في عالم متغير و شديد التعقيد كالذي نعيشه،تواجه الإدارة التربوية مواقف ومتطلبات تستدعي الاهتمام بالمجهود العلمي و النظريات المحددة لممارسة إدارية فعالة.كما تفرض إلمام الإداري بمهارات القيادة التربوية، وتنويع الأساليب القيادية تبعا للمواقف التي يواجهها.
تبني نظرية أو نمط إداري، واكتساب مهارات متجددة ركنان أساسيان للتصور الذي يعتمده الدكتور فتحي أبو ناصر في كتابه ( مدخل إلى الإدارة التربوية)* للتجاوب بشكل مستمر مع المتغيرات التي تؤثر على سير العمل داخل المؤسسة،وتملك أسلوب علمي يضبط المواقف الإدارية.
لا يقترح المؤلف نموذجا فعالا بقدر ما يوسع دائرة الاختيار يعرض نماذج لنظريات وأنماط الإدارة التربوية ومهارات القيادة.ذلك لأن الهاجس الذي يشغله في المقام الأول هو ترسيخ القناعة بجدوى النظرية كإطار مرجعي يوجه الممارسة الإدارة، ويفك الارتباط مع الصورة النمطية و الرديئة لجهاز خدماتي منساق خلف التعليمات الواجب اتباعها،بغض النظر عن ملاءمتها للإطار الاجتماعي الذي يعمل به.
يعرض المؤلف للسياق التاريخي الذي تبلور ضمنه الاهتمام بالنظرية في الإدارة التربوية،كما بسرد أهم المحطات التي شهدت ميلاد فكر جديد في هذا المجال،وفي مقدمتها :
أ ـ المؤتمر القومي لأساتذة الإدارة التعليمية في نيويورك عام1947،والذي شكل منعطفا هاما للتفكير في الظاهرة الإدارية .
ب ـ البرنامج التعاوني في الإدارة التعليمية برعاية مؤسسة " كلوج" و الذي تضمن منذ سنة 1946 تقديم منح للجامعات لتطوير الإدارة التعليمية، وقدم بحوثا في هذا الشأن.
ج ـ إنشاء مجلس الجامعات للإدارات التعليمية سنة 1945،و الذي اشرف على برنامج شامل للبحث التربوي،كما اهتم برعاية حلقات دراسية حول تطور نظرية الإدارة التعليمية.
ولم تخل مرحلة التشكل النظري لنمط الإدارة التربوية الحديث من بروز الصوت المعارض،إلا أن المؤلف يعدد جملة أسباب لهذا الموقف أهمها : عامل الخوف من صعوبة فهم النظرية و بالتالي إساءة استخدامها،وغياب لغة مهنية مشتركة بين الفاعلين تحقق التفاهم الواضح،بالإضافة إلى النزوع المستمر لإقناع العاملين بتأييد مجرى الأفكار بدل اختبارها على أرض الواقع.
ونظرا للتداخل الحاصل بين نظريات الإدارة التربوية ونظريات القيادة،فإن المؤلف أفرد حيزا مهما من الكتاب لتسليط الضوء على المجموعات الرئيسية الثلاث التي صاغت ضمن مسار تاريخي يمتد من أواخر الأربعينات حتى اليوم ما يُصطلح عليه بفلسفة الإدارة.فالنظريات التقليدية،وفي مقدمتها نظرية "الرجل العظيم "ونظرية "السمات"،اهتمت بشكل أساسي بالصفات الخلقية الموروثة،و السمات لواضحة و المحددة التي تؤهل الفرد للقيادة.و الحديث هنا عن الوراثة يعني بكل تأكيد أن لا مجال لاكتساب مؤهلات الإداري /القائد،وهو التصور الذي سعت النظريات السلوكية لتجاوزه عبر التركيز على ما يفعله القائد،وعلى سلوكه مع الأفراد لتحديد مدى نجاحه.
تهتم نظرية (x) بالإطار الفلسفي الذي يستند إليه المدير في كل تصرف إداري.وأنه متى كان هذا الإطار واضحا متماسكا فإن سلوك الأفراد سيتحقق كاستجابة لسلوك الإدارة.غير أن الأمر لا يخلو من نزعة تحكمية في السلوك التنظيمي دفعت (ماك غريغر)إلى صياغة نظريته (Y) التي تؤمن بمبدأ التكامل بين خلق الظروف التنظيمية ومساعدة العاملين على تحقيق أهدافهم الشخصية.فنجاح المؤسسة رهين بالمواءمة بين حاجات الفرد العليا وأهداف الإدارة.
أما نظرية الأبعاد ونظرية الاحتمالات فتقران بصعوبة التوصل إلى سلوك إداري نموذجي يستجيب للمواقف المتغيرة، مما يحتم الاهتمام بتوفير أساليب قيادية وبدائل واحتمالات سلوكية، تتيح للقائد مواجهة المواقف ضمن إطار فلسفي واضح المعالم .
وتنتصب النظرية الموقفية كخيار ثالث يتجاوز بعض ما قررته النظريات السلوكية،بحيث تتحدد معالم هذه النظرية بتركيزها على المتغيرات التي تحدث في البيئة الخارجية وما ينبغي أن يقابلها على نحو متناسب من تغيير داخل المؤسسة.فلا يوجد نمط قيادي فعال في كل المواقف،بل يجب أن تنبثق الاستراتيجيات الإدارية من التفاعل الحاصل بين عوامل ثلاث هي: نوع القائد،ونوع الجماعة،وطبيعة الموقف.
تعدد النظريات أفرز لاحقا تعددا في الأنماط الإدارية،إلا أن حركة العالم النامي في خضم التحولات العالمية المتسارعة تكشف عن هيمنة تصورين يحكمان السلوك الإداري.يعبر أحدهما عن وقوف مأساوي أمام تيار العولمة الهادر،بينما يستجيب الآخر لمطلب المواكبة الجادة و الفاعلة.
يسود التصور الأول نمطان إداريان تقليديان : الإدارة بالأساليب،و هو نمط يُغلب الشكل على المضمون، ويفضل حصر الممارسة الإدارية في جانبها الخدماتي الذي يحقق أهداف الإدارة العليا دون الالتفات لمطالب المؤسسة التعليمية.ونمط الإدارة بالأهداف الذي يُعنى بتقسيم وتفتيت الأهداف الاستراتيجية إلى مهام بسيطة على نحو تراتبي يُحدث خللا وانفصاما في الرؤية.
أما التصور الثاني فيرتفع فوق الاستجابة لإصلاح هيكلي قصير الأمد صوب تغيير ثقافي يجعل من الكيان المدرسي وحدة أساسية في صنع القرار و التخطيط المستقبلي،وذلك عبر نمطين إداريين: الإدارة بالرؤية،و التي ترفع من مستوى الاتصال،وتحرص على الاستفادة من الإمكانات الذاتية للعاملين،و استثارة طاقاتهم الكامنة،و نمط الإدارة المرئية الذي يحرص على التخفيف من حدة التشويش المؤسسي،واستبعاد المعيقات عبر التكامل المثمر بين أربعة عناصر أساسية وهي: التخطيط،و التنفيذ،والمتابعة،و التطهير .كما يهتم بالقضاء على صور هدر الوسائل و الأنشطة عبر إدخال قيمة السرعة في ثقافة التعليم و التدبير المؤسسي .
ولأن الشق النظري لا يمكنه أن يحقق الضبط العلمي للموقف الإداري،فإن استكمال الفاعلية المطلوبة يقتضي تحديد جملة من المهارات الإدارية التي ينبغي أن يتصف بها القادة التربويون،ضمن مخطط يحرص المؤلف من خلاله على بلوغ مستوى من الاختيار العلمي الدقيق للإداريين،وتحقيق الانسجام بين القدرات الفردية و المهام الوظيفية.
يعدد المؤلف سبع مهارات أساسية ترفع من المستوى التنظيمي داخل المؤسسة،وتسهم في خلق إدارة نموذجية،و هي : مهارات الاتصال،وإدارة الوقت،وإدارة الاجتماعات،وإدارة التغيير،وإدارة ضغوط العمل،وإدارة الأزمات،ثم إدارة الصف.وتحت كل مهارة يستعرض أهم الخطوات والمعيقات،وكذا سبل التجاوز و الأجرأة على مستوى بيئة العمل.بيد أن كم المعطيات الذي يستدعيه المؤلف لتحديد السمات و المهارات يوحي للقارئ بتصور لا يقف عند حدود الكفاءة الإدارية المطلوبة للإسهام في تغيير جوهري للمنظومة التربوية،بل يطمح لبلوغ مستوى القائد التربوي الملهم،ذي البصيرة التي تتغيا تحريك العاملين لتحقيق رؤية مستقبلية أرحب مما يتيحه الواقع.وهو طموح مشروع و لا شك،إلا أنه يتجاوز بكثير سقف الإصلاح الذي تسمح به إكراهات عديدة لا يتسع المجال لإثارتها.
من ضمن ما يُعاب على المؤلف هو كثرة الاستطرادات و الإقحام المخل بالمنهجية التي اختطها وأعلن عنها في مقدمة الكتاب.ففي الحديث عن السمات حاول المؤلف جاهدا استلهام بعض سمات القائد التربوي من كتابات فقهاء و مفكرين مسلمين على نحو متسرع وغير منهجي،فجاء استشهاده بشروط القيادة للأمة من كتابات الماوردي و الجويني وأبي نصر الفارابي مربكا للقارئ،وكاشفا عن تسرع غير مفهوم،واجتزاء للنصوص من سياقها الخاص.يورد مثلا في معرض حصره لقائمة السمات التي ينبغي أن يتمتع بها رجل الإدارة كلاما لابن الأزرق عن الفرق بين الجود و السخاء و الإيثار معللا ذلك بقوله " وإيثار القائد التربوي يجعل منه متميزا عند التعامل مع الفئات المختلفة داخل وخارج المؤسسة التربوية،وتلزمه عند التعامل مع الفئات الأقل حظا من المجتمع" ص55 ،وذلك في خلط غير مستساغ بين السمات لخاصة برجل الإدارة الحديثة ،و أخلاق المروءة التي تتسع لكل أفراد المجتمع !
يحتفظ الكتاب بوجاهته في الدعوة لبناء نظري يوجه الممارسة الإدارية،والتأكيد على أهمية البعد النظري في إعداد وتدريب القادة التربويين وتطوير ممارسة إدارية ذكية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) د.فتحي محمد أبو ناصر : مدخل إلى الإدارة التربوية.دار المسيرة.عمان 2007