عرف الطب النفسي السلالي أو العرقي (Ethnopsychiatrie) منذ نشأته - قبل أكثر من ربع قرن - كيف ينصت لكلمات هؤلاء السكان المهاجرين غير المسجلين، هؤلاء الأشخاص الهامشيين بلا ممثلين. منذ ذلك الحين وهو يعرف كيف لا يبخس تجاربهم، وكيف يعترف بما تكتنفه من قوة وفكر وحقيقة.
من أجل الاطلاع على هذا التخصص الجديد من علم النفس أدعو القراء الكرام الى متابعة هذا الملف الذي أنجزه سويا كل من توبي ناثان Tobie Nathan وزميلته اميل هرمان Emilie Hermant. الملف منشور في الانترنت بهذا الرابط: http://www.ethnopsychiatrie.net/Ceci.htm
عملية تكييف: لماذا يكون الخط 13 من مترو باريس غير مريح تماما؟ هل فقط لأن المهاجرين الذين يستعملونه يكونون متعبين جدا بحيث أنهم ينامون على الرغم من الضجيج، من التوقفات في الوقت غير المناسب، من الحركات الجانبية التي لا تطاق للسيارات؟ الجو حار في الصيف، بارد جدا في الشتاء - الخط 13 يزيد من درجة الحرارة! تقريبا، عند كل محطة يصعد متسول، متسولة لا يفتآن يجعلان منك متهما - يصرخان، يبكيان أو يغنيان؛ بالفرنسية، بالغجرية، بالعربية. كل واحد (من الركاب) يقحم أنفه في الجريدة، ينظر الى قدميه، ينظر الى مكان آخر..الخط 13 يمنحك نظرة حالمة. الخط 13 يؤدي الى أماكن أخرى!

يتساءل لوبايور جنسن في بحث صدر له قبل سنوات: "هل تجربة الاعتقال دقيقة عن الوصف؟" قد تبدو خلاصته هاته مفارقة حتى ولو كانت تستند إلى تحليل كبريات الروايات التي أثارتها المعتقلات النازية والستالينية؛ ذلك لكون تجربة المعتقلات بحصر المعنى غير قابلة لأن تحكى، ومع ذلك أظهرت إلى الوجود بضعة أعمال رائعة تنضاف إلى روائع الأدب العالمي المعاصر: "الجنس البشري" لروبير أنتيلم، "لو كان إنسانا" لبريمو ليفي، "عالم المعتقلات" لدفيد روسي أو "عالم من صخر" لتادوش بروفسكي.
القاسم المشترك بين هذه الروايات هو أن أصحابها أبدعوا كتابات جديدة..نفس الشيء ينطبق على "حكايات الكوليما" (Récits de la Kolyma) لفارلام شلاموف، وهي الآن متوفرة بطبعتها الكاملة وبنوع من التأليف الذي أراده كاتبها. كان روبير أنتيلم هو أول من سجل، منذ عودته من بوشنوالد في 1945، الهوة السحيقة التي كانت موجودة بين رغبة الناجين في الكلام وفي الاستماع إليهم وبين "المسافة التي نكتشفها بين اللغة التي نمتلكها وهذه التجربة التي ما زلنا، في الغالب، بصدد مواصلتها بداخل أجسادنا، فما نكاد نشرع في الحكي حتى نصاب بالاختناق..حتى بالنسبة إلينا، فقد بدا لنا ما كنا مقبلين على قوله شيئا غير قابل للتصور."

هذا هو العنوان الذي وضعه جان – لوران كاسلي لمقاله الطويل نسبيا حول عالم الاجتماع الفرنسي ميشال مافيزولي والذي نشر بالمجلة الالكترونية " Slate.fr" بتاريخ 09- 05- 2014 . قبل الشروع في عرض مضامين هذه المقالة ، أرى أنه من المناسب تقديم بعض التوضيحات بشأن عنوان المقال وأبرز المثقفين الداعمين للمجلة. بالنسبة للعنوان، يلاحظ أني وضعت اسم عناق بن عواج مقابل كلمة لاتينية تعني عملاقا في الميثولوجيا السكنديفانية . أما فيما يتعلق بالمؤسسين للمجلة الناشرة للمقال ، فمن أبرزهم جاك أتالي مؤلف كتاب " كارل ماركس أو روح العالم " الصادر بباريس عن دار النشر فايارد سنة 2007 الى جانب اريك لو بوشي أحد الصحافيين الفرنسيين المرموقين.
بالنسبة لعالم الاجتماع الفرنسي ، مافيزولي ، المتخصص في سوسيولوجيا " القبائل " ، لا تدرك النخب جيدا حركية المجتمع ولا التطلعات الجماعاتية لأعضائه . فثرثرة الصحافيين والسياسيين والموظفين السامين و"الخبراء" لا تسترعي اهتمام عدد كبير من الناس . لكن ماذا عن ثرثرته هو ؟
" لم يعد المجتمع هو الذي سوف يسود ؛ بل القبائل . ليس المقصود هنا المجموعات الكبرى ، بل بروز مجموعات صغرى تجمع بينها تفاهمات عميقة ؛ موسيقية ، جنسية ، دينية ، رياضية ، الخ . فما بعد الحداثة هي القبائل زائد الانترنيت ، انها تركيب من تقليد القديم والتطور التكنولوجي ."

تقديم :
يرصد موران في هذا العرض مجموعة من الظواهر الهامة التي تحدد مصير المجتمعات البشرية في العصر الحديث: فالواقع معقد، سريع التطور... وهو ما يستدعي التدخل الفاعل من قبل صانعي الأفكار كي يبادروا إلى فهمه، ويبحثوا عن حلول له. ولا يتحقق ذلك إلا ببناء معرفة جديدة تتفاعل فيها اختصاصات معرفية مختلفة من أجل تأسيس وعي شمولي يتجاوب مع واقع مركب. وبروح المصلح يحاول الفيلسوف أن يرصد مشكلات هذا الواقع، ويرسم أفقا للتفكير في الحلول الضرورية لتفادي المخاطر التي يحملها، والتي تهدد مستقبل البشرية. ( المترجم)
نص إدغار موران
سأنطلق من ملاحظة للفيلسوف الإسباني خوسي أورتيغا إي غاسيت José Ortega y Gasset يقول فيها: "إننا لا نعرف ما يحدث مع أن ذلك هو ما يحدث بالضبط". ما سبب هذا الجهل؟ السبب هو أن الوعي يأتي دائما متأخرا إزاء الحدث من أجل فهم ما يحدث. والسبب الثاني هو أننا نعيش في عصر يتطور بسرعة فائقة، وهو ما يجعل الوعي يتأخر أكثر. أضف إلى ذلك أن الأحداث قد بلغت درجة هائلة من التعقيد: لقد أصبح كل شيء متداخلا، الظواهر الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والدينية. وهذا التعقيد هو ما سيتعصي على الفهم. وهكذا نجد أنفسنا في وضعية إعاقة معرفية، خاصة وأن هذه المعرفة التي نتوفر عليها ونستعملها قد تشكلت ضمن اختصاصات منفصلة عن بعضها، مجزأة ولا تتواصل فيما بينها. هناك خبراء في الاقتصاد، وخبراء في الطوبوغرافيا، وخبراء  في كل العلوم، ولكن هذه العلوم لا تتواصل مع بعضها.
 إن الواقع لا يشبه الجامعة. إن الأمور المنفصلة عن بعضها في الجامعة متداخلة في الواقع. وهذا هو السبب الأخير: إن نمط معرفتنا يجعلنا عميانا إزاء المشكلات العامة والأساسية. هذا المشكل إذن بالغ الأهمية لأن الأمر يتعلق بمشاكل أصبحت حيوية، وفي نفس الوقت أصبحت قاتلة. لنحاول إذن أن نبدأ  بتشخيص لما يحدث. ما يحدث، الجميع يعرفه.  إنه العولمة، أي أن كل شيء قد أصبح مترابطا ومتشابكا داخل سيرورة متزايدة. هذه العولمة تحمل في طياتها الحسن والقبيح.

بعد ألفیة من الظلام (من القرن الثالث إلى القرن الثالث عشر)، أیقظت النھضة الآداب والفنون بفضل العودة إلى الأصول الإغریقیة اللاتینیة للحضارة الغربیة. فمنذ بترارك حتى إراسم، ربط المحركون الرئیسیون لھذا التطور بین أوربا العالمة (المثقفة) والعبقریة الیونانیة القدیمة. لاحقا، سوف ینشد آخرون التحرر من قبضة ھذه الأخیرة. تحول ھذا النقاش في القرن السابع عشر إلى حرب مفتوحة. فالتطورات الحاصلة للغة الفرنسیة والتي شجعھا تأسیس الأكادیمیة الفرنسیة سنة 1634والتي رمز إلیھا قرار دیكارت القاضي بنشر “خطاب في المنھج” باللغة الفرنسیة سنة 1637 وسعت من دائرة الجمھور المتعلم بحیث أصبحت تضم “الناس الشرفاء” ومرتادي الصالونات الخاصة الذین التحقوا بأھل الأدب بعد أن قطعوا الاتصال باللغة اللاتینیة وبالثقافة التي تمثلھا. ھكذا تشكل حزب “حدیث” یستعمل نفوذ لویس الرابع عشر لمحاولة قطع الصلات التي تربط إنتاجات الفكر بالتقلید الیوناني القدیم. في ھذا السیاق، أثارت قصیدة شارل بیرو (مؤلف “الحكایات”) المعنونة ب”قرن لویس الرابع عشر” والمنشورة عام 1687 حفیظة بوالو وارتفعت بالنقاشات إلى مستوى أكثر سخونة. لھذا كلھ، تبعث النصوص المجموعة الیوم في كتاب “خصومة القدماء والمحدثین” لمارك فومارولي على الدھشة بفضل فن الخطاب (المنسي) وكمال اللغة اللذین تشھد علیھما النصوص ذاتھا. لقد أراد بیرو والمقربون إلیھ أن یجعلوا من قرن لویس الرابع عشر أول قرن حدیث. كورناي، مولییر، بوالو، راسین، لافونتین جعلوا منھ آخر قرن كلاسیكي. لكن خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر أبانت الخصومة عن غنى تلك التداعیات. وبمناسبة صدور ھذا الكتاب، أجرت مجلة "لوبوان" الفرنسية الذائعة الصیت مع مارك فومارولي مؤلف الكتاب حوارا مطولا أقدم فیما یلي ترجمتھ إلى لغة الضاد.

يطبع الثقافة العربية والثقافة الإيطالية تمازج تاريخي قلّ نظيره، في علاقة الشرق بالغرب، يسبق فترة التواجد العربي الإسلامي في صقلية ويمتد إلى عصور قرطاجة وفينيقيا، ولكن في مقابل ذلك التواصل يطبع هاتين الثقافتين جفاء في التاريخ الحديث ليس له مبرر، يتجلى بوجه بارز في فتور مجال الترجمة بين اللغتين. فإلى حدود تاريخنا الحالي لم تتجاوز أعمال الترجمة من الإيطالية إلى العربية 340 عملا، توزّعت بين 250 عملا أدبيا، و 43 عملا مسرحيا، و 47 عملا غطّت مجالات متنوّعة في العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنية.
العربية والإيطالية.. جفاء مريب
في الحقيقة نادرا ما يقرأ المرء ما يثلج الصدر حين يتابع واقع الترجمة في البلاد العربية، فالإحصائيات مقارنة بلغات وبلدان أخرى مدعاة للشعور بالأسى؛ لكن في ظل هذا الجو القاتم لا يمكن للمرء أن يغفل عما أنجزه "مشروع كلمة" الإماراتي. فقد أدرك هذا المشروع الفتيّ منذ انطلاقته هذا النقص الفادح في التواصل الثقافي بين اللغتين. ولعل الأرقام المسجّلة بين العربية والإيطالية مدعاة لطرح العديد من التساؤلات. لماذا هذا التدابر والتجافي بين اللسانين في الراهن الحالي رغم الصلات التاريخية بين الواقعين وبين الحضارتين في سابق عهديهما؟

يدافع ليوطار في هذا النص الحاسم –الجذري بشكل هادئ- على موقع جديد ضمن تصورات إعادة كتابة الحداثة الإبيستمولوجية بما هي مجاوزة للميتافيزيقا. يناقش ليوطار طرحين أساسيين في تصور إعادة الكتابة هذه: طرح المجاوزة كما هو مع هايدغر وفرويد وماركس ونتشه، وطرح مجاوزة المجاوزة كما هو عند بودريار. يعتبر ليوطار أن مجاوزة الميتافيزيقا تحققت داخل أرض الميتافزيقا، وأن مجاوزة المجاوزة لا زالت محكومة بالأنطولوجيا السرية للميتافيزيقا. يستثمر ليوطار في بنائه لأنطولوجيا للتفادي (تفادي الميتافيزيقا والمجاوزة ومجاوزة المجاوزة) مفهوم فرويد حول لا نهائية التأويل، وهو التأويل الذي يذيب ذاته في صلب ما يبغي تأويله أو إعادة كتابته. وتنجم الأنطولوجيا المحركة لهذا التصور من وضع ليوطار للجميل (أي للذي، خلافا للإبستمولوجي والسياسي، يفرض لا نهائية تأويلية) في جذر الفكر والمعنى والتأويل.
 

لا أظن أن في تاريخ الفكر البشري فكرا عانى، ومازال يعاني من ظلم المؤرخين كالفكر الفلسفي في الإسلام[4].
مقدمة:
إذا كانت الفلسفة بصفة عامة من المواضيع التي يصعب التأريخ لها؛ فإن الكثير من الباحثين يعتقد أن الفلسفة العربية هي من أكثر الفلسفات التي  تعكس تلك الصعوبة،  التي يواجهها المؤرخون للفلسفة بصفة عامة لاسيما المختصون في الدراسات العربية والإسلامية. وبطبيعة الحال لا أتفق مع هذه الدعوى التي تقول بأن الفلسفة العربية تستعصي على التأريخ، وسأبين فيما بعد بالحجج الدامغة أسباب شيوع الفكرة القائلة بصعوبة التأريخ للفلسفة العربية في أوساط الباحثين في حقلي الدراسات العربية والدراسات الإسلامية. ولعل من أسباب شيوع هذه الدعوى أن مؤرخي الفلسفة بصفة عامة؛ سواء مؤرخي الفلسفة اليونانية أو فلسفة القرون الوسطى،  وذوي التكوين العميق في اللغة اليونانية واللاتينية لا يجدون في تكوينهم العلمي والأكاديمي ما يساعدهم على تذليل الصعوبات التي تواجههم عند التعامل مع الفلسفة العربية. وتعتبر اللغة العربية هي العقبة الكأداء التي تواجههم، بالإضافة إلى التباين الذي يحسه هؤلاء الباحثون بين ثقافتهم والثقافة العربية الإسلامية. وعندما يجتهد الباحث المجد منهم في الاشتغال على الفلسفة العربية عن طريق مطالعة الدراسات  التي أنجزها في الموضوع  المستشرقون الذين أرخوا للفلسفة العربية، يجد أن تلك الدراسات لا تسمن ولا تغني من جوع كما سأبين ذلك فيما بعد.