تتضمن كل الثقافات معايير تقويم وإرشاد (prescription)، تتراوح تأثيراتها وتختلف باختلاف المجتمعات. والتقويم أيديولوجية أو مجموعة من المعتقدات التي تنص على أن الاستعمال اللغوي، على غرار سلوكات أخرى كالأكل واللباس، يجب أن تتم وفق طرق صحيحة. ومن هنا يصعب فصل طبيعته عن ظواهر التعيير (standardisation) والتطبيع (normalisation)، إذ إنه مثلهما تُفرض قوانينه عن طريق السلطة، وتُقرر "من فوق" وبدون اتفاق خاص، ويعتبر كل خروج عن معاييره، مهما كان طفيفاً انحرافاً أو طرقاً سيئة. وعادة ما تُقنن قواعده في كتب الاستعمال حتى يرجع الناس لها لتمييز الصواب عن الخطأ.1
نحاول في هذه المقالة تبيان إيجابيات وسلبيات التقويم، وحقيقة سوء التفاهم بينه وبين اللسانيات، متبنين، ضمنياً، ضرورته في حياة اللغة. نقف عند الموقف العام للحماة من اللغة الذي يتمثّل، خصوصاً في عدم الفصل بين النسق والاستعمال، ثم نناقش، على ضوء ذلك تضارب تحديد المُقوّمين العرب للخطأ والصواب في اللغة، نحواً ومعنى، ومعاناة سيرورات إدماج العامي في الفصيح من عدم التمييز بين النسقين، اللهجي والفصيح.
التقويم وآثاره:
إذا كان الناس يقبلون نتائج التقويم دون اعتراض، فإن ذلك لا يعني عدم إدراكهم لتأثيراتها وانعكاساتها. ومن المظاهر العامة لآثارها: أولاً استعمال المناسبة، وثانياً التنغيم، وثالثاً تقييم نتائج الاختبارات اللغوية، ورابعاً التمييز الطبقي.
3. موقف اللسانيين من التقويم
إن لموقف اللسانيين واللسانيات أثراً على ظاهرة التقويم والإرشاد. فقد رسّخت تصورات حول التمييز في اللغة بين الحكم والخاصية، من جهة، وبين وظيفة اللسانيات والنحو و/أو التقويم من جهة أخرى. اعتبر اللسانيون أن التقويم اللغوي أو الإرشاد والتوجيه مجال ليس له علاقة باللسانيات. وصنفوا اللسانيات كحقل معرفة وصفي يهتم بما يُقال، لا بما يجب أو ينبغي أن يُقال، إنه يعتني بخصائص اللغة، ولا يُقرر قواعد الصواب أو الصحيح، يهتم بالدراسة الموضوعية لأشكال اللغة، ويعتبر اللغة مقدرة كلية تنبني معرفتها على ملاحظة المعطيات، وليس على إصدار الأحكام (prejudices). إن اللسانيات علم، على غرار علم الفيزياء أو الأحياء، وإذا كان من السخافة أن يرفض عالم الفيزياء والأحياء دراسة بعض الذرات أو الحيوانات، لأن هذه معقدة أو قذرة، وتلك بشعة، مثلاً، فمن المثير للسخرية أن لا يدرس عالم اللغة بعض أنواع الاستعمال اللغوي، لأن هناك مواقف سلبية منها. لقد بين ماكس مولر (max miller)، عالم من علماء القرن الثامن عشر، أن علم اللغة شبيه بعلم الأحياء (البيولوجيا) والجيولوجيا (علم طبقات الأرض)، ومختلف عن العلوم الإنسانية مثل التاريخ والأدب والقانون. وقال إن موضوعه الوحيد اللغة، كما دافع عن كون اللهجات التي لم تنتج الأدب، تعد، في حل بعض المشاكل، أهم من شعر هوميروس (homers) ونثر شيشرون (cicero) (أعظم خطباء وفلاسفة الرومان).2
أخذت اللسانيات مقام حقل معرفي تاريخي أو نشوئي أو ارتقائي وتطوري (evolutionary) يهتم بالأنواع الغامضة والعتيقة من الأشكال غير المعيرة، ويعمل على تفسير سيرورات التحول التي أثرت في اللغات الحديثة مثل الفرنسية والإنجليزية والجرمانية. وهكذا دفع أعضاء المدرسة اللسانية البنيوية بفكرة أن اللسانيات علم لا يدمج عنصر التقويم. قال بلومفيلد (1933)bloomfield: إن اكتشاف لماذا يعتبر تركيب ما جيداً ليس مسالة أساسية في البحث اللساني، و محاولة ذلك مجهود ضائع لا طائل من ورائه. وذهب بعض أتباعه مثل فريز (1957)fries و هال (1950) hall إلى حد رفض المفاهيم اللسانية التقليدية مثل اسم وفعل وصفة، ورفض إقرار وجود مفاهيم من قبيل صواب وخطأ وجيد وغير جيد أو سيئ. أدت التصورات من هذا النوع عن اللسانيات وموضوعها وأهدافها سوء فهم تمظهر في: أولاً لا أهمية للتقويم اللغوي، وثانياً ليس هناك فرق بين الأشكال المعيار والأنواع غير المعيار.
إن ما تسبب في الفهم الخاطئ التأويل غير الصائب لهذه الأفكار. ذلك أن محاولة اللسانيين علمنة اللغة لا تعني عدم العناية بالتقويم، لأن المقصود أن لا أهمية للتقويم في حقل التجريد الصوري و النظري والوصفي، حيث أشكال اللغة، باعتبارها أنساقاً، متساوية، سواء أكانت ممعيرة أو لا. لكن كيفما كان القصد، فإن عدداً من النتائج تبدو واردة، ومنها:
اعتقاد بعض اللغويين أن التقويم ليس عملاً مرموقاً بالمقارنة مع كتابة الأنحاء الصورية،3
اعتبار مستعملي اللغة اللسانيات علماً لا يقدم شيئاً عن الصواب والخطأ والعامي والفصيح،
إغفال الدارسين للفروق اللغوية بين الأنواع المعيار وغير المعيار، ويتجلى ذلك في التغيير، مثلاً. فالتحول والتغير سيرورة لا تقع على مستوى اللغات المعيار، بل غير المعيار من لهجات وعاميات وكلام عفوي،
إهمال دراسة الوظائف الاجتماعية للغة، ورصد اللغة في سياقها المجتمعي، ومعرفة أسباب رقي استعمالات، ودونية أخرى،
تدهور دراسة النحو واللغة على اعتبار ارتباطهما بالتقويم. ذلك أن شيوع الاعتقاد عند الناس بأن اللسانيات أهم وأرقى ينعكس سلباً على الاهتمام بالنحو، وتصير أبسط المصطلحات النحوية من قبيل فاعل، وحرف، ومتعدي، ولازم غامضة، كما يصير التمكن من اللغة، قراءة وكتابة عملية صعبة.
4. . اللغات من وجهة نظر الحماة
الحماة هم المدافعين عن اللغة ممن يتصدون للتردي والفساد، ويسعون إلى التصويب، وتصحيح الأخطاء، وتقويم الاستعمال، سواء أكانوا كتاباً محترفين أو نحاة أو لغويين أو أشخاصاً غيورين على اللغة، وصفائها. ويعد من الثغرات في المواقف العامة للحماة، مفاضلة الأنساق بناءاً على الاستعمال. وغالباً ما تكون الحجج على ذلك مُضللة، لأنها تقول إن نسقاً يتضمن تراكيب أو مؤشرات لا توجد في النسق المُقارن به، أو تذهب إلى أن لغات ماتت واندثرت، بينما أخرى صمدت واستمرت. والواقع أن وراء الاستدلالات الواهية أهداف مجتمعية غير لغوية.4 وسعياً لتبيان عدم موضوعية الاحتجاج على تفاضل اللغات، لنناقش بعض الأمثلة. تتوفر اللغة الدنمركية، مثلاً، على إمكان الاختيار بين المنعكس وغير المنعكس، بحيث سواء تضمن التركيب ضميراً انعكاسياً أو لم يتضمنه، فإن الالتباس غير وارد، كما يظهر من المثالين (1) و (2):
sam er i sit kontot: سامي في مكتبه الشخصي
sam er i hans kontor: سامي في مكتب شخص آخر
وعلى العكس من ذلك، لا تتوفر الإنجليزية والعربية على ضمير الملكية الانعكاسي، كما يظهر من لحن (3) و(4)، وإذا ما استعملنا الضمير العائدي الذي يُحيل على السابق، فإن التركيب يرد ملتبساً، فيما نلاحظ في (5) و(6)، على التوالي:
*يوجد سامي في مكتب نفسه
Sam is in him self s office*
يوجد سامي في مكتبه
Sam is in his office
إن وجود أمثلة مقارنة من النوع المُدرج أعلاه قد يجعل الحماة، ونفترض هنا أنهم دانمركيون، طبعاً، يحتجون باعتماد المقارنة على أفضلية النسق الدنمركي، لكن الحجة واهية ومُضللة، وذلك للأسباب التالية:
- توجد في كل الأنساق اللغوية ثغرات في نقط أو أخرى. بعبارة أخرى، إن عدم وجود ثغرة في النسق الدنمركي في هذه النقطة لا يعني أن اللغة الدنمركية لا تعرف ثغرات في نقط أخرى، والعكس صحيح: وجود ثغرة في العربية والإنجليزية في هذه النقطة لا يعني أنهما يعرفان ثغرات في كل النقط.
- لا تُشكل الثغرات في الأنساق، بالضرورة، مشكلاً، لأنها لا تتسبب في إعاقة الاستعمال، ولا أدل على ذلك من كون العربية والإنجليزية يمكن أن يُفككا الالتباس باستعمال مؤشرات أخرى، فنقول في اللغتين، على التوالي:
يوجد سامي في مكتبه الشخصي
Sam is in his own office
ويعد من الأمثلة الواردة كذلك للاحتجاج على أفضلية لغة أو لهجة القول، في اللغة العربية، مثلاً، إن الفصحى أفضل من اللهجة، لأنها تُميز نحوياً بين المثنى، بينما اللهجة لا تُميز في الاستعمال بين المثنى والجمع:
جئتما: تخاطب به اثنان فقط
جيتو: قد تخاطب به اثنان أو أكثر
إلا أن وجود مؤشر لهجي له وظيفة رفع الالتباس مثل بجوجكم (bjoujkom):
جيتو بجوجكم
يجعل من الممكن مواجهة الحجة بأخرى مقابلة لصالح اللهجة. والفكرة من كل هذا أنه من الصعب الاستدلال على مفاضلة اللغات أو اللهجات لبعضها البعض. فوجود الوسائل التركيبية والنحوية لا يدل على الأفضلية، كما أن تعقد القواعد أو بساطتها أو كثرتها أو قلتها ليست مقاييس لذلك. بل إن مصطلحات راقي ودوني وقبيح وجميل ومنطقي وغير منطقي، ترد على مستوى الاستعمال، وليس على مستوى النسق. لا يمكن لأي كان أن يبرهن على مساواة نسق لآخر، أو أفضليته عن آخر، أو نقصانه بالمقارنة مع آخر، ذلك أن الحكمين أفضل وغير أفضل، بالنسبة للأنساق، يمثلان وجهين لعملة واحدة، ويُعتبران إيديولوجيان غير علميان، لا يمكن أن يُشبعا، كلاهما، لا مبدأ الدحض falsification))، ولا الإثبات (verification).
حاول الحماة، في مناسبات عديدة، الدفاع عن أحكام التفضيل بكون لغات انتشرت على حساب أخرى. وتحضرنا فكرة أن العربية القرشية انتشرت قديماً على حساب اللهجات الأخرى، والإنجليزية في العهود الحديثة انتشرت في بريطانيا على حساب اللغات السّلتية، وتهدد في أستراليا اللغات الأصلية (aboriginal)؛ مقابل ذلك، اندثرت اللاتينية الكلاسيكية التي كانت لغة رسمية لأكبر إمبراطورية. إلا أن الشيوع والانتشار الذي يُكتب للغات والموت والاندثار الذي تؤول إليه أخرى لا يُشير إلى الأفضلية أو النقصان. ذلك أنه لا يوجد دليل لغوي يبين أن النسق القرشي فضُل اللهجات الآخر، أو أن النسق الإنجليزي يفضل غيره؛ والعكس صحيح، أي إن موت اللاتينية لا يعني أنها أقل من العبرية بدعوى أن هذه عادت إلى الحياة وتلك بقيت ميتة. إن ما ضمن للقرشية الهيمنة والاستمرار في الماضي هو نفسه ما يضمن للإنجليزية ذلك اليوم: النجاح الاقتصادي والسياسي، ولعل التحولات والسياسية والاقتصادية كانت وراء عدم استمرار اللاتينية. ولعل في هذه الحقائق ما يدل على أن استدلالات الحماة لا تقوم على حجج لغوية، لأن هدفهم مجتمعي بالأساس يسعى إلى جعل الناس يُقبلون على تعلم الأنساق المعيار، ويعتدون بالاستعمال الممعير الصحيح المفضل المُنتقى حتى يتم تجنب اللبس، ويسود الاتفاق حول الصواب والخطأ، والأفضل من غيره.5
5. تقويم العربية: تضارب وتعارض
نناقش، هنا، عددا من الأمثلة التي يتبين منها غياب الاتفاق على ما هو صائب، وما هو غير صائب. ومنها ما يُشير إلى أن التعارض الذي يصل إلى درجة تخطئة الصواب والاحتجاج لصواب الخطأ قول سعيد الأفغاني إن الدُّولي خطأ، وصوابه الدَّولي، لأنه لا يجوز النسبة إلى الجمع. مقابل ذلك، يرى مصطفى جواد أن النسبة تكون إلى الجمع، ومن ثمّ، فإن الدُّولي هو الصحيح. ويخطئ إبراهيم السامرائي الجملة: "عقب انسحابه من مؤتمر القمة الإفريقي التاسع عشر الذي انعقد بأديس أبابا، صرّح معمر القذافي بكذا؛ لأن الضمير لا يعود على متأخر. وبعكس ذلك، يستدل يوسف نمر ذيّاب على عودته بقوله تعالى: فأوجس في نفسه خفية موسى، وبالمثلَين: على نفسها جنت براقش، وفي بيته يوتى الحكم.6 ويشير موقفنا، نحن أنفسنا، إلى أن القاعدة العامة هي عدم الاتفاق على الصحيح والصواب. وحتى نبيّن ذلك، لنأخذ، مثلا التصويبات التالية في (1) لإبراهيم اليازجي،7 وفي (2) لزكي الجابر وعبد الوهاب الرامي والمهدي الودغيري وقاسم عزيز الوزاني، وآخرون: 8
(1)
الخطأ |
الصواب |
التحوير |
التبييض |
أعلنته بالأمر |
أظهرته وجهرت به |
هذا الأمر مقصور على كذا |
|
فلان من ذوي الشهامة |
المروءة وعزّة النفس |
6. من سيرورات إدماج العامي في الفصحى
نناقش، في هذا القسم بعض المحاولات التي تسعى إلى تقويم الألفاظ العامية بإدماجها في الفصحى.11 نبيّن أن غياب السند أو المبرر، يمثل ثغرة كبيرة، قد تضر باللغة وتُفقرها، في الوقت الذي يُقصد منه إغناؤها وتجديدها وتطويرها. نسمي هذا النوع من المعالجات تلهيجاً. ونقصد به إدماج ألفاظ عامية في الفصحى، دون أن يكون لذلك رائز لغوي، يضمن عدم خرق نسقية الفصحى، والالتزام بقواعدها المعجمية التي تقتضي أبنية نحوية وصرفية ودلالية منمّطة ومُقعّدة. إن التلهيج، بهذا المعنى، تهجين، لأنه يُدخل إلى اللغة أشكالاً غير مطوّعة، بل عشوائية. نبين ذلك، من خلال مناقشة أمثلة لأنيس فريحة من الباحثين العرب، وأخرى لمونتاي (monteil) من الفرنسيين. فقد ذهب الأول إلى كون التراكيب (1-13) من الألفاظ التي تُمثل تطوّر اللهجات، لأنها فصيحة، وإن كانت المعاجم لا تدمجها: 12
1) مْقَعْون
2) بْهْدَل
3) تْشَحْمط
4) طْعَج
5) بْعَج
6) كرَّ الخيط
7) لوق الشيىء، فانلوق
8) بَعط
9) تنوّل واستنول (من الجذر نال)
10) تحمم
11) تقاطع
12) عنَّد
13) نبَّع
يقول أنيس فريحة عن مفردات مثل مقعون: "لما لا نحسب هذه الألفاظ عربية، لاسيما وأن كثيراً منها على جانب من البلاغة في أداء المعنى المحدّد؟"، ويُضيف عن الكلمات في (2-7): إنك لواجد صعوبة في إيجاد ألفاظ عربية فصيحة في قواميسنا تحل محل بهدل وتشحمط وطعج وبعج وكر الخيط ولوق الشيء والشيء انلوق، وغيرها كثير".ويُعلق على بعط بكونه لم يعثر، فيما عثر عليه من المعاني في المحيط، على المعنى اللبناني العامي، أي "الحركة الفُجائية" أو "الحركة التي هي نتيجة إجفال أو حركة مرفوقة برفس". ونقرأ له، في الجانب الصرفي: "عندنا يقولون في جذر نال تنوّل واستنول"، ومن ثم، "وجب أن نعتبر وزني فعّل واستفعل من نال فصيحين، وإن لم تثبتهما المعاجم". وكذلك تحمّم وتقاطع وعنّد ونبّع فصيحة، وإن لم يُتبثها المعجم العربي".
إن في هذه المعالجة خلط بين أشكال العامي ومعانيه، وأشكال الفصيح ومعانيه، فبعض الألفاظ عامية لا ترقى إلى المستوى الفصيح مثل مقعون وبهدل وتشحمط وبعج في الأمثلة (1-5)، وبعضها موجود في المعاجم، ومنه بعج البطن: شقه، فبرزت أحشاؤه، وكرّ الشيء: ردّه ولوقه ولوّقه: ليّنه، وبعط: غلا وأفرط في جهل و عمل قبيح. ومن الخطأ، على المستوى الصرفي، اشتقاق تنوّل واستنال من نال، ثم إن فصيح عنّد هو عند، بمعنى خالف الحق وردّه وهو يعرفه. كما أن فصيح نبّع: أنبع في أنبع الماء، أي أخرجه.
ويرى مونتي، في الاتجاه نفسه، أن من الخصائص العامة للعاميات العربية الحديثة (vulgarismes modernismes) التداول. ويذهب إلى أن لبنانيات بلو (libabanismes de bilot) تمتد إلى المغرب في كلمات مثل: عافاك (bravo) وعْيا (etre malade) وعْيَّط (appeler). ويتساءل: لما لا نعترف بفقر اللغة الكلاسيكية؟ ألا يفتقد معجم هذه اللغة إلى ملايين الكلمات التي أدمجتها اللهجات العربية، بحكم الضرورة العملية؟ أليست اللهجات أكثر غنى؟ أليس في تجاهل التلهيج (vulgarisme) تجاهل التفصيح (classicisme)؟ ويُضيف، لقد كانت العربية تُعبّر بصرِد أو مِصْراد (frileux)، لكن اللهجة اللبنانية كوّنت، عوضا عن ذلك: بَرِّيد، على وزن فعِّيل للتكثيف. ثم، يتساءل، مرّة أخرى: لما لا نتبنى من العربية المعاصرة هذه الكلمة، خصوصا أن نوعها حيوي في كلام لبنان، ومنها: لًعِّيب وصَرِّيف وضَرِّيب وشَغِّيل وشَرِّيب وخَوِّيف.13
وهكذا، يتضح مرمانا من تسمية هذا النوع من المعالجات تلهيجا، لا تفصيحا أو كسلكة، ( من كلاسيكي )، كما يقول صاحبها. ولعل الأسباب بيّنة، ومنها: أولا، لا تتشابه اللهجات العربية، بدليل أن المغربي قد لا يفهم لهجة اللبناني، والعكس؛ وثانيا،لا تؤشر الأمثلة المذكورة إلى فقر الكلاسيكية، إذ تتضمن الفصحى من المعافاة عافى، و العيِّ عيِي، والعيّاط عيّط، والصَّرِدِ صرِدَ، والبرودة بَرَد، واللّعب لعب، والصَّرف صَرَف، والضرب ضرب، والشُّرب شرب، والخوف خاف؛ وثالثا،الأمثلة المُدرجة عامية، في شكلها، ومعناها أحياناً، إذ فصيح عَيَا أعيا اللازم (تعب)، وصرَّد صرِد (برد)، ولعِّيب لعَّاب من لعِب (لها وسخر)، وصرِّيف صارف للمال (من صرفه إذا أنفقه)، وضرِّيب ضرَّاب من ضربه، وشَغِّيل شَغَّال من شغله عنه، إذا لهاه وصرفه، وشرِّيب شرَّاب من شرَّب، أي جرى الماء فيه (وهو لازم)، وخوّيف يختلف عن الخواف، بمعنى الخائف، إذا كان المقصود به، كما يبدو من المقابل الفرنسي الجبان؛ ورابعا، يتعدى التبني، هنا الأشكال العامية غير الفصيحة إلى المعاني العامية غير الفصيحة، كذلك. فمثلا، الصحة والبُرء هو المعنى الوارد في المعافاة، وليس إقرار الامتياز، كما هو الشأن في اللهجة.
7. من ردّ العامي إلى الفصيح
من الألفاظ التي يستعملها الكتاب في شمال نجد محجوزة بين قوسين، ظناّ منهم أنها عامية، تلك التي يوردها عبد الرحمن بن زيد السويداء، مبيِّنا فصاحتها. نُدرج مما أورده ثلاثة أمثلة، اعتبرها "فصيحة قُحّة":14
(1)
العامي |
الفصيح |
1- إيْهْ |
نعم |
2- هَاك |
خُذ |
3- سعل الرّجل سُعالا حتى اتضحت له المسعلة |
سأل الرّجل سؤالا حتى اتّضحت له المسألة |
2)
الفرع العامي |
الأصل الفصيح |
4- أدن الدلو: موضع العروة من الدلو |
المِسمع |
5- البرّاد: آنية يُبرّد فيها الماء حتى يجمد |
المِخشَف |
ومما يعتبره الأب ميخائيل اليسوعي ألفاظا من مئات الألفاظ المشتقة من لغة الضاد، ما يلي:16
(3)
اللفظ المشتق |
الأصل المشتق منه |
6- استوى الطعام |
نضج |
7- تلفّف الثوب |
غطى جسمه به |
8- خبز حاف |
خبز بدون إدام |
9- حطّه |
وضعه |
10-تحوّل |
انتقل |
11- خاطره |
راهنه |
12- خبطه |
ضربه ضربا شديدا |
13- راح |
ذهب |
14- شحتورة |
زورق |
15- شخر |
غطّ |
16- شطف |
غسل |
17- شقفة |
قِطعة |
18- راح |
ذهب |
19- عتّال |
حمّال |
20- عيّط |
صاح |
21- حنش |
حيّة |
22- سلّحه |
عرّاه |
23- عتمة الليل |
ظلمة الليل |
24- تقنفص |
تكبّر |
ومن الألفاظ المغربية الوَجدية (نسبة إلى وجدة) التي ربطها الباحثين سلام عمرو وسهول مصطفى بمقابلاتها في الفصحى، بهدف إحيائها، وإبعاد سواها لمساعدة الناشئة على استيعاب الألفاظ الفصيحة، وردم الهوّة بين الدارجة والفصحى، ما يلي في الجدول الرابع:17
(4)
اللفظ الدارج |
أصله الفصيح |
التغيير الذي لحقه |
25- بزّاف |
بالجزاف |
أدغم الجيم في الزاي |
26- دصارة: وقاحة |
جسارة: شجاعة |
تحوّلت الجيم إلى زاي |
27- بْسَجَدي |
بجسدي |
حلّت السين معل الجيم |
28- لوم: عتاب |
لؤم: خبث وخداع |
حُذف الهمز |
29- يَزِّي |
يجْزي: يكفي |
أدغم الجيم في الزاي |
30- نطّ |
نهضت |
أدغم الضاد في التاء |
31- عنّا |
عندنا |
أدغم الدال في النون |
32- جّاج |
زجاج |
أدغم الزاي في الجيم |
33- هكّا |
هكذا |
أدغمت الدال في الكاف |
34- عجوج |
عجوز |
تحوّلت الزاي جيما |
35- يخمّم |
يُخمّن |
حلّت الميم محل النون |
36- فنجال |
فنجان |
انقلبت إحدى النونين لااما |
37- سْلسلة |
سِلسلة |
تحولت إحدى النونين لاما |
38- صحّيت |
صححت |
تحوّلت إحدى الحائين ياءا |
39- كَزيره دزيرة |
جزيرة |
تحوّلت الجيم كَافا أو دالا |
40- عْكَوز |
عجوز |
تحوّلت الجيم كَافا |
اعتمدا في ربط اللفظ الدارج بأصله الفصيح على الحدس والحسّ اللغوين، بتتبع التشابه الصوتي والدلالي. وأكدا، في مرحلة ثانية، افتراض الترابط، بالرجوع إلى المعاجم من مثل لسان العرب والقاموس والمحيط والمنجد في اللغة والأعلام. وجدا في اللسان الجُزاف والجِزاف والجُزافة والجِزافة: بيعُك الشيء واشتراؤكَه بلا وزن ولا كيل. تقول: بعته بالجُزاف. ومن ثمّ استخلصا ما يلي: "هناك إذن تقارب صوتي بين اللفظين وانزياح دلالي طفيف بينهما، إذ ما اعتبرنا معنى الكميّة بدون وزن أو كيل الموجود في المعجم، والمعنى تُفيده لفظة بزّاف في الدارجة المغربية، وهو الكمّ والكثرة، على وجه التحديد، فما كان يعني بيع الشيء بدون وزن أو كيل، أصبح يعني الكثرة، وهذا يٌؤكد العلاقة المفترضة بين اللفظين". فهذه الألفاظ، بعكس الأمثلة في (25-40)، تمثل تحوّلا في الشكل والمضمون.
وجمع عبد المنعم سيد عبد العال من اللهجة التطوانية الحديثة عددا من الأحاديث والأمثال والقصص، و كلام العامة دون الخاصة، وغير المتعلّمين. سجّل أشرطة تمثل مجموعة أحاديث يومية وبعض الأغاني الشعبية و التمثيليات والبرامج التي تُعرض في الإذاعة بالدارجة المغربية. ومما أورده، نذكر العيّنة التالية في الجدول الخامس:18
(5)
العامي ودلالته الحديثة |
الدلالة القديمة في الفصحى |
41- بْرح البرّاح: نادى |
برّحه: جهده وضربه ضربا شديدا |
42- أبو هيوف: شدّة الجوع |
شدّة العطش |
43- لحرامي: الذكي |
شدّة العطش |
44- حْزّْرُ: حايله |
قدّره وخمَّنه |
45- حْزْقان: مُفلس |
الحُزق: الرّجل البخيل |
46- لْخِزو: الجزر |
الجزر |
47- لْخَصَّه: نافورة الماء |
الخاصّة خلاف العامّة |
48- حتّى: أيّ |
بمعنى الجر وكي والعطف والابتداء |
49- لْحْبيب: الخال |
المحبوب |
50- البطانة: فروة الخروف إذا كان حيّا |
البطانة من الثوب خلاف ظهارته |
51- الحائك: الملاءة ترتديها المرأة |
النسّاج |
كان هذا عرضا مفصّلا لنماذج من سيرورات ردّ العامي إلى الفصيح. ونحاول، الآن، تلخيص عدد من ثغرات معالجات من هذا النوع:
1. إن ما يُعتقد أنه أصل للفرع ما هو، في الحقيقة، إلا مُرادف للعامي أو مُقابل شارح له: لاحظ في الجدول (1) المثالين (1-2)، وفي (2): (4-5)، وفي (3): (6-19)؛
2. قد لا يُمثِّل الفرع مرادفا للأصل، فمثلا، الحيَّة والحنش في (19) من الجدول الثالث مختلفان من حيث المعنى. ففي المعجم الوسيط: الحنش حيّة سوداء ليست من ذوات السموم، والحيّة من الزواحف كالثعبان والأفعى، أي، إذا كان كل منهما من الزواحف، فإنهما لا يُشيران إلى الشيء نفسه. وسلخ: راث، وأسلحه وسلّحه الدواء: جعله يسلح، وهو معنى لا علاقة له بعرّاه العامي. وتدل عتمة الليل في المثال (21) ظلام أوّله بعد زوال الشفق، وليس الظلام نفسه. وإذا كان عيّط في التركيب(20) يُشير إلى الصياح أكثر من مرّة، فأنه في الفصحى يُشير، كما نلاحظ، إلى الصياح مرّة واحدة. ولا يعني قفص بدلالة صعد وارتفع في المثال (24) التكَبُّر، وهو، وإن كان يُمثِّل تطوّرا، فإنه غير مرادف. وينطبق الحكم نفسه على (26-28) في الجدول الثالت، بخلاف الأمثلة في (28)، حيث الترادف، على الرغم من التغيّر اللفظي واضح.
3. أحيانا، يكون الفرع لهجة مُستبقاة مُستمرّة من اللهجات القديمة في اللهجات الحديثة، لكنه ليس فصيحا قُحّا، كما يذهب إلى ذلك عبد الرحمن السويداء في المثال (3) من الجدول الأوّل؛
4. تترك بعض المقاربات مجالا للشك حين تعتمد الافتراض والتخمين في التفصيح. فمثلا، نعتبر أن ما يُشير، في لفظ الجُزاف في المثال (25) من الجدول الرابع، إلى البيع والشراء بالكثرة دون وزن ولا كيل في الدارجة المغربية، بما فيها الوجدية، هو لفظ بجّمله (بالجملة). نقول: شريتو بجّمله. ثم إن لفظ الجزاف يدل، في الأصل، على البيع بالكثرة، وليس على الكثرة نفسها. نقرأ في المعجم الوسيط: جزف له في الكيل أكثر، وجازف: باع الشيء لا يعلم كيله أو وزنه، واجتزف الشيء: اشتراه جزافا والجزاف الشيء لا يُعلم كيله أو وزنه؛
5. يمكن، على مستوى آخر، التساؤل: ما جدوى إدراج ألفاظ متشابهة في الشكل، مختلفة في المعنى والاستعمال، كما في (26) و(27)؟ بعبارة أخرى، ما الفائدة منها إذا كانت لا تحقق الهدف المنشود من ردّ العامي إلى الفصيح؟
6. نستشف، في بعض المقاربات، اعتباطية لا تستند إلى روائز في الربط، بل يُقتصر فيها على إدراج لفظ بمعناه في العامية والفصحى، يظهر ذلك في الجدول الرابع. أكثر من ذلك، نجد أن لبعض الألفاظ معنى واحداً (38 مثلا)، بينما لْحبيب في العربية المغربية، قد يُشير إلى الخال، كما قد يدل على المحبوب.
7. يظهر، أحيانا، انتهاج الترجمة اللاحنة، إذ إن صواب الجملة (48) من الجدول الخامس هو لا أحد في الدار.
8. خاتمة
نخلص مما ورد أن ظاهرة التقويم في الدرس العربي تعاني، على مستوى النحو والمعاني، من عدم الاتفاق على الصّائب والخاطئ. أما فيما يخصّ إدماج العامي في الفصيح، فإنها تخلط بين النسقين اللهجي والفصيح، مما يجعلها تسقط في التلهيج أو عدم التمييز بين أشكال العامي والفصيح، ومعانيهما. وعليه، فإننا مازلنا نحتاج إلى مراجعة قوانين التعيير والتنميط، بحيث نخلّص التقويم، إن على مستوى القواعد أو تحديث المعجم، من التضارب، ونمده بما ينير طريق الاستعمال اللغوي، ويرد الثقة إلى معايير العربية، وقضايا تقريب العامي من الفصيح وإدماجه فيه.