بقدر ما يبدو صعبا رصد المسار الفلسفي-السياسي لمفكر من طينة "كورنيليوس كاستورياديس"، المتشعب والمتوغل في ذاكرة قرن فائر بالثورات والاضطرابات العظيمة التي لا يزال وعينا الراهن مشدودا بقوة لنتائجها، بقدر ما أن أصالته وحيويته الفكرية التي تواصلت على مدى نصف قرن تسمح برسم صورة واضحة لذلك المفكر المقاتل، المتعدد/ المتوحد في جبهاته الثلاث: الفلسفة، السياسة والتحليل النفسي. صورة نستعيد من خلالها ملامح مقاتل مقدام، خاض حروبا كثيرة بشجاعة نادرة وكفاحية عالية، إنما أيضا بحكمة بليغة وعميقة تنتصر للحقيقة في وضوح الفكر، ورهان الفعل من موقع سياسي مكشوف: لم توجد الفلسفة لتحايد ولا أن تسلم الأسلحة، لا في زمن الحرب ولا في زمن التسوية.
لنتذكر زمن "الاشتراكية أو البربرية"، "لبير Liber"، ماي 68 الفجوة!، ثم أخيرا "ملتقيات المتاهة"؛ مدونة نصوص المقاومة، حيث تتداخل الجبهات الثلاث في فكر مرصع بروح الاختلاف الذي لا يفسد للمقاتل قضية. إنما لا ننسى كذلك "المؤسسة الخيالية للمجتمع"، العمل الأساسي للفيلسوف المفكر والمحلل، حيث ثمة "فلسفة مرصعة بروح كلاسيكية ومهيكلة بشكل قوي".
إن ما يؤشر على أصالة إسهام "كاستورياديس" في تاريخ الفلسفة المعاصرة هو بلا شك ذلك التداخل والتكامل الذي طبع تفكيره ونشاطه في حقول لا تخفى أهميتها ورهاناتها الاستراتيجية في الفكر والحياة المعاصرين: حقول المقاومة/النضال من أجل نيل الاستقلالية؛ كرهان للفكر والسياسة، وأفق لفردانية ديمقراطية ممكنة تؤسس لمواطنة جماعية، إيجابية، فاعلة، متدخلة ويقظة، هي ما يليق بالحياة الديمقراطية. لم يكافح كاستورياديس من أجل تعميم الوعي بهذه الاستقلالية فحسب، بل إنه تمثلها فكرا وسلوكا، من حيث هي إبداع خيالي متميز يفترض على مستوى البعد الاجتماعي-التاريخي للاستقلالية، القدرة على المساءلة (التفكير) اللامحدود للمبادئ. ولذلك فإن اختيار التفكير والعمل على الجبهات الثلاث: الفلسفة، السياسية، والتحليل النفسي، لم يكن سوى لأن الأدوات التي تمنحها إياها هذه الحقول المعرفية، هي ما يتكفل بتعميق مشروع الاستقلالية ذاك، لأجل دفعه نحو تحقق أقصى في المجال العمومي..
الراديكالية السياسية:
كان كاستورياديس في السنوات الأخيرة من حياته يحرص كثيرا على تأكيد حاجة الفكر إلى نوع من الراديكالية كسبيل لإحراز خيال الاستقلالية التي بدونها لا يكون لتدخل المفكر/المثقف في المجال العمومي من جدوى وفاعلية، بل إنه بدونها ليس ثمة فكر. ولذلك سعى فيلسوفنا في البحث عن راديكالية تكون كذلك بالنسبة للفكر، إنما كذلك للسياسة كبديل لما رآه مخرجا ممكنا من بؤس الخيارين الذي حملتهما التجربة الغربية في تاريخها، والتي تواصل اليوم الليبرالية الجديدة التنظير/التأسيس لهما بسخافة لا نظير لها: الليبرالية أو البربرية.
ا
يقول كاستورياديس: "أنا ثوري متحمس لتغييرات جذرية. لا أعتقد أنه بإمكاننا دفع النظام الرأسمالي (الفرنسي) للسير قدما بشكل حر ومتكافئ كما هو عليه حاله الآن". وأن تكون ثوريا متحمسا لتغييرات جذرية، معناه أن تكرس كل حياتك لتعميق مشروع الاستقلالية داخل وعيك الفردي ونشاطك العمومي، باعتباره السبيل الوحيد والممكن لدفع الجمود والخواء عن الحياة الاجتماعية والسياسية. وهذا هو معنى الراديكالية السياسية الذي أخلص له كاستورياديس على امتداد مساره الفكري-السياسي فقد ناضل بشجاعة ضد كل أصناف القبح الفكري والسياسي اللذين تجليا بشكل مروع في مسارات النخب السياسية الحاكمة في المجتمعات الرأسمالية الغربية وتلك التي سميت بالاشتراكية. وبعد دراسات معمقة لتجاربها، انتهى إلى الاقتناع بأن لا أمل في تحريك تلك المجتمعات، التي ابتليت بجمود تعمقت أسبابه بعجز النخب الحاكمة، على بلورة إصلاح كان مستحيلا بقيادة فكر بائس وغارق في السخافة والبلادة. فهذا "الفكر" أبان عن خوائه بمراهنته السخيفة على التغير التلقائي للمجتمعات التي ساد بها، إذ سرعان ما ستكتشف النخب المستقوية به سراب رهانها. ذلك أنه بدلا من أن تتغير مجتمعاتها نحو الأحسن وتصير أكثر إنسانية كما روجت لذلك في خطابها، رأى الناس ميلادا مروعا لمجتمع استهلاكي يختزل الفرد إلى مجرد مستهلك، ويتنكر لكل وعوده بتحقيق الرخاء الاقتصادي القائم على تدبير سليم لآليات الإنتاج وتوزيع عادل للثروات.. فكان من نتائج هذا النمو المجنون لمجتمع الاستهلاك، تعميم شامل لقيم الأنانية والاستهلاكية المفرطة وخوصصة الإنسان، وانحسار الاهتمام بالشأن العام، مع كل ما يعنيه ذلك من ضرب صريح للروح الحضارية على حد تعبير كاستورياديس. هذا وقد دفعت الليبرالية المتطرفة هذا النمو المجنون إلى أقصاه مع صعود نجم سياسات التحرير للاقتصاد وإطلاق اليد الطولى للرأسمال الكبير المتعدد الجنسية على يد "ريغان" "تاتشر" وأيضا "فرانسوا ميتران".. وحتى الأمل الوحيد، يقول كاستورياديس، الذي ارتسم في أفق قيام نظام اشتراكي بعد ثورة فبراير 1917، ضاع بسبب "الانقلاب البلشفي" لأكتوبر 1917، الذي حول الإمبراطورية القيصرية إلى نظام شمولي قائم على الرعب والأكاذيب والعبث، استمر لمدة خمسين سنة لينهار في الأخير تحت تأثير تناقضاته، وتنكشف حقيقته بعد نصف قرن من سياسة الإخفاء والتستر وراء شعار المصالح الإيديولوجية.. وحتى الصين في نظر فيلسوفنا، كواحدة من بقايا اليوتوبيا الاشتراكية، صارت دكتاتورية رأسمالية: الخيبة الكبرى؟ والحال أن الفشل أصبح حقيقة قائمة في وجه ما كان يبدو من بعيد أملا ممكنا للخروج من نفق البربرية "الغربية". بل إنه صار خلفية تسند حجج اليمين المنتصر، وتعلي من شأنه "فكره" البائس. وها هم منظرو اليمين يسألون الناس: هل تريدون تغيير المجتمع؟ حسنا، يجيبون: "سيأتي الكولاك". إذن، لا تفكروا بتغيير المجتمع الذي يمنحكم الغنى والسلام، نحن من سيتكفل بتحسين أوضاعكم إذا صوتم التصويت السليم. إنه الخطاب السائد، الذي يبذل قصارى جهده لتنويم المواطن وشل فاعليته وسحق روح الاستقلالية لديه، والأحرى أنه ينجح في النهاية بإقناعنا أنه لا جدوى من تخيل إمكانية بناء مجتمع بديل وأفضل مما هو كائن الآن..
هل يلزم إذن التسليم بالأمر الواقع؟ بالطبع لا، يؤكد كاستورياديس. يلزم فعل شيء ما ضد هذا الواقع. فإذا كانت النخب الحاكمة في الغرب تحاول إقناع نفسها، أو هي بالأحرى فعلت، باستحالة القيام بشيء ما، فلأنها تخلت من تلقاء نفسها عن الوسائل التي كانت بحوزتها لتوجيه الاقتصاد، ورهنت الدولة للأسواق المالية التي لا ترحم قوانينها أحدا، وفي مقدمتهم الأجراء. والنتيجة كانت هاهنا أسوء: غياب الأفق السياسي، وفرض النزعة الاستهلاكية، وأفول الاهتمام بالشأن العام. فالمجال السياسي لم يعد أكثر من "سوق" يعج بمواقف انتخابية بائسة تفرض على الناس انتخاب الأقل سوء وبشاعة. والأسود أيضا أن هذه الأزمة التي تلقي بظلالها على المجتمعات الغربية اليوم لم ينجم عنها تشوه سياسي فحسب، بل إن التشوه والتفكك أصاب جل المجالات الأخرى وضمنها المجال الثقافي. وهكذا يرى كاستورياديس أن الإبداع الكبير والحقيقي توقف في الستينات من القرن المنصرم. أما ما عداه فلا يعدو أن يكون إعادة واجترارا لما أنجز سلفا، أو مجرد ظواهر تجارية محكومة بقوانين ومتطلبات السوق.
ما العمل إذن؟ لا يزعم كاستورياديس امتلاك جواب على هذا السؤال. قد تكون الإجابة على مثل هذا السؤال أمرا متروكا للأنبياء. إنما الفيلسوف لا يستطيع أكثر من تشخيص الأزمة والإشارة إلى مكمن الداء، مع التنبيه إلى الحال الذي توجد عليه الثقافة عموما، والفلسفة على وجه الخصوص. فهذه الأخيرة توجد منكوبة مثلها مثل الثقافة بشكل عام، إلى جانب الظواهر والموجات الاستهلاكية التي تجتاح المجتمعات المعاصرة، وهي تبدو عاجزة على سبر أغوار التجربة الإنسانية المعاصرة. والحال أنه لا شيء يتبقى من الفلسفة في مثل هذا الحال، طالما أن المهمة الأساسية للفلسفة هي بالذات فهم التجربة الإنسانية والتعبير عنها.
السياسة والمواطنة: حدود الديمقراطية
إن ما يميز العالم المعاصر هو بالتأكيد تفاقم الأزمات والنزاعات والاختلافات على أكثر من صعيد. غير أن ما يقلق الفيلسوف أكثر هو أساسا تلاشي المعنى وانسحابه من حياتنا الفردية والجماعية، وصعود التفاهة واللامعنى. هكذا يمكننا تبين التفاهة في عدد من مظاهر حياتنا المعاصرة، وليكن في مقدم هذه المظاهر ما نشاهده اليوم من خلط في الخطابات، التي لم يعد مثلا فيها للفرق بين اليمين واليسار أي معنى وجدوى، حتى أن هذا الأمر لم يعد قائما حتى في الممارسات السياسية للطرفين. ففي فرنسا، يؤكد كاستورياديس، نهج كل من اليمين واليسار نفس السياسة، بالرغم من تأكيد كل طرف على عزمه تغيير الأشياء، والقيام بأعمال جديدة مختلفة عن ما قام به الطرف الآخر. إذ أنه بمجرد ما يعتلي أحدهم هرم السلطة، يظهر عجز المسؤولين السياسيين عن الإبداع وابتكار سياسات جديدة وملائمة لظروف بلدانهم، ومستجيبة لطموحات وتطلعات منتخبيهم. فكل ما أمكنهم فعله، حتى الآن، هو الخضوع للتيار وتطبيق السياسة الليبرالية المتشددة. وهذا ينطبق بالأحرى على الاشتراكيين أنفسهم، إذ بمجرد عودتهم للسلطة لم يغيروا شيئا من السياسات اليمينية القائمة، هذا رغم كل الوعود الوردية التي تقدموا بها لدى الناخبين. إن الحقيقة التي تبرز هنا لأول وهلة، مؤلمة وقاسية: ليس ثمة رجال سياسة حقيقيين، بل مجرد تقنو-سياسيين همهم الوحيد البقاء في السلطة والعودة إليها بكل الوسائل المتاحة، وفي الأغلب تكون العودة بدون برنامج.
وبين ما يجري في حقل السياسة وباقي الحقول الأخرى، مثل الفلسفة، الفنون والآداب، ثمة صلات متبادلة، يفسرها هذا التعميم المتصاعد للتفاهة كروح للعصر Esprit du Temps.
ألا تبدو السياسة، في الوصف أعلاه، مهنة سخيفة؟ لنقل إنها كذلك، إذا ما علمنا أنها تفترض دوما توفر قدرتين ليس بينهما علاقة تكامل. فمن جهة هناك القدرة على تسلم السلطة، ومن جهة أخرى القدرة على إدارة الحكم. تحتاج الأولى فنا ممكنا للوصول إلى السلطة، والثانية لإدارة جيدة لوسائل الحكم. والحال أنه يمكننا أن نتوفر على أفكار رائعة حول العالم إذا لم نصل إلى السلطة، على أن ذلك لا يجدي في شيء؛ إذ يلزم التوفر، في حالة إرادة الوصول إلى السلطة، على الإمكانيات الفنية لإدارة المعارك والتموقع الجيد في حلبات المنافسة، وكل ذلك إنما سيكون في النهاية على حساب الأفكار الرائعة والنوايا الحسنة. والواقع، يقول كاستورياديس، ليس هناك ما يضمن أن أحدا يحسن الحكم، سيعرف كيف يخط الطريق نحو السلطة.
هاهنا يبدو سؤال الاستقلالية قضية جديدة بالنسبة للديموقراطية الحقيقية. ففي نظام الديمقراطية التمثيلية يعني التداول على السلطة، القدرة على إدارة تواصل جيد مع الناس (المواطنين)، أي أن نعرف كيف نخترق الرأي العام. بالنسبة لكاستورياديس، ليست الديمقراطية التمثيلية سوى ديمقراطية مزعومة، طالما أنها لا تؤمن استقلالية المواطن ككائن سياسي حر ومريد. لقد سبق لجان جاك روسو أن نبه إلى هذا الأمر في القرن 18 عندما قال، إن الأنجليز اعتقدوا أنهم أحرار لأنهم ينتخبون ممثليهم كل خمس سنوات، دون أن يدركوا أنهم ليسوا كذلك إلا في يوم واحد كل خمس سنوات، أي يوم الاقتراع، وهذا ليس لأن الانتخابات مزورة أو مغشوشة، بل فقط لأن الاختيارات محددة سلفا، تأتي الانتخابات لتكريسها وشرعنتها. والأمر سيان بالنسبة لباقي أنواع الاستشارة التي يطلب فيها من المواطن التصويت لصالح أو ضد قرار لم يساهم في بلورته وصياغته.
ويضيف كاستورياديس من جهته، أنه من البديهي أننا لسنا أحرارا حتى في هذا اليوم من خمس سنوات، لأننا مطالبون بالتصويت انطلاقا من وضعية ملموسة مصنوعة من قبل البرلمان السابق، والذي يطرح المشاكل في الحدود المسموح بها لمناقشة هذه المشاكل، حيث يفرض الحلول أو بدائل حل، لا تتطابق في معظم الأحوال مع المشاكل الحقيقية. وعموما فإن التمثيل السياسي يعني في هذه الحالة إرتهان سيادة الممثلين بإرادة ممثليهم، حيث إن البرلمان غير مراقب إلا بعد خمس سنوات، وبواسطة الانتخاب. وهذا أمر واقع في جل الديمقراطيات الغربية. ففي الولايات المتحدة مثلا، أعضاء مجلس الشيوخ هم في الواقع "شيوخ" مدى الحياة، يقول فيلسوفنا. لكن ثمة حقائق أسوء تعمل في بنية هذا النظام. فلكي تنتخب في أمريكا، يلزمك أربعة ملايين دولار.. والحال أن من سيمنح هذه الملايين ليسوا بالتأكيد العاطلون بل الشركات التي تسعى إلى أن يصبح السيناتور بعدها على وفاق مع اللوبي الذي ستشكله في واشنطن، وبالتالي أن يصوت لصالح القوانين التي تشجعها. والحقيقة الأخرى التي تبعث على القلق أكثر، هي أن ارتشاء المسؤولين السياسيين أصبحت في المجتمعات المعاصرة خاصية بنيوية، مدمجة في اشتغال النظام الذي لا يمكنتمكن التردد والحيرة من نشاط الفكر والسياسية معا، مما أسهم في انكماش الدلالة المخيالية للتغيير لدى الأفراد والجماعات، وإضعاف فاعليتها في المجال السياسي. ويعتقد كاستورياديس أن السبب العميق يعود، بالإضافة إلى ما ذكرنا من عوامل سالفة، إلى النمو المضطرد لنموذج من الفرد لا يشبه نموذج الفرد في المجتمع الديمقراطي أو في مجتمع حيث بإمكاننا النضال من أجل حرية أكثر. ومن خصائص هذا الفرد، أنه مخوصص ومسجون في وسطه الشخصي الصغير، لا مكترثا بالسياسة، كلبيا. وبعبارة جامعة: فردانيا.
إن الفردانية تقوم في جوهرها على نفي استقلالية الفرد، على عكس ما قد نعتقد سطحيا من العبارة. فالفرد المستقل هو فرد لا يتصرف إلا بعد تفكير وتشاور، وإذا لم يفعل فهو لن يكون فردا ديمقراطيا جديرا بالعيش داخل مجتمع ديمقراطي. والحال أن الفردانية تسير في اتجاه معاكس لهذه الدلالة، إذ تصادر من الوعي والممارسة الفرديين مساحات التشاور التي تصل الأفراد فيما بينهم، وبينهم والمجتمع في النهاية.
إن هذا الفرد المستقل هو ما يشكل الهدف الأساسي لتحليل نفسي حقيقي ومفهوم بشكل أفضل. وهذا التحليل وحده يمكننا من فهم أن الكائن الإنساني هو ما يشكل أساس لاشعوره؛ وأنه إن كان لا يعرف هذا اللاشعور عموما، فليس لأنه كسول، بل لوجود حاجز يعيق هذه المعرفة، هو الكبت. فالأفراد يولدون كجواهر نفسية تتعايش بقوة، لا تعرف حدودا لتلبية لرغباتها، إنما في الأخير ينتهي هؤلاء بقبول وجود الآخرين وبحقهم في تلبية رغباتهم. وهذا يتحقق بموجب كبت أساسي يودع في اللاشعور كل الميولات العميقة للنفس ويحتفظ فيه بجزء هام من إبداعات الخيال الجذري. والتحليل النفسي يفرض أنه بواسطة آلياته يخترق الفرد حاجز اللاشعور، باكتشافه أولا، وبتنقية نزوعاته وعدم التصرف دون تفكير وتشاور ثانيا. وهذا هو الفرد المستقل.
إذا ما ربطنا هذا التحليل النفسي للفرد بالسياسة، فإننا ندرك مدى حاجتنا إلى مثل هذا الفرد المستقل، لترسيخ فكرة الاستقلالية السياسية داخل المؤسسات التي أبدعها البشر، وأيضا محاولة وضع هذه المؤسسات على أرضية معرفية بينة وواضحة وقائمة على التشاور الجماعي. وهو ما من شأنه التأسيس لما يسميه كاستورياديس بالاستقلالية الجماعية، التي توازيها استقلالية فردية لا يمكن نفيها مطلقا. ذلك أن مجتمعا مستقلا لا يمكن أن يتشكل إلا من أفراد مستقلين، وهؤلاء لا يمكن أن يوجدوا إلا داخل مجتمع مستقل.
لكن بأي معنى يكون الفرد المستقل حرا في المجتمع المستقل؟ أو بالأحرى، بأي معنى نحن أحرار اليوم؟ يجيب فيلسوفنا، أنه لدينا قدر معين من الحريات تبلورت كنتاج للنضالات الثورية في الماضي، إنما هذه الحريات تبقى في الأخير جزئية، دفاعية وسلبية، وليست شكلية فحسب كما كان ماركس يقول. فأن يكون بمقدورنا أن نجتمع ونقول ما نريد ليس أمرا شكليا إنما فقط محدودا. وعليه فإن الفرد الحر ليس هو من يعتمد أن الحرية تعني القضاء على السلطة والقانون بخلفية وجود طبيعة إنسانية خيرة يمكنها أن تتجاوز كل قاعدة خارجية، كما يذهب إلى ذلك أنصار الفوضوية. إن هذه خرافة، ويوتوبيا متهافتة.
إنه يمكن للفرد أن يكون حرا في مجتمع تحكمه القوانين، لكن ذلك يتوقف على مدى توفره على الإمكانيات الفعلية (وليس الشكلية) للمشاركة في النقاش والتشاور وفي صياغة تلك القوانين، مما يحتم ضرورة أن تكون السلطة التشريعية بيد الجماعة والشعب. على أن حيازة تلك الإمكانيات وتوظيفها يبقى رهينا بمدى إدراك الأفراد لرهانات الاستقلالية وتمثلهم لروحها وقيمها. ومن هنا يبرز الدور المتعاظم لإصلاح جذري للتربية، لجعلها تربية لأجل الاستقلالية وفي اتجاهها؛ هذه الاستقلالية التي تجعل الأفراد يتساءلون باستمرار لمعرفة ما إذا كانوا يتصرفون عن خبرة ودراية أم على هواهم وبأحكام مسبقة. فالاستقلالية هنا هي رهان كل تربية ديمقراطية. لكن ما هو مستقبل هذه الاستقلالية في مجال السياسة؟
يعتقد كاستورياديس أن هذا المستقبل يتوقف على نشاط الأغلبية العظمى للكائنات الإنسانية، التي ستكون لها، باستثناء أقلية محظوظة، المصلحة في التغيير الجذري للمجتمعات التي تعيش فيها. وعليه، فلا مكان لتصور دور طليعي وامتيازي للبروليتارية الصناعية في هذا المستقبل طالما أن هذه الطبقة تحولت إلى أقلية وسط السكان منذ زمن بعيد. إنما لا بد هنا من استحضار المقاومة المضادة لمشروع الاستقلالية، والممثلة بشكل عميق في انتصار ما يسميه فيلسوفنا، بالدلالة المخيالية للرأسمالية، أي للتوسع اللامحدود لتحكم عقلاني مزعوم، وبالمقابل ضمور وتلاشي للدلالة المخيالية الكبرى للأزمنة الحديثة، أي الاستقلالية. وإذا كان صحيحا أيضا أن المجتمعات الراهنة ليست ميتة، وتفرز أفكارا وحركات مقاومة مستمرة للدلالة المخيالية الرأسمالية، فإن ذلك لا يدعو للتساؤل كثيرا طالما أن الأفكار قليلة بالنظر لحجم المهام المطروحة في المستقبل. وفي هذا السياق يؤكد كاستورياديس أنه بالنسبة لبعض المهام، يظل البرهان ذو الحدين، الذي بلورته جماعة "الاشتراكية أو البربرية". ذا قيمة فكرية وسياسية، شرط أن لا يخلط الاشتراكية بالفظاعات التوتاليتارية التي أحالت روسيا إلى حقل خرائب، ولا كذلك بالتنظيم العبثي للاقتصاد والتحكم المطلق بالحياة الثقافية والفكرية التي قامت عليها.
الفكر الوحيد والدلالة المخيالية للرأسمالية: انتصار إيديولوجيا السوق.
فيما يزال خطاب نهاية الإيديولوجيات يوسوس الغرب، يسود الفكر الليبرالي الجديد اقتناع إجماعي بين منظريه الأكثر انفتاحا، بانتصار الليبرالية الديمقراطية ورمزها المطلق: السوق. فمنذ أن أطلق الداعية الأمريكي "فوكوياما" صيحة الإيديولوجية البائسة، "نهاية التاريخ" ذات الصدى الهيغلي المغرق في التأويل اليميني، أصبح التسليم بانتصار الرأسمالية الأبدي أمرا لا يدخله الشك. والحقيقة أنه داخل منطق التسليم تشتغل الإيديولوجيا كحقيقة وحيدة لنظام الأشياء غير قابلة للنقاش. وهذه الإيديولوجيا تمارس اليوم نوعا من الإرهاب المفتوح باسم فكر وحيد هو في الواقع خال من كل تفكير كما يقول كاستورياديس Non pensée. فلم يسبق للإيديولوجيا أن كانت بمثل هذا الخواء الفكري، والسطحية والإطلاقية كما تشهد عليها راهنا دعوات "الفكر" الوحيد، هذا الذي يكون لا-فكرا تاما، لا أحد يجرؤ على معارضته. إنه "الفكر" الذي يقدم نفسه وحيدا لكونه مرآة واقع هو كذلك، أو كما يقول Alain Minc: "ليس الفكر هو الوحيد؛ إنها الواقع هو كذلك". ومن ثم لا حاجة للتفكير، فالواقع يكفي. والحقيقة أن هذه الإيديولوجيا التي يحتضنها "الفكر" الوحيد، بكل مركباتها وتناقضاتها وآثارها التدميرية لروح الناس، والتي تنطلق من الواقعي لأجل نفيه، تقود في النهاية إلى "شكل من الشيزوفرينيا الجماعية". إنها الإيديولوجيا التي بموجبها سيكون على الناس تكذيب الواقع وتصديق الفكر في الآن نفسه، أو العكس أيضا. نعني الإيديولوجيا التي تلزم الناس على ممارسة تمارين عقلية في غاية الغرابة؛ تصديق الكل ونفيه في نفس الآن. وتلك هي عين الشيزوفرينيا، التي نجد لها مقابلا عجيبا في قاموس الفكر الوحيد: الواقعية؟
يجب الاعتراف بأن قوة النسق الإيديولوجي للفكر الوحيد تكمن بالذات في كون مختلف المركبات الإيديولوجية التي تشكله متداخلة فيما بينها، وتتبادل الإحالة فيما بينها. فحيث تتراجع الواحدة تأخذ الأخرى مكانها ودورها، تنتظمها في ذلك استراتيجية التكييف السياسي-الإعلامي، لاختراق حقل وعي المواطنين في مجموعه وإحكام السيطرة على نشاطه النقدي.
إن إحدى أقوى المركبات الإيديولوجية للفكر الوحيد هي بلا منازع: السوق. فهذا الأخير علاوة على كونه مقولة اقتصادية مركزية للفكر الليبرالي، فهو كذلك إيديولوجيا. صحيح أن السوق حقيقة اقتصادية لا سبيل لإنكارها، وبالتالي فهي لا تنتمي لدائرة الوهم، على أنها حين تقدم في لبوس قدري، تصير عندئذ إيديولوجيا. إنها تصير كذلك حين تضفي على نفسها هالة من القداسة باسم الفعالية الاقتصادية والحرية، دون أن ترى الآثار المرئية لإعمال نفسها في حياة المجتمعات المعاصرة: البؤس، والفوضى والتفكك في الجانب الآخر لما تعرضها كإنجازات خارقة للسوق. وإذا كان لهذه الإيديولوجيا في أيامنا، كما في الخطاب الليبرالي الجديد، من الوسائل ما يكفي لجعلها تبدو حقة وصعبة المنازلة، فلأنها ليست ككل إيديولوجيا. فهي إيديولوجيا قوية بحجم قوة الخطاب الذي يسندها من كل الزوايا؛ هذا الخطاب القوي، الذي ليس كذلك، إلا لأنه مدعوما بعالم موازين قوى يسهم من جهته في جعلها كما هي، بإضافة قوته الخاصة إليها، وخصوصا الرمزية منها. إن ما يضمن إذن الفعالية لتلك الإيديولوجيا ليس كونها حقة على المستوى المحض والخالص، إنما انضواءها تحت برنامج سياسي يستهدف على المستوى العميق، وعبر خلق ظروف مادية ملائمة لاشتغال الإيديولوجيا في حقل الوعي الجمعي، تدمير كل البنيات الجماعية القادرة على إعاقة منطق السوق الخالص. فالفكر الوحيد المستقوي بإيديولوجيا السوق، يسعى إلى ترسيخ اقتناع بديهي لدى الناس مفاده أن السوق هو الحقل الوحيد الذي تتحقق فيه الديمقراطية والحرية وبالتالي الفعالية، لكونه يمنح الناس حرية الاختيار والاستهلاك بطرحه كل شيء للتداول وجعل كل شيء في متناول الجميع: من الخيرات المادية إلى القيم الروحية، من إعادة إنتاج الرأسمال إلى العدالة الاجتماعية..إلخ. فالسوق يصير ديمقراطيا في ماهيته بمنطق الفكر الوحيد، لكنه ليس كذلك إلا من جهة الخلط الذي يقيمه هذا الفكر البائس بين الاختيارات الخاصة للمستهلك والاختيارات المدنية للمواطنين. وبدون هذا الخلط لا تستقيم بداهة الفكر الوحيد المزعومة.
من هم رموز هذا الفكر الوحيد؟ وكيف تتم عملية وسيرورة إنتاج إيديولوجيا السوق؟ يرى "بيير بورديو" أن رموز هذا الفكر هم في الوقت الراهن المثقفون الجدد والصحافيون الذين تنعقد بينهم وبين قوى السوق تحالفات وتواطئات صريحة أو خفية، تتوسطها هذه الآلة الجهنمية المسماة بالوسائط الجماهيرية على عهد زمن التواصل. وما يهمنا في هذا المقام هو الموقع الذي يمثله المثقفون في مساحة إنتاج وإعادة نظام الخطاب السائد: الليبرالية الجديدة. وذلك اعتبارا للدور الخطير لهؤلاء في تكريس السلطة الرمزية لهذا الخطاب وتدعيم قوته الإيديولوجية. يتعلق الأمر بالأحرى بنمط جديد من المثقفين أخذ بالتبلور عقب الانهيار الذي أصاب الإيديولوجيات السياسية لأزمنة الثورة، يضم في صفوفه فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة المولعين بجدالاتهم المدرسية حول العقل والعلم والمتحمسين لنهاية الإيديولوجيا، وأولئك الفخورين بكفاءتهم الرياضية وذكائهم الحسابي والاقتصادي. والحال أن القوة الرئيسية لما يسمى بالمثقفين الجدد، تتمثل في نظر "بيير بورديو" في أنصار إيديولوجيا الكفاءة المحسوبة صراحة لصالح الليبرالية الجديدة. إذ أن مقولة الكفاءة المكرسة كامتياز ثقافي ليست سوى الوجه الآخر للامتياز الاجتماعي المتولد عن اللامساواة المتجذرة في البنية السوسيو-اقتصادية للرأسمالية. وهكذا فإن المثقفين الجدد لا يترددون في إعلاء قيمة الكفاءة في خطابهم ومن خلال عمل مكثف يسعى لإقناع الناس بحتمية الليبرالية الجديدة وقدرية السوق؛ وبأن أشياء من قبيل الإنتاجية، التنافسية والنمو الأقصى هي الغايات القصوى لكل الأعمال الإنسانية، وأن مقاومة القوى الاقتصادية أمر لا جدوى منه.
ماذا يمكن لفيلسوف ومفكر سياسي راديكالي ككاستورياديس أن يقول ردا على هذا الخطاب؟ ربما سيكون هذا الرد جامعا وحاسما في تأكيد ما حرص دوما على اعتباره رهان كل فكر حي، وهو الاستقلالية. هذه الاستقلالية هي ما يجب الكفاح من أجلها في الحياة كما في الفكر والفلسفة، باعتبارها القيمة العليا لكل حرية ممكنة. ففي الحياة الاجتماعية سيكون الثمن الذي علينا أن ندفعه مقابل الحرية هو تدمير الاقتصادي كقيمة مركزية ووحيدة في الواقع، يقول كاستورياديس. وعلى مستوى الفكر يجب الاستمرار في الدفاع عن الاستقلالية بوصفها ذلك التساؤل اللامحدود الذي لا يتوقف أمام أي شيء، ويعيد وضع نفسه باستمرار موضع مساءلة. وتلك هي مهمة الفلسفة.. أو قل إنه درسها السياسي.
لن نختم دون أن نعيد إلى الصورة مكانة كاستورياديس في الفكر المعاصر. ففيلسوف الراديكالية السياسية، بالرغم من كل نقاط ضعفه، يظل في نظر الكثير من معاصريه، حالة استثناء في الحقل البائس للفلسفة المعاصرة. إنه الفيلسوف الذي يمنحنا كما قال عنه أحد الكتاب: "أدوات لنجادل، ولنشيد المتاريس، ولنبصر اشتراكية المستقبل، ولنتأمل تحولات العالم والرغبة في التغيير السياسي للحياة". ولذلك فإنه لأجدر بأن يقرأ ويجادل في أفق قرننا الجديد.