1
الأنظمةُ الاجتماعية المُرتبطة بتاريخ الأفكارِ قائمةٌ على دَلالاتِ اللغةِ تَوَاصُلِيًّا وثقافيًّا ورمزيًّا ، وهذا يَعْني أنَّ اللغةَ تُمثِّل شَرعيةَ الجَوهرِ الوُجودي للمُجتمع ، وتُجسِّد مَشروعيةَ الفِعْلِ الاجتماعي الذي يَرتكِز على المعايير الأخلاقية في تفاصيل الحياة اليومية، مِمَّا يُسَاهِم في تَكوينِ مَنهج تحليلي للرابطة المصيرية بين الوَعْي بالماضي وإدراكِ الحاضر ، ومُساعدةِ الفرد على أن يَكُون نَفْسَه بعيدًا عَن مَتاهةِ الأقنعةِ وشَظَايا الأزمنةِ . وإذا كانَ طريقُ الفردِ نَحْوَ تحقيق نَفْسِه يَمُرُّ عَبْرَ استعادةِ أحلامه المَقمومة ، فَإنَّ طريقَ المُجتمع نَحْوَ الاندماج الثقافي يَمَرُّ عَبْرَ تفجير طاقة اللغة . وهذان الطريقان يَحْمِيَان الفِكْرَ الإنساني مِن التناقضات الحياتية الناتجة عن أنماط الاستهلاك المادي ، ويُؤَدِّيَان إلى تَشييد مَصادر المعرفة على قواعد البناء الاجتماعي ، بِحَيث تُصبح المعرفةُ سُلطةً حاكمةً على البُنى الوظيفية في مراحل التاريخ ، التي يَتِمُّ تحليلُها وَفْقَ الرَّمزيةِ اللغوية ، والدِّينَامِيَّةِ النَّقْدِيَّةِ ، والعَقلانيةِ المُنفتِحة ، وهذا يَدفَع باتِّجَاه إعادة صِياغة العلاقات الاجتماعية ، كَي تُصبح مُنْسَجِمَةً معَ فَلسفةِ تَحرير الفَرد مِن الخَوْف ، ومُتَوَائِمَةً معَ شخصية الفرد الإنسانية ، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً مَعرفيةً لِتَوليدِ التاريخِ بشكل مُستمر ، وكُلُّ وِلادةٍ جَديدةٍ للتاريخِ على الصَّعِيدَيْن اللغوي والشُّعُوري ، تُمثِّل هُوِيَّةً جَديدةً للفِعْلِ الاجتماعي ، باعتباره بَصْمَةً وُجوديةً في إفرازاتِ الواقعِ المُعَاشِ ، ولَيْسَ أداةً للهَيمنةِ على كَينونةِ الوَعْي الحُرَّةِ ، وبيئةِ التفكيرِ الحَيَّةِ .

1
النظامُ الوُجودي في اللغةِ مُرتبطٌ بِمَركزيةِ الوَعْي الإنساني زمنيًّا ومكانيًّا ، وهذا النظامُ لَيْسَ كُتلةً فلسفيةً جامدةً ، وإنَّما هو حركةٌ اجتماعيةٌ يَتَزَاوَج فيها تاريخُ الأفكارِ معَ الأحداثِ اليَوْمِيَّة ، مِن أجْلِ تَتَبُّعِ آثارِ الزَّمَنِ عَلى جَسَدِ المَكَان ، وعَناصرِ البيئة ، وطَبيعةِ الإنسان ، وسُلطةِ المُجتمع ، باعتبار أنَّ الزَّمَنَ لا يُمكِن مَعرفةُ مَاهِيَّتِه عَبْرَ الإمساكِ به ، وتَقييدِه ، وإنَّما تُعرَف مَاهِيَّتُه عن طريقِ تَتَبُّعِ آثارِه . وكما أنَّ آثارَ الزَّمَنِ تدلُّ عليه ، كذلك تأويل اللغةِ يدلُّ عليها . والبِنَاءُ الزَّمَني هو أرشيفٌ يَحْوِي أحلامَ الإنسانِ المَكبوتة في دَاخِلِه ، ويَشْمَل خصائصَ المُجتمع المُسْتَقِرَّة في أعماقه . والبُنيةُ اللغوية هي هُوِيَّةٌ تَحْوِي مَصَادِرَ المَعرفةِ المُتمركزة في السُّلوك، وتَشْمَل العلاقاتِ الاجتماعية المُتَجَذِّرَة في الثقافة.والمَنظومةُ المُجتمعية المُتَكَوِّنَة مِن البِنَاءِ الزَّمَني والبُنيةِ اللغوية تُسَاهِم في بَلْوَرَةِ الرُّؤى الفِكريةِ التي تَتَحَكَّم بالتفاعلاتِ الرمزيةِ في اللغةِ والبيئةِ ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادة اكتشافِ الإنسانِ لشخصيته كَوَحْدَةٍ تاريخيةٍ عابرةٍ للمَاضِي والحَاضِرِ ، وإعادةِ تأويلِ المُجتمعِ لِسُلطته كَصِيغَةٍ حَيَاتِيَّة مُتَدَفِّقَة في الوَعْيِ والشُّعُورِ والإدراكِ . وإذا كانَ الزَّمَنُ يُمثِّل هَيْكَلًا تَنظيميًّا لعناصرِ النظامِ الوُجودي في اللغةِ ، فإنَّ اللغةَ تُمثِّل تجربةً ثقافيةً تَبْنِي القَواعدَ الماديَّة الحاملةَ للقِيَمِ الأخلاقيةِ المُطْلَقَةِ، التي لا يَتِمُّ التلاعبُ بها لتحقيق مصالح شخصية ، ولا يَتِمُّ إخضاعُها لِنِسْبِيَّةِ العَلاقاتِ الاجتماعية التي يُطَوِّرُها الأفرادُ لتثبيتِ وُجودهم في الزَّمَنِ ، وتكريسِ شرعيتهم في المَكَانِ .

إن مفهوم الإنسان المشتق من النظرية الفرويدية، هو فعل الاتهام الأقصى الذي لا يمكن دحضه ضد الحضارة الغربية، وفي الوقت ذاته هو أفضل دفاع لصالحها لا يمكن رده. فإن تاريخ الإنسان بحسب فرويد هو تاريخ قمعه. ذلك أن الحضارة لا تفرض أشكال القسر على وجوده الاجتماعي فحسب، ولكن على وجوده الحيوي. فهي لا تحد من بعض أجزاء في الوجود الإنساني فقط ولكنها تحد بنيته الغريزية ذاتها ومع ذلك، فإن هذا القسر أو الإرغام هو وحده شرط التقدم الأولي “ (هربرت ماركيوز – الحب والحضارة).

يسعى المقال إلى مناقشة علاقة التقابل والتضاد بين مفهومي اللوغوس والإيروس في الحضارة الغربية المعاصرة بالاستناد إلى نقد ماركيوز لمفهوم الإنسان ذي البُعد الواحد على اعتبار أن لوغوس بوصفه منطق السيطرة وقمع الغرائز، وإيروس بوصفه غريزة الحياة، ومنطق التمرد الساعي إلى اللذة وتحقيق الارتواء، ومن هنا فقد تم النظر إلى مجالي الغرائز والحساسية على أنهما معاديان للعقل، بل ومفسدان له. اعتمد ماركيوز في نقده للمجتمع الصناعي المتقدم على مقولات النظرية الفرويدية عن الإنسان، التي تعتبر من أعنف الاتهامات الموجهة إلى الحضارة الغربية، من حيث إن تاريخ الإنسان عند فرويد هو في الوقت نفسه تاريخ قمعه، فالحضارة عند فرويد لا تمارس قهرها على وجود الإنسان الاجتماعي فحسب، بل على وجوده البيولوجي. والحضارة أيضاً لا تقيد الوجود الإنساني، بل إنها تقيد الوجود الخاص بالبنية الغريزية ذاتها. وفي هذا السياق سنحاول مناقشة هذا التعارض والكيفية التي أثرت رؤية الإنسان الغربي المعاصر لنفسه وللآخرين والواقع المعاش.

يرى ماركيوز أنه رغم وجود الدور النافي (السالب) والثوري للعقل، لكن كما يبدو لماركيوز هناك بعداً آخر للعقل لم يستطيع تجاهله بوصفه مفكراً جدلياً، فالعقل كان له دور أساسي في خلق العالم الذي نحيا فيه... ومع ذلك فقد كان له أيضاً دور أساسي في الإبقاء على الظلم والشقاء والعذاب... وباسم هذا العقل كانت ترتكب أبشع الجرائم في التاريخ، وباسمه أيضاً أنشئت محاكم التفتيش، ومعسكرات التعذيب، وغرف الغاز...إلخ([1]). غير أن العقل والعقل وحده هو الكفيل بتصحيح أخطائه وتطهير نفسه من المظاهر اللاعقلانية أو على حد تعبير هيجل "إن اليد التي تسبب الجرح هي التي بدورها التي تداويه"([2]).

ويعتبر ماركيوز أن تاريخ الفكر الغربي يعكس نوعاً من التقابل أو التضاد بين لوغوس* وإيروس:([3]) لوغوس بوصفه منطق السيطرة وقمع الغرائز، وإيروس بوصفه غريزة الحياة، ومنطق التمرد الساعي إلى اللذة وتحقيق الارتواء، ومن هنا فقد "تم النظر إلى مجالي الغرائز والحساسية** على أنهما معاديا للعقل، بل ومفسدان له"([4]).

ويشير ماركيوز شارحاً إلى أن أصل هذا التعارض يعود إلى المعنى اليوناني القديم لمفهوم العقل والذي استخدم بوصفه ماهية الوجود للدلالة على معاني: العقل المنظم، المصنف، المهيمن، المسيطر، ومن هنا فقد أصبحت فكرة العقل متعارضة بصورة جوهرية مع الدوافع والحاجات التي تقع في المرتبة الأولى من الوجود الإنساني، والتي تكون تقبلية سلبية أكثر من كونها إيجابية ومنتجة، وهي أيضاً تنزع إلى البحث عن الإرضاء والارتواء أكثر من التعالي، لذلك فهي وثيقة الصلة بمبدأ اللذة([5]).

لا تَصُوغُ النَظَرِيَّةُ ما نَعْرِفُهُ فَحَسْبُ، بَلْ تُخْبِرُنا أَيْضاً بِما نُرِيدُ أَنْ نَعْرِفَهُ، أَيْ الأَسْئِلَةَ الَّتِي نَحْتاجُ إِلَى إِجابَةٍ عَلَيْها. تالكوت بارسونز ([1])

1- مُقَدِّمَة :

يُعَدُّ تالكوت بارسونز (1979-1902) (Talcott Parsons) أَحَدُ أَبْرَزِ أَعْلامِ المَدْرَسَةِ البِنائِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ فِي الوِلاياتِ المُتَّحِدَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ فِي النِصْفِ الثانِي مِن القَرْنِ العِشْرِينَ. وَقَدْ عَمِلَ عَلَى تَطْوِيرِ النَظَرِيَّةِ الوَظِيفِيَّةِ فِي ظِلِّ مُسْتَجَدّاتِ الأَوْضاعِ السِياسِيَّةِ وَالاِجْتِماعِيَّةِ فِي أَمْرِيكا. وَقَدْ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يُطَوِّرَ الاِتِّجاهَ الوَظِيفِيَّ فِي التَفْكِيرِ السوسيولوجِيِّ الأَمْرِيكِيِّ لِيَأْخُذَ أَبْعاداً نَظَرِيَّةً جَدِيدَةً.

وْمِن أَجَل فَهُمْ أَعْمَق لِسُوسِيوَلِوَجِيا بَارسُونز يَجِب الْخَوْض فِي الظُّرُوف الِاجْتِمَاعِيَّة لِلْحَيَاة الْأَمْرِيْكِيَّة الَّتِي فُرِضَتْ نَفْسَهَا عَلَى الْمُفَكِّرِين فِي عِلْم الِاجْتِمَاعِ، وَتَجِلَتْ فِي نَظَرِيَّاتِهِمْ وَرُدُود أَفْعَالِهِم الْعِلَمِيَّةَ، وَمِن الْبَدَاهَة فِي عِلْم الِاجْتِمَاع أَنّ السِّيَاق الِاجْتِمَاعي يُحَدَّد التَّوْجُّهَات الْأَسَاسِيَّة لِلتَّفْكِير السُّوسِيُّوَلَوَجِيَّ، وَلِكَيْ نِفُّهُمْ طَبِيعَة التَّوْجُّهَات الْفِكْرِيَّة السُّوسِيُّولَوْجِيَّة فِي الْمُجْتَمِع الْأَمْرِيكِيِّ، عَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذ بِعَيْن الِاعْتِبَار الْأَحْدَاث وَالظُّرُوف الَّتِي مَرَّتْ بِهَا الْوِلَايَات الْمُتَّحِدَة الْأَمْرِيكِيَّة فِيمَا قَبْل الْحَرْب الْعَالِمِيَّة الثَّانِيَة وَمَا بَعْدَهَا. 

وَغَنِيٌّ عَن البَيانِ أَنَّ السوسيولوجيا الأَمْرِيكِيَّةَ - قَبْلَ الحَرْبِ العالَمِيَّةِ الثانِيَةِ - قَدْ شُغِلَت بِأَوْضاعِ الأَزَماتِ وَالمُشْكِلاتِ وَالقَلاقِلِ وَالاِضْطِراباتِ وَالصِراعاتِ وَمَظاهِرِ الجَرِيمَةِ وَالمُخَدِّراتِ وَالعُنْفِ وَالقَلاقِلِ الاِجْتِماعِيَّةِ، وَكُلِّ أَشْكالِ الخَلَلِ الاِجْتِماعِيِّ، وَكانَ عَلَى عُلَماءِ الاِجْتِماعِ الأَمْرِيكِيِّينَ مُعالَجَةُ هٰذِهِ القَضايا الشائِكَةِ بِالدِراساتِ وَالبُحُوثِ المَيْدانِيَّةِ الَّتِي وَظَّفَت لِفَهْمِ الأَوْضاعِ القَلِقَةِ فِي المُجْتَمَعِ الأَمْرِيكِيِّ، وَالبَحْثِ عَن عَوامِلِها وَمُتَغَيِّراتِها، وَمِن ثَمَّ العَمَلُ عَلَى وَضْعِ المُقْتَرَحاتِ المُناسِبَةِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُسْهِمَ فِي إِيجادِ الحُلُولِ لَها وَإِعادَةِ التَوازُنِ الاِجْتِماعِيِّ. وَقَدْ أَثَّرَ هٰذا الاِنْهِماكُ السوسيولوجِيُّ فِي إِضْعافِ مُسْتَوَياتِ التَنْظِيرِ، وَأَوْجَدَ مَدّاً كَبِيراً لِلبَحْثِ السوسيولوجِيِّ الأَمْبِيرُقِيِّ الَّذِي تَبَلْوَرَ بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَعْمالِ المُفَكِّرِينَ القائِمِينَ عَلَى مَدْرَسَةِ شيكاغو.

وفِيمَا بَعْد الْحَرْب دَخَلْت أَمْرِيكًا فِي فَتْرَة نُمُّو اقْتِصَادِي اجتماعي وَازْدِهَار ثِقَافِي وَعِمْرَانِيّ، وَحَقِقَتْ دَرَجَةً عَالِيَةً مِن التَّوَازُن السَيَاسِي وَالِاجْتِمَاعِي.

1
تاريخُ البِنَاءِ الاجتماعي هو وَعْيٌ مُستمِر بالحَاضِرِ والحَضَارَةِ،وتأسيسٌ عقلاني لأشكال المَعرفة التي تَتَمَاهَى معَ مَناهجِ تحليل الذات ، وأنماطِ تفسير البيئة ، وطَرائقِ تأويل العَالَم . وأشكالُ المَعرفةِ لَيْسَتْ كِيَانَاتٍ جامدة في حَلْقَةٍ حياتيَّة مُفْرَغَة ، وإنَّما هي أشكال وُجودية تُعَاد هَيْكَلَتُهَا لتحريرِ الفِكْر مِن النظام الاستهلاكي ، ويُعَاد تَوظيفُها لتحقيقِ التوازن بين الأنساق الثقافية ، مِمَّا يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات مُنفتِحة للفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن المَصالحِ الشخصية الضَّيقة، ونَزعةِ التمركز حول الوَعْي الزائف. وأكبرُ تهديدٍ لأشكالِ المعرفة هي العلاقاتُ الاجتماعية القائمة على تَسليعِ شخصية الإنسان ، والتعاملِ مَعَهَا كَشَيْءٍ مَحصور بين العَرْضِ والطَّلَبِ . والمَعرفةُ لا تَتَجَذَّر في المُجتمعِ كَهُوِيَّةٍ تاريخية وخِطَابٍ حَضَاري إلا إذا صارت رمزيةُ اللغةِ طبيعةً ذاتيةً للأحداثِ اليومية ، وإطارًا مَرجعيًّا للصِّرَاعاتِ داخل النَّفْس الإنسانية ، ومَنظورًا فلسفيًّا للزَّمَنِ المَفتوح ، باعتباره ماضيًا لا يَمْضِي ، وحَاضِرًا لا يَغِيب ، ومُسْتَقْبَلًا لا يُخَاف مِنه .

1
التَّحَوُّلاتُ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية لَيْسَتْ انعكاسًا سَاذَجًا لحركة الأفراد في تفاصيل الحياة اليومية، وإنَّما هي تَحَوُّلات ناتجة عن التَّحليل النَّقْدِي لِجُذُور المُجتمع في أعماقِ الوَعْي التاريخي ، وتعقيداتِ النَّسَق الحضاري . والتحليلُ النَّقْدِي هو الضَّمَانةُ الأكيدة لحفظِ كِيَان المُجتمع مِن الفَوْضَى ، وحمايةِ كَينونة التاريخ مِن التَّشَظِّي ، لأنَّ مَفهومَ التحليل قائمٌ على تفكيكِ الفِكْر إلى عوامل أوَّلِيَّة ، وإعادتِه إلى أنويته الداخلية ، ومفهوم النَّقْد قائمٌ على كَشْف الثَّغَرَات في جُذورِ المُجتمع المَخْفِيَّة ، وكِيَانِه الظاهري . والارتباطُ العُضْوِي بَين التحليلِ النَّقْدِي والتَّحَوُّلاتِ الفِكرية يُمثِّل مَنظورًا وُجوديًّا لشخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع ، وكيفيةِ رَبْطِهما معًا في مركزيةِ الذات ، والانطلاقِ مِنها نَحْوَ سُلطة المعرفة المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية . وإذا كانت سُلطةُ المعرفة تُولِّد آلِيَّاتٍ لُغَوية لمساعدة العَقْل الجَمْعي على التَّحَكُّم بعناصر الواقع المُعَاش ، فإنَّ العلاقات الاجتماعية تُطوِّر أدواتٍ فِكرية لتحقيق المصالح الذاتيَّة والجَمَاعِيَّة كَمًّا وكَيْفًا ، مِمَّا يُساهِم في إعادةِ صِياغة طبيعة الفرد في مَسَارِه الحياتي معنويًّا وماديًّا ، وإعادةِ تشكيل البناء الاجتماعي في الواقع المُتَغَيِّر ثقافيًّا ورمزيًّا .
2
لا يُمكِن اختزالُ التَّحَوُّلات الفِكرية في قوالب جاهزة ، وأنماطٍ مُعَدَّة مُسْبَقًا ، ولا يُمكِن السَّيطرة عليها بِدِقَّة ، أو التَّنَبُّؤ بِمَدَاها وتأثيرِها، لأن هذه التَّحَوُّلات مِثْل الانفجاراتِ اللغوية في الوَعْيِ التاريخي للحضارة ، والمَنظورِ الثقافي للمُجتمع . وإذا كانَ الفِكْرُ يَستمد شرعيته مِن قُدرته على تَوليد المفاهيم مِن الواقع المُعَاش ، فإنَّ اللغةَ تَستمد مَاهِيَّتَهَا مِن قُدرتها على تَفجير الطاقة الرمزية الحاملةِ للألفاظ والمَعَاني. وهُوِيَّةُ الفِكْرِ وكَينونةُ اللغةِ تُعيدان تأويلَ تفاصيلِ الحياة اليومية التي يُهيمِن عليها الاغترابُ ، بِحيث تُصبح هذه التفاصيلُ قُوَّةً دافعةً للتجاربِ الشخصية التي تُشير إلى أحلامِ الفَرْدِ المَكبوتة وذِكرياته الكامنة ، ورافعةً للوُجودِ الثقافي في الهياكل الاجتماعية المَنْسِيَّة . وَبِدُون تحليلِ العناصرِ المَكبوتةِ والكامنةِ والمَنْسِيَّةِ في أعماقِ الفردِ والمُجتمعِ ، لَن يَكُون هُناك تأويل لُغَوي حقيقي لإفرازات سُلطةِ المعرفة في القِيَمِ الاستهلاكية والمَعَاييرِ الأخلاقية ، لأنَّ التأويلَ قائمٌ على الرُّمُوز ، والرُّمُوز لا تُوجَد على السَّطْحِ ، فهي حاملةٌ للهُوِيَّاتِ المركزية والمَاهِيَّاتِ الأساسيَّة ، لذلك تَستقر الرُّمُوزُ في أعماق الوجود الإنساني الفَرْدي والجَمَاعي ، وهي بِحَاجَة إلى تنقيبٍ مُستمر ، وتَوظيفٍ دائم في النَّزعة الإنسانية المُتَحَكِّمَة بأبعاد البناء الاجتماعي باطنيًّا وظاهريًّا .

الصراعات هي جزء لا يتجزأ من التطور الإنساني، ومن خلالها يتم تحقيق التغيير والتقدم" - كارل يونغ
"الصراعات لا تخيفنا، فالحياة نفسها تحمل الصراعات، وما يتعلق بها هو كيفية التعامل معها" - مايا أنجيلو

1- مقدمة:

شهدت نظرية الصراع تطورها على أيدي نخبة من علماء الاجتماع في القرن العشرين الذين اخذوا على عاتقهم العمل على تطوير هذه النظرية في ضوء التطورات التاريخية الجديدة التي ألمت بالمجتمعات الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أثمرت جهود كثيرٍ منهم في استكشاف أبعاد جديدة لنظرية الصراع تتجاوز حدود المركزية الماركسية القائمة على مفهومَي الصراع الطبقي، والحتمية التاريخية للتطور القائم على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته. وانطلق منظرو الموجة الجديدة  للصراع الاجتماعي إلى تناول قضايا جديدة ومختلفة عن كلاسيكيات نظرية الصراع، مثل: صراعات الجندر، وقضايا التفاوت الاجتماعية القائمة على أشكال جديدة من الصراع حول: السلطة، والموارد، والثروة، والقوة، والثقافية، والصراعات التي تأخذ طابعا عرقيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ودينيًّا وثقافيًّا [1].

وقد شهد مفهوم "الصراع" (Conflict) تطوره الفكري الملموس في خمسينيات القرن الماضي، في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الأمريكية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز (Wright Mills) (1956)، الذي كان له قصب السبق في تناوله لمفهوم الصراع، وذلك في محاولة منه لفهم البُنى الاجتماعية للمجتمعات الغربية القائمة على جوهر الصراعات الاجتماعية والسياسية وتحليلها.

ويبدو لنا  أن ميلز قد سار على هدي النظرية الماركسية واستلهمها في تطوير نظريته حول الصراع وانطلق يعزز توجهاتها ويطورها في مجال التركيز على قضايا هذا الصراع في المجتمع الأمريكي. وقد أكد رفضه الواضح للفكرة الوظيفية التي تقول بأن المؤسسات والهيئات الاجتماعية تقوم على أساس الاتفاق مؤكدًا على عنصرَي الصراع والمنافسة في طبيعة هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي أدى إلى استفحال اللامساواة في توزيع الموارد والسلطة والقوة في المجتمعات الغربية. وقد أدى تفاقم هذا التفاوت الاجتماعي إلى نوع من الصراع الذي حدا بطبقات النخبة البرجوازية الحاكمة إلى العمل على بناء المؤسسات الأيديولوجية التي عُهد إليها بتشكيل أنظمة ثقافية تتمثل في منظوماتٍ من الأعراف والقيم التي تهدف إلى ترسيخ سلطة الطبقات النافذة وهيمنتها وسطوتها في المجتمع.

يرى ميلز في هذا السياق السوسيولوجي أن عملية الضبط السياسي والاجتماعي تتم عن طريق الإكراه والقوة واستخدام مختلف الوسائل المادية والثقافية والأيديولوجية التي تمّ تصميمها من قبل الأقوياء لتحقيق الضبط الاجتماعي، وعلى هذا الأساس فإن المجتمع ينشطر طبقيًّا ويحدث الصراع العميق بين الطبقات المَهيضة والطبقات الرأسمالية التي تمارس القوة لحرمان أبناء الطبقات العمالية والفقيرة من المشاركة الحقيقية في موارد الثروة والسلطة والقوة وإبقائها حكرًا على طبقات النفوذ والهيمنة [2].

وعلى أثر ميلز ظهرت نخبة من المفكرين الذي كرّسوا جهودهم للبحث في قضية الصراع الاجتماعي والخوض في إشكالياته واستشراف تجلياته في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ويُعد كل من دارندورف وكوزر وكولنز من أبرز رواد نظرية الصراع في العصر الحديث. وسنعمل على استعراض أهم الأفكار والتصورات الجديدة التي قدمها هذا الثلاثي في مجال سوسيولوجيا الصراع في المجتمعات الحديثة.

لقد حاول الفن جولدنر كعالم اجتماع راديكالي واعٍ وبارز، أن يلمس جملة هذه القضايا في مؤلفه الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي وقد نجح في ذلك بامتياز. فقد سجل تأملاته في هذا الصدد خلال عقد السبعينيات، غير أن ملامح الأزمة التي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين، وسجل الفن جولدنر طبيعتها في السبعينيات استمرت تفرخ أزمات متوالية بصورة مستمرة، حتى انتهت الألفية الثانية، وقد اتسع نطاق الأزمات وساحتها، حتى ملأت فضاء العلم، وحينما جاءت الألفية الثالثة طرق علم الاجتماع أبوابها وهو يحمل أزماته على كاهله، ولقد كان ألفن جولدنر على حق حينما دق الأجراس بقوة في رجاء أن يستعيد علماء الاجتماع وعيهم ليتأملوا بهذا الوعي واقعهم وموقفهم، وأدوارهم في قلب هذا الموقف، ولينتقلوا بهذا التأمل لأعماله في مواجهة أزمات علمهم حتى يستعيد عافيته ليكون قادراً على تأمل وفهم ما يقع من أحداث وتفاعلات على ساحة نظامنا العالمي المعاصر بأصعدته العديدة . (علي محمود أبو ليلة)

- تمهيد:

يعتبر ألفن جولدنر· رائداً من رواد الاتجاه النقدي السوسيولوجي المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في بداية العقد السابع من القرن العشرين المنصرم. فقد أبدى وعياً راديكالياً بدوره الأكاديمي والسياسي والثقافي في المجتمع. من خلال سعيه المتواصل للكشف عن النقائص والثغرات السائدة في علم الاجتماع المعاصر، لذا نجد أن معظم كتاباته قد وقعت على الحد الفاصل بين علم الاجتماع المعرفة والنظرية الاجتماعية.

عبّر جولدنر عن نظريته النقدية من خلال مؤلفه الشهير " الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي "، الذي يعتبر من أهم المؤلفات في هذا المضمار، لأنه بمثابة ثورة حقيقة تهدف إلى تشخيص أزمة علم الاجتماع من خلال حصر التناقضات والصراعات التي يشهدها هذا العلم بغية تصحيح مساره، بالاعتماد على رؤية نقدية تسعى إلى إيجاد بديل نظري يتصف بالكفاءة والشمول مما يجعله قادراً على الإحاطة بكل عناصر الواقع الاجتماعي، وحتى يتمكن الباحثون السوسيولوجيون أيضاً من استخلاص الجوانب الراديكالية من علم الاجتماع، وتخليصه من الجوانب القهرية التي تعتري أنساقه النظرية، لتحقيق غاياته الإنسانية التي وُجِدَ من أجلها بدلاً من غاياته الاستغلالية التي تم تكريسها من خلال نظرياته التقليدية ذات الطابع المحافظ.

ولتحقيق رؤيته النقدية هذه، قام ألفن جولدنر من خلال كتابه " الأزمة القادمة " بتطوير مفهوم التأمل السوسيولوجي، الذي يقوم على التحرر من مخاطر الوعي الاجتماعي، وتنمية وعي ذاتي سوسيولوجي لدى المشتغلين بعلم الاجتماع. على اعتبار أن هذا التأمل حسب جولدنر قد أصبح مطلباً ملحاً بعد التطور الفكري الهائل الذي شهده علم الاجتماع المعاصر خلال العقود الماضية، فضلاً عن زيادة عدد المشتغلين بهذا العلم واتساع نطاق اهتماماتهم. بناءً على ما تقدم سنسعى من خلال هذه الدراسة إلى مناقشة ما يلي: