلامي([5]).
يبقى أن النتيجة التي خلص إليها طه عبد الرحمان عامة تجعل النخبة المثقفة في التراث العربي الإسلامي لا تختلف في النقير ولا في القطمير حيال رفض منطق أرسطو، مما يدفعنا إلى تعقب هذه المواقف وسبرها بمسبار يراعي الوعي بالفروقات بينها، فالحكمة تعلمنا أن الصواب يولد من اختلاف العقول. فلنقل في هذه الأحكام واحدا واحدا مع مراعاة تجنب الإطناب الممل والإيجاز المخل، فقد قيل: إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا، وإن كان الإكثار واجبا كان التقصير عجزا.
أ- موقف الشراح والملخصين الإسلاميين من المنطق الأرسطي:
تفاوتت وشائج الصلة بأرسطو من فيلسوف لآخر في الإسلام منهجا ومضمونا، وقد لا يكون ذلك عوارا أو منقصة ما دام أن جماع الحكمة قد قيل، فإذا كان الفارابي وابن رشد تعاملا مع نصوص المعلم الأول على نحو يقرب من تعامل الفقيه والمتكلم من النص القرآني، فتم النظر إليها نظرة سلفية غير نقدية، فإن ابن سينا مثلا قرأ الفلسفة اليونانية مخالفا إياها في بعض التصورات رافضا للتقليد بوصفه يمثل سلطة معرفية([6])، والأنكى من ذلك أن أبا الوليد وخلافا لابن طفيل -الذي وصل الفلسفة الأندلسية بأودية البيان العربي عندما وظف الجانب التخييلي في الفلسفة من خلال رائعته "حي بن يقظان"([7])- قد قضى نهائيا على هذا الأسلوب التخييلي حينما عاد إلى طريق الاستنتاج المنطقي حاذيا حذو أرسطو.
من المعلوم أن المنطق الأرسطي دخل إلى العالم الإسلامي ممتزجا بعناصر مشائية ورواقية وأفلاطونية محدثة، وبناء على ذلك انقسم الشراح الإسلاميون إلى صنفين: الصنف الأول (اللهم إلا ابن رشد وأبو البركات البغدادي) لم ير في هذا التراث أي تناقض حتى ولو بلغ إلى علمه أن بعضا منه ليس لأرسطو([8]). صنف ثان نهل من التجديدات الرواقية فيما اختلفت فيه مع الأرسطية، ولكنه لم يذكر أن هذه الآراء تعارض آراء أرسطو، كما أنه لم ينسبها إلى أصحابها الأصليين، ولم يحاول أن يوفق بينها وبين الأرسطية نفسها([9]).
ولا أدل على هذا التباين من اختلاف الشراح الإسلاميين في مسائل المنطق العامة كالبحث في طبيعة المنطق، هل هو جزء من الفلسفة أم هو مقدمة سابقة عليها ؟ فأرسطو لم يحسم في هذه المسألة، لكن الشراح من بعده انتبهوا إلى أنه ليس ثمة مكان للمنطق في نمذجته للعلوم النظرية، ومن هنا خلصوا إلى أن المنطق ليس جزءا من الفلسفة ولكن توطئة فقط لها. أما الرواقية فقد جعلت المنطق جزءا من الحكمة المتضمنة للعلم الطبيعي والجدل (المنطق) والأخلاق. وطبقا للمنهج التوفيقي La Méthode Syncrétiste الذي ارتضاه فلاسفة الإسلام سبيلا للدفاع عن وحدة الحقيقة الفلسفية، نلفي الفارابي يموضعه كجزء من الفلسفة في كتابه "الجمع بين رأيي الحكيمين"، لكنه في مؤلفه "التنبيه على سبيل السعادة" يعود ليؤكد على أن المنطق آلة للفلسفة وصناعة يقتدر بها على التفكير الصائب وتجنب التفكير الخاطئ([10]). هذا علاوة على قضايا أخرى اختلف بشأنها متفلسفتنا بحسب التطور الفكري والتبيئة التي شملت فلسفة الإغريق في عقر الدار (الاختلاف بشأن المقولات هل هي منطقية أم ميتافيزيقية ؟).
بإجمال نقول إن الارتباط بالفلسفة اليونانية بدقها وجلها، مسألة لا ارتياب فيها "بحيث إن مختلف المحاولات الفلسفية عبارة عن استعادة للأصل اليوناني على نحو من الأنحاء"([11]).
ب- موقف أصوليي الفقه من منطق أرسطو:
علم أصول الفقه هو منهج البحث عند الفقيه أو هو منطق مسائله، فمكانته بالنسبة للفقه كمكانة المنطق بالنسبة للفلسفة. بدأ المسلمون يذمون المنطق اليوناني في أواخر ق2هـ، وقد كان للشافعي في ذلك القدح المعلى، رغم ما يبدو على رسالته من امتياح من أرسطو في جوانب تنظيمها وتسلسلها. ويبرر معارضته لمنطق اليونان بانبناء الأخير على اللغة اليونانية البعيدة جدا عن لسان العرب([12])، أضف إلى ذلك أن تطبيق منطق اليونان على المسائل الإسلامية أدى إلى نشأة البدع مثل خلق القرآن وقدم العالم... بإيجاز، إن تطبيق المنطق اليوناني على الشريعة الإسلامية يؤدي إلى الخروج عن هذه الأخيرة بالسقوط في الابتداع المؤدي حتما إلى الفتنة، لذلك حرم الشافعي النظر في المنطق وعلم الكلام قائلا "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"([13]). وقد جعلت هذه الفتوى الشافعية الفلاسفة لا يقتدرون حتى على استخدام كلمة منطق في مصنفاتهم، فابن سينا يستعمل مصطلح "العلم الآلي"، كما توسل الغزالي بـ "معيار العلم" و"محك النظر" واستخدم السهروردي "ضوابط الفكر".
ج- موقف أصوليي الدين من الأورغانون:
وضع طائفة المتكلمة في خانة واحدة إزاء علم الاستدلال الأرسطي فرية ما فيها مرية ومجرد دعوى مرسلة وتفلجات دون دليل أو برهان. ودونك بيان ذلك. يشكل الغزالي نقطة انعطاف كبرى في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فقبله وضع النظار المسلمون مناهج تناسب مباحثهم العقدية، ومقدمات عقلية تتوقف عليها الأدلة والأنظار، والحجج على ذلك كثيرة حسبنا منها ما قرره ابن رشد من أنه كانت للمتكلمين طرقا جدلية خطابية، كما أن الغزالي هاجمها لانطلاقها من المشهورات لا البديهيات كما هو الحال مع منطق المعلم الأول (البرهان). إن موقف المتناظران من منطق أرسطو شكل همزة وصل بينهما بدل أن يشكل همزة قطع على غرار التصورات الأخرى التي تضادا فيها (ولا يخرج موقفهما معا من نظرية الفيض عن هذا التحديد، فهي غاية في التنميق اللغوي الذي أخفى معدنها الميتولوجي) ([14]).
إن المتأمل لبعض من مفاصل متن حجة الإسلام يخرج بقناعة مفادها أن الرجل أقر بضرورة إدماج المنطق على مقتضاه الصوري في العلوم الإسلامية كعلم الأصول بنوعيه، وحتى بعد تجربته الصوفية التي كان من المفروض أن تصرفه عن هذا الاعتقاد (بعد طول تطواف في التفلسف وشرائط الحد والبرهان والكلام)، فإنه ما انفك ينادي ببراءة المنطق من كل شبهة عقدية ويدعو إلى تمام التمسك به "فالمنطقيات لا يتعلق شيء منها بالدين نفيا وإثباتا"([15])، كما أنه "من لا يحيط بالمنطق فلا ثقة بعلومه أصلا"([16])، وغير بعيد عن ذلك يذهب الغزالي إلى أن فائدة المنطق اقتناص العلم، وفائدة العلم حيازة السعادة الأبدية، فإذا صح رجوع السعادة الأبدية إلى كمال النفس بالتزكية والتحلية، صار المنطق لا محالة عظيم الفائدة([17])، وفي تهافته الذي أنتج فيه عجز العقل لاسيما في الإلهيات (حسب عبارة الباحث المغربي أحمد العلمي حمدان)([18])، يقرر أن الفلاسفة لو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين نقية عن التخمين كعلومهم الحسابية لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية([19]).
تأسيسا على ما تقدم، إن المنطق لا ينبغي أن يختلف فيه المسلمون عن أهل يونان إلا في الاصطلاحات، ولا مشاحة في الألفاظ.
إن غاية المرام من رفض متكلمي الإسلام للمنظومة المنطقية الأرسطية تكمن في عدم قبولهم لميتافيزيقا أرسطو المخالفة لإلهياتهم، فكان من البديهي ألا يقبلوا مناهج البحث التي استندت عليها هذه الميتافيزيقا([20]).
د- موقف الفقهاء من المنطق الأرسطي:
يمكن تصنيف الرافضين للمنطق من الفقهاء إلى فئتين: فئة تنتقده من الخارج وذلك بذم أهله أو بإصدار فتاوى لتحريمه على نحو ما نلفي مع ابن الصلاح "وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر"([21]) (*). وعلى النقيض من هذه الفتوى النارية ضد كل مشتغل بالمنطق والفلسفة، ينتصب الفقيه الأندلسي ابن حزم دليلا على العقلانية التنويرية في الغرب الإسلامي، فالرجل غرد خارج سرب الفقهاء عندما دافع عن مشروعية الفلسفة معتبرا إياها تحث على الفضائل والأخلاق الحميدة وحسن السلوك([22]). وليس يخفى على من شدا طرفا بدقائق الفكر العربي الإسلامي ما لهذا الموقف الإيجابي من مغامرة دونها خرط القتد كما يقول أهل اللغة.
وفئة تنتقده من الداخل مستعينة بآراء الشكاك والسوفسطائيين([23])، فبمجيء ابن تيمية لم يكتف الأخير بالقول إن المنطق يخالف صحيح المنقول، بل اعتبره أيضا مخالفا لصريح المعقول، فضدا على التوجه الكلامي الاعتزالي والأشعري يذهب الحنابلة (ابن تيمية خصوصا) إلى أن الدلائل العقلية على المطالب الإلهية جاء بها القرآن بما فيها من الحق، وما هو أكمل منها وأبلغ منها على أحسن وجه، فلا احتياج إلى ما يسميه المتكلمون بالدلائل العقلية، فالأصل في المعرفة العقدية هو المدارك الشرعية([24]) (إلى جانب رفضه للفلسفة بحكم اختلاف الفلاسفة في الإلهيات، رفض ابن يتمية علم الكلام والمنطق، لأن الأخير بنظره يؤدي إلى الشك والحيرة، هذا بالإضافة إلى مهاجمته التأويل لأنه المسؤول عن دق إسفين الخلاف بين المسلمين، مناصبة العداء لكل تلك المعارف مؤطر بفكرة عامة عنده: النقل لا يفتقر إلى أية عقلنة) ([25]).
وعموما فقد ذكر ابن تيمية العلتين اللتين ذكرهما الأصوليون (أصوليو الفقه والدين) وتوسع فيهما ثم أضاف إليهما الأسباب التالية:
- المنطق الأرسطي يقيد الفطرة الإنسانية بقوانين صناعية متكلفة في الحد والاستدلال(*) : أنكر ابن تيمية وجود الكليات بالخارج (نزعة اسمية)، ومن تم وجود الجنس والفصل كعنصري الحد، إن الغاية من الحد عنده هي التمييز بين المحدود وغيره (حد لفظي فقط)([26])، وفي مجال القياس أنكر الحاجة إلى الحد الأوسط، ولم ير ضرورة للاقتصار على مقدمتين في القياس إذ ينبغي إطلاق الفكر على سجيته وعدم تقييده بقوانين صناعية([27]) (...).
- اتجاه الإسلام إلى الوفاء بالحاجة الإنسانية المتغيرة بينما المنطق الأرسطي يعتبر قوانينه ثابتة وكلية.
- عدم اشتغال الصحابة والأئمة بهذا المنطق مع توصلهم إلى كل نواحي العلم([28]).
نلفت النظر إلى أن الفقهاء بعد ابن تيمية ساروا في نفس الاتجاه كابن القيم والسيوطي، بينما اقتفى آخرون (السبكي) أثر ابن الصلاح في حرق الأرم على الفلسفة والمنطق دون مواربة أو تلوين.
ولعل النماذج السابقة المفتلذة على سبيل التمثيل والتدليل، قد قربتنا من حقيقة المواقف الإسلامية من منطق أرسطو. بيد أنه لا مندوحة من استحضار الجانب الإنشائي في هذا النقد، وهو المنهج الاستقرائي المعبر عن روح الإسلام الذي زاوج بين النظر والعمل في مقابل المنطق اليوناني المعبر عن روح الحضارة الهيلينية المنتقصة مما هو مادي حسي، وبواسطة هذا المنهج نفهم سر أخذ بعض مفكري الإسلام المتأخرين لبعض العناصر الرواقية ذات المنزع الإسمي الحسي والبعيدة عن رتابة وقتامة الأنوية الميتافيزقية([29])، وقد لا نجانب الصواب إن قلنا بأن مؤاخذات المناطقة المحدثين على منطق أرسطو تكاد تتمفصل مع ما ذهب إليه فطاحلة الفكر العربي الإسلامي في أوج ازدهاره.
مما لا ريب فيه أن العلم الآلي الأرسطي ظل شامخا لعصور طويلة باعتباره تقنية لتسديد الذهن نحو الصواب وتجنب الفكر من التناقض مع ذاته(*). وإذا كانت الهفوات التي سجلها فلاسفة القرن 17 (ديكارت Descartes، بيكون Bacon...) على هذا المنطق تمتاز بالتعدد (منطق قياسي شكلي، عقيم فيه مصادرة على المطلوب، ميتافيزيقي، لغوي كيفي أي قول شارح لا منهج كاشف...) فإنها تنتظم وفق براديكمparadigme) ) الحداثة الذي أعلى من شأن الذات كأساس لليقين والتنظير في شتى المجالات (معرفة، سياسة، أخلاق، قانون...). إن انهيار الخطاب الأرسطي الطبيعي بظهور النظرية الكوبرنيكية (حل مشكلات فلكية بتحريك الأرض)، استتبع انهيار ميتافيزيقاه لأنها مؤسسة عليه ضمن سيرورة ارتقائية (بعد النجوم الثابتة هنالك المحرك الذي لا يتحرك)، وعليه فتجاوز الحداثيين في أوروبا لأرسطو في تصوراته العلمية كان لأسباب تجريبية عينية، لأن الميتافيزيقا لا تهدم الميتافيزيقا، حيث تم تصويب اعوجاجات العقل عبر تقويم المنهج لغاية السيطرة على الطبيعة انطلاقا من ركيزتين: فعالية الرياضيات (الطبيعة كتاب كبير مكتوب بلغة رياضية) وخصوبة التجربة الفيزيائية (المنهج الاستقرائي). ولا غرابة هنا أن يخضع المنطق لمنظور رياضي صرف (النزعة الترييضية) عرف انقلابا سببه الرياضيات نفسها فيما عرف بأزمة الأسس في ق19 المرتبطة بالتساؤل عن أساس اليقين الرياضي، (جبريا: نقد نظرية المجموعات بانطوائها على مفارقات، هندسيا: إبراز حدود الهندسة الإقليدية ببناء هندسات تقوم على مسلمات مخالفة لنسق أقليدس)، وقد امتدت تأثيرات هذه الأزمة إلى مجال المنطق على يد مجموعة من الباحثين على رأسهم المنطقي الكبير كورت غودل Kurt Gödel من خلال مبرهنتي عدم التمام وعدم البت اللتين أبرزتا حدود الأنساق الصورية(*).
طبيعي أن تخلف تلك الأزمة الفكرية مراجعة شاملة للمفهوم الكلاسيكي للمنطق المتوارث عن أرسطو بحيث ظهرت أنساق منطقية متعددة تستجيب للتحولات العلمية الجديدة (منطق الموجهات، منطق الزمان، منطق الحوار...) "وهكذا ظلت الأنساق المنطقية تتناسل وفق ما يطرحه الواقع من ظواهر وقضايا جديدة، بحيث صار المنطق تابعا للواقع، بعدما كان الواقع تابعا للمنطق في مفهومه الكلاسيكي الأحادي المغلق"([30]).
وراء كل حل حقيقي مشكلة حقيقية، ووراء كل مشكلة حقيقية مقومات نظرية وتحديدات تاريخية واقعية. هذه القاعدة النظرية تمكننا من إدراك سر إحياء الخطابة والجدل في الفكر الفلسفي اللساني المعاصر تحت مسمى الحجاج(*)، إذ انصرفت أبحاث إلى دراسة الأجناس اللاصورية واللابرهانية من تراث أرسطو لاسيما كتب الجدل والخطابة والسفسطة والشعر، بعدما كان أرسطو (التحليلي البرهاني) يحجب عن الباحثين كل أثر لأرسطو الجدلي الاحتمالي([31]). وقد كان هذا الإحياء ذا صلة بانتعاش النظم السياسية الديمقراطية الداعية إلى الانفتاح ونبذ العنف والإقماع (عادة ما يربط الدارسون عودة الخطابة والجدل بحركة ما بعد الحداثة) والخروج من بؤس الإطلاقية والضرورة نحو آفاق الممكن والاشتباهي([32])، أي مجال القيم بما هو مجال غامض ومائع ينأى عن التقويم الكمي بافتقاره إلى المعايير الموضوعية كما هو الحال بالنسبة للعلوم الدقيقة(**).
صفوة القول: إن المنطق الأرسطي في شقه الجدلي الخطابي عاد للظهور بقوة، بعدما كرست العقلانية الديكارتيكة والتجريبية الإنجليزية (بيكونBacon ، هيومD.Hume ) "أن كل ما كان اشتباهيا يوشك أن يكون كاذبا([33])". ومعلوم أن الخطابة والجدل لا يمكن تصورهما إلا ضمن حقل المعرفة الاحتمالية، يقول بيرلمان: "لا ندخل في المشاورة إذا تعلق الأمر بالقضايا الضرورية، كما أننا لا نحاجج ضد البداهة"([34]).
[1] - محمد أيت حمو، "الجدل واستيلاد اليقين، قراءة في الكافية في الجدل للجويني"، مجلة المنهاج، عدد 59، السنة 15، خريف 1431هـ/2010م ، ص: 174.
* - نفس الفكرة يؤكدها علي سامي النشار، فبحسبه، انقسم مفكرو الإسلام إزاء منطق أرسطو إلى قسمين: فلاسفة الإسلام قبلوه ولخصوه واعتبروه قانون الفكر الذي لا يتزعزع، فريق من الأصوليين والمتكلمين رفضوه ومالوا إلى الرواقية بل وشيدوا منطقا جديدا بالكلية في جوهره. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، ط1 لدار السلام، 2008م، ص: 17.
[2] - طه عبد الرحمان، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 1، 1998، ص: 85.
[3] - جلال الدين السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تحقيق وتعليق علي سامي النشار، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ت. ص: 19.
* - حسب المفكر المغربي طه عبد الرحمان، تقريب العلوم المنقولة إلى مجال التداول العربي الإسلامي يوجب تخريجها على مقتضيات أصوله الثلاثة: اللغة والعقيدة والمعرفة فتأخذ بالاختصار في العبارة مكان التطويل، وتشغيل المعتقد بدل تعطيله، وبتهوين الفكرة بدل تهويلها. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، الطبعة 3، 2007، ص: 423. وبالنسبة إليه ليس هناك أفضل من اشتغل بالتقريب اللغوي الاختصاري من ابن حزم في كتابه "التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية"، كما أن أفضل من اشتغل بالتقريب العقدي هو الغزالي في كتبه "معيار العلم، محك النظر..." وأفضل من اشتغل بالتقريب المعرفي هو ابن تيمية في كتابه "الرد على المنطقيين"، المرجع نفسه، ص: 329.
[4] - المرجع نفسه، ص ص: 314-315.
[5] - المرجع نفسه، ص: 315.
[6] - محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، من التأسيس البرهاني للسياسة إلى التأسيس الحجاجي، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة 1، 2011.، ص ص: 118-119.
[7] - طه عبد الرحمان، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الطبعة 2، 2006، ص: 103.
[8] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 21.
[9] - المرجع نفسه، ص: 22.
[10] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 24.
[11] - محمد أيت حمو، الدين والسياسة في فلسفة الفارابي، مرجع سابق، ص: 117.
[12] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 63 وكذلك ص: 288.
[13] - جلال الدين السيوطي، صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، مرجع سابق، ص: 31.
[14] - محمد أيت حمو، "الدين والسياسة في فلسفة الفارابي"، مرجع سابق، ص: 149.
[15] - أورده محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، دراسات ومراجعات نقدية للكلام، دار الفارابي، بيروت لبنان، ومنشورات الاختلاف، الطبعة 1، 2011، ص: 249.
[16] - أورده المحقق محمد سيد عبد الوهاب في مقدمة كتاب "القول المشرق في تحريم المنطق" للسيوطي، دار الحديث، القاهرة 2008، ص: 89.
[17] - الغزالي، مقاصد الفلاسفة، مقاصد الفلاسفة ومعه إلجام العوام عن علم الكلام والفصول في الأسئلة وأجوبتها، تحقيق وتعليق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، لبنان 2008 ، ص: 14.
[18] - محمد أيت حمو، ابن خلدون بين نقد الفلسفة والانفتاح على التصوف، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة 1، نونبر 2010، ص ص: 46-47.
[19] - السيوطي، القول المشرق في تحريم المنطق، تحقيق سيد محمد عبد الوهاب، دار الحديث، القاهرة 2008.، ص: 89.
[20] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 74 وكذلك ص: 288.
[21] - أورده محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 248.
* - يلاحظ هنا أن ابن الصلاح يبدأ فتواه ضد المنطق بتعقل منطقي.
[22] - محمد أيت حمو، فضاءات الفكر في الغرب الإسلامي، مرجع سابق، ص: 241.
[23] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 149.
[24] - حمو النقاري، منطق الكلام، من المنطق الجدلي الفلسفي إلى المنطق الحجاجي الأصولي، منشورات الاختلاف، طبعة الدار العربية للعلوم ناشرون، الأولى، 1431هـ، 2010م، ص: 153.
[25] - محمد أيت حمو، أفق الحوار في الفكر العربي المعاصر. منشورات الاختلاف، الطبعة 1، 1433هـ/2012م ، ص: 22-23-24.
* - اقتصرنا فقط على بعض جوانب نقده لمنطق أرسطو، وقد فصل في ذلك الباحث علي سامي النشار من خلال إبراز الجانبين الهدمي والإنشائي في كتابه مناهج البحث خاصة في الفصول 2 و 3 و 4 من الباب الثالث.
[26] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 162.
[27] - علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص: 182.
[28] - نفسه، ص: 288.
[29] - نفسه، ص: 290.
* - القضايا الإيمانية كلما كانت غير عقلية آمنا بها.
* - النسق المنطقي القوي يحتوي على الأقل عبارة لا يمكن البرهان عليها بواسطته مع أن القضية المقابلة لها في النظرية صادقة (عدم التمام)، كما أن النسق الأقوى ليس مزودا بطريقة مقعدة لتحديد انتماء بعض العبارات أو عدم انتمائها إلى مبرهناته (عدم البت).
[30] - رشيد الراضي، "الحجاجيات اللسانية عند أنسكومبر وديكرو"، عالم الفكر، العدد1، المجلد 39، يوليوز- سبتمبر 2005، ص: 210.
* - نشير هنا إلى أن عصر النهضة والأنوار عرف تحول الخطابة إلى بحث في المحسنات البلاغية والأسلوبية (مجازات Dumarsais) و (صور الخطاب لـ Fontanier) مع إغفال شبه تام للشق المتعلق بالفعالية الحجاجية والاستدلالية والتي انبعثت في النصف الثاني من ق20، لاسيما الإسهامات البلجيكية لكل من Perelman و Groupe Mu.
[31] - رشيد الراضي، "السفسطات في المنطقيات المعاصرة، التوجه التداولي الجدلي"، مجلد الحجاج، الحجاج مفهومه ومجالاته، دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة، إعداد وتقديم د. حافظ إسماعيلي علوي، الجزء الثالث، مدارس وأعلام، عالم الكتب الحديث إربد، الأردن، 2010، ص: 219.
[32] - نفسه، ص: 220.
** - عالج أرسطو أمور الفلسفة العملية اعتمادا على المنهج الشكوكي (La méthode aporétique)، حيث الممكن والمحتمل والشبيهي أي المجال الذي تتلون فيه القضايا بالمكان والزمان ومقدار الحجج، فكم من حق ضاع لضعف حجته، وكم من باطل ذاع لقوة حجته.
[33] - Ch.Perelman et L.olbrechts- tyteka, traité de l’argumentation, la nouvelle rhétorique, by éditions de l’université de Bruxelles, 1970, p :2.
[34] - Ibid, p: 1.