شكل الإله ديونيزوس في الميثولوجيا الاغريقية، ذلك الجانب الحيوي والواقعي في نفس الآن، كما اعتبر سقراط ـ تلك الشخصية التي تحوم حولها علامات استفهام كثيرة ـ الجانب الآخر الذي أعلى من التشابه والتذكر والفكرة والفضيلة.. ديونيزوس ينتصر للحظة، أي للحياة، بينما يدينها سقراط معتبرا إياها مرضا توجب الشفاء منه عن طريق الموت. إذا ذهبنا مع ديونيزوس إلى أبعد نقطة، نكون على مشارف أعتاب الجنون، وإذا سرنا حذو النعل بالنعل مع سقراط، سنقصي ما لا يجب إقصاؤه. هل يمكن أن نتخلى عنهما معا؟ أم هل سننتصر لواحد دون الآخر؟ تصوروا معي حياة يسود فيها القياس في كل شيء. وتصورا معي واحدة أخرى عنوانها تيه متواصل دون بوصلة، ولو لهنيهة وحيدة من الزمن.. الحال أنه بفضل النبش الذي قام به نيتشه بين تضاعيف تاريخ الفلسفة، سيتمكن الرجل من استعادة هذا الذي تم طمسه بوعي أحيانا، وبغير وعي أحيان أخرى، أي بالإعلاء من شأن ديونيزوس كروح من خلالها تتدفق الحياة تباعا، لكن مع ضرورة التخلص من السقراطية التي اعتبرت حاجزا ضد الاختلاف والنسيان والجسد والحياة.. في هذا النص، سنتوقف عند مميزات كل تقليد، وكذلك عند الآثار التي يخلفانها.. سنتخيل أو قل سنفترض أيضا نتيجة الإنصات لكل تقليد بعينه.. وقد يكون الأمر ممتعا، عندما سيحاول القارئ تصنيف نفسه بين ديونيزوس نيتشه، وسقراط أفلاطون، لكن دون القفز عن وجهة نظر لاورنس التي اعتبرت حصيفة في هذا المقام..
...من أجل ختم القول، سأعمل في هذا المقام على دراسة تقليد فلسفي معاد للتقليد السقراطي، وناقد لمقوماته كذلك، وهنا أخص بالذكر التقليد الديونيزي، حيث ستتم الاستعانة في هذا الأمر، على جملة من المفكرين الرومانسيين من قبيل ويليام بلاك، وفرديريك نيتشه، وهمان، ناهيك عن لاورنس، ثم كارل يونغ، وأخيرا هنري ميلر.
ينبني التقليد السقراطي بداية، على مقدمة مفادها أن الفضائل بمثابة ضابط للذات والتعقل والوعي والقياس، والحال أنه في هذا التقليد تسكن تراتبية روحانية حيث الانتصار للجانبين الواعي والعقلي باعتبارهما أكثر الجوانب سموا لدى الانسان، بينما يتم الحط من الجانبين الحدسي والعاطفي، والحال أنه وفق هذه التراتبية، فإن سقراط وتلامذته يؤكدون أن الوجود الأكثر سموا لدى الفيلسوف هو الوجود الذهني، حيث ينال حظوة أكبر مقارنة بالحياة التي تعتمد بشكل كبير على الجانب الحدسي أو الجانب الفيزيائي، وهو الأمر الذي يجد حضوره لدى الفنان أو الجندي أو المحب.
وفي مقابل هذا الأمر، فإن التقليد الديونيزي يحتفل بنمط الحياة بشكل يختلف عن التقليد سابق الذكر، حيث أن سقراط ينصح الانسان بضرورة ضبط ذاته، كمنطق مؤسس للتقليد الذي عمل على تأسيسه. بينما يحث ديونيزوس على ضرورة أن ننفلت نحو كل ما يمت بصلة للجسد والموسيقى والرقص والنشوة. من ثمة نخلص إلى أن سقراط أعلى من شأن ما هو عقلاني وما هو محدد بدقة، بينما يسوقنا ديونيزوس نحو ما هو عبثي وما هو خارق للنظام. وبناء على ذلك، فإن من بين الأسماء التي كانت تُطلق على ديونيزوس، نجد اسم ليزيوس Lysios الذي يدل على كل ما يحرر، إنه يحررنا من الخدر والتسامح. والواقع أنه عندما أقر وحث سقراط على المعرفة الواعية والعلمية للذات، فإن أتباع ديونيزوس أحيوا سلطة كل ما هو غير واعٍ، وكل ما هو حدسي كذلك، الأمر الذي جعل لاورنس يطلق على هذا الأمر اسم المعرفة بواسطة الجسد.
وبناء على ذلك، فإن أتباع ديونيزوس سخروا من سقراط وتأكيداته المثيرة للضحك، أي تلك التي ترى أن الحياة التي لا تخضع لاختبار العقل لا تستحق أن تعاش. وفي مقابل ذلك، يقترح علينا أتباع ديونيزوس قاعدة مفادها أنه كلما اختبرنا وعْينا، كلما مات فينا ما هو ميكروسكوبي، بالتالي، قد لا يأخذنا العجب عندما نراهم يقولون أن الفلاسفة هم آخر الأشخاص الذين توجب أن نقدم لهم النصيحة: انظروا إليهم وسترون أنهم ضعفاء شاحبين ومتألمين بشكل غير ظاهر، بل وبطريقة سهلة المنال. لذا فالطبيعة لعنتهم، ومن أجل أن ينتقموا منها، خلقوا لأنفسهم نمطا جديدا من السعادة يُمنّون به أنفسهم، معتقدين أنه وحده الفضيلة سعيدة. وعلى النقيض من ذلك، يُعَلم الديونيزيون أن سقراط يكذب، لأنهم يعرفون أن الفرح والسعادة الأصيلة إنما مردها ومنبعها الجسد والرقص والحب، ومنه فإنهم يؤكدون قائلين: إذا أراد فيلسوف ما، أن يدمجكم نحو تمرين اختبار عقلكم داعيا إلى ضبط ذواتكم، فما عليكم إلا أن تسخروا منه حتى تسقطوا على ظهوركم من شدة الضحك، ولا تنسوا كذلك أن تجذبوا له لحيته.
صراحة، لقد أحببت التقليد الديونيزي عندما كنت أدرس في الجامعة، ولقد كان كتاب قوس قزح للمفكر لاورنس، ثم مؤلف ميلاد التراجيديا لنيتشه بمثابة قول مسهب وعنيف ضد العقلانية المتفائلة لسقراط، حيث عمل نيتشه في هذا الصدد على مد جسور التواصل مع ديونيزوس، إذ بدل طقوس الرقص التي كانت تقام في حضرة بان pan ألفينا أنفسنا اليوم أمام الفلسفة وعلم النفس والعقلانية العلمية والاقتصاد وعديد المباحث التي قتلت فينا الجانب الروحي، من ثمة فقد توجب علينا أن نثور ضد عقلانية الأنوار التي تجد في سقراط منبعها، وذلك سعيا نحو العودة إلى العالم الحدسي والفيزيائي، لذا فقد راقني هذا الذي تحقق في تلك الحقبة، واليوم أجده ممتعا أكثر عندما يقدم لنا فَأْري المكتبة لاورنس ونيتشه طَبَقاً قوامه الجسد والقوة والخصب.
لكن للأسف، ألفيتني عندئذ مع ديونيزوس، معلقا بين السماء والأرض، وذلك حينما بدأت أعاني من هذه العواطف المبعثرة، حيث انهممت بكاتبي المفضل لاورنس، إذ بدوت لنفسي أعاني مما اعتبَره هذا الرجل مرضا كبيرا يصيب الأزمنة الحديثة، ألا وهو فائض التفكير، مما جعلني أصاب بالحصر بسبب هذه الأفكار السلبية المتكررة، إذ انقطع التدفق الحيوي المرتبط بوعيي، ومعه انقطع عني التفكير بواسطة الجسد. أما إذا أردت فعلا أن أوقف هذا الأمر، فأي دواء لهكذا داء؟ الحال أن لاورنس بدوره لم يملك الترياق ضد هذا المرض الذي قام بتشخيصه.
والواقع أن الرجل لم يعترف لنا بأي ود وتعاطف في رواياته، تجاه هؤلاء الذين يعانون من الاضطراب العصبي والصدمات، لهذا فقلما نلتقي بالإنسان الجريح في كتب لاورنس. ولقد كتب بخصوص هذا الشأن، وتحديدا إبان الحرب العالمية الأولى، بُعيد عودة عدد كثير من الجنود من جبهات القتال بسبب هول الصدمة، حيث خاطب هؤلاء المنكسرين الميتين الفارغين والمدمرين الذين لا أمل لهم قائلا: "لقد آن الأوان كي نضع حدا لآلامهم." لم يشكل لي هذا القول أي عزاء، وهو بهذا لم يحمل لي أملا، كما لم يترك لي سوى خيار الانتحار، بيد أني رويت في الأمر بعدئذ، فكففتُ عن تنفيذه. وبدل كل هذا الذي ذكرته سالفا، وتحديدا بعد مرور بعض السنون، تمكنت من أن أوفق في الذهاب إلى أفضل مما كنت عليه، حيث تم لي ذلك بفضل الفلسفة القديمة، التي كانت لي بمثابة العلاج الشافي، إذ بينت لي أن ما يؤلمني حقا، ليس جرحا بسبب قوتي التي باتت خاضعة إلى نمط الحياة الديونيزي، بقدر ما أنه نتاج اعتقاداتي وتمثلاتي الخاصة. والحال أني تعلمت انطلاقا من ذلك، أن أسائل الأشياء التي تحدث لي، على أمل تغييرها بعدئذ، على العموم فقد خرجت مما كنت عليه ليس بفضل ديونيزوس، وإنما بفضل سقراط.
لقد كان لاورنس يكره الضريبة على الدخل، حيث قال في هذا الصدد: إن مرد هذا الأمر يعود لما هو ذهني وعقلي، وليس متعلقا بقوانا الحيوية، إنه ليس شفاءً بالنسبة للقلق الحديث، بقدر ما أنه مرض في حد ذاته، أو قل إنه مجرد طريقة أخرى للتحكم في هذه البهيمة الهمجية التي ترقد في جهازنا النفسي، وهذا راجع إلى استعمالنا المفرط للعقل التكنوقراطي الذي سيعدو بعد ذلك مجرد آلة لا غير. والواقع أن نيتشه بدوره اعتبر السيكولوجيا الفاعلة وطقوسها نحو السعادة التي يرافقها الشعور بالرهبة والرعب، عنوانا صريحا لأفول الآلهة، أو قل إنهما لم يستخرجا منها سوى عبادة تافهة للسعادة كما قال الرجل، وبدوري، أكاد أقول أني أُكنُّ جانبا من الود نحو وجهة النظر هذه. وكجماع للقول في ذلك، فإنه لا يمكننا في كل حال من الأحوال قياس وتنظيم النفس البشرية عن طريق أسئلة معلوماتية.
لكن وفي مقابل ذلك، أعتقد أن لاورنس ونيتشه ويونغ إضافة إلى باقي المفكرين اللاعقلانيين، يضعون المحراث أمام الثيران، لهذا فإن لاشعورنا وحياتنا الحالمة ونظامنا الأوتوماتيكي الحسي، يرتبطون أيما ارتباط بفكرنا واعتقاداتنا: إذا كانت هذه الأخيرة سامية، فإن حياتنا النفسية وكل ما يحيط بها، لن يخرج عن إطار ما هو سامٍ، أما إذا أردنا الذهاب إلى موضع أفضل مما نحن عليه، فإننا لن نقدر على الوصول إلى روحنا ما دمنا ننفلت عنها تباعا، بالتالي نعمل دوما على محاولة العودة إلى اللاشعور الطبيعي كما ساقه لنا لاورنس، وعليه قد يكون الحل غير متعلق بالانفلات من التفكير الواعي، بقدر ما أن الحل يرتبط بالتوقف عن التفكير بطريقة غير تدميرية أو غبية، أو حتى مزيفة، والحال أنه عندما نسير على هذا المنوال، حينئذ وحينئذ فقط، سنتمكن من تحرير روحنا الفائض تفكيرها، وبعبارة أخرى، فإنه بتفكيرنا هذا سنتمكن من تذوق لحظة الحاضر والجسد والتدفق.
وعلى النقيض من ذلك، فإن سقراط قد أخذ بعض الأشياء من ديونيزوس حينما قال قبيل وفاته لأتباعه، بأن كان له حلما متكررا، أملى عليه أن يكتب الشعر، صحيح أنه لم يكن متأكدا من دلالة هذا الحلم، لكنه يحوم في كل حال من الأحوال، حول فكرة مفادها أن الفلسفة العقلية لا تكفي لوحدها، وأنه أحيانا، قد يكون من النباهة والحكمة بمكان، تكريم الآلهة الهمجيين لطبيعتنا.