" إن أكل لحوم البشر يعتبر وصمة عار في جبين المجتمعات البدائية المتأخّرة، ولكنّ بعض الشّعوب الحديثة لا تقلّ افتراسا وأكلا للحوم البشر عن هذه المجتمعات القديمة المتوحّشة (...). إنّ بعض الأمم الحديثة تستعبد وتبتلع شعوباً بأسرها. ومالم تحظر الحروب وتُحرّم بين الأمم، فستبقى المدنيّة تتأرجح من كارثة لأخرى" ول ديورانت من قصة الفلسفة[1].
" لقد أصبح من التقاليد الراسخة الآن أنّ أيّ نقاش حول سبنسر، إذا لم يبدأ بنقد دوركهايم الشّهير، يجب أن يبدأ بسؤال تالكوت بارسونز الخطابي: "من يقرأ الآن سبنسر؟"
1- مقدمة
يُعرف الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سنسر (Herbert spencer- 1820-1903) بأنّه أحد أبرز المفكّرين الإنكليز وأهمّهم في القرن التّاسع عشر. وقد أحدث صعوده إلى القمّة الفكريّة الفلسفية في العصر الفيكتوريّ ضجّة كبيرة بين المفكّرين، وأثار صخبا شديدا بين النقّاد والباحثين على مدى القرنين التّاسع عشر والعشرين، وما تزال أفكاره وتصوّراته التطوّرية في المجتمع والتاريخ تثير جدلا واسعا بين المفكرين، وقد انقسم المفكّرون وأهل الثّقافة في شأنه بين محبٍّ غالٍ وكاره قالٍ، أي: بين فئة تطرّفت في رفض نظريّاته رفضا تامّا، وأخرى اتّخذته منارة تهتدي بها في تشكيل نظريّاتها وبناء تصوّراتها الأيديولوجيّة. وقد بدا سبنسر الندّ البريطاني العنيد لأقطاب الفكر الألمانيّ في مستوى التّأثير الفلسفّي العميق والحضور السّوسيولوجي الطّاغي لكلّ من كارل ماركس وهيغل وفيبر، مثلما بدا منافسا لامعا لروّاد السّوسيولوجيا الفرنسيّة المشاهير أمثال أوغست كونت ودوركهايم الذين تألّقوا في القرن التاسع عشر، وأشعّوا بقوة في القرن العشرين بوصفهم الوجه المشرق للفكر والفلسفة وعلم الاجتماع منذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا. وباختصار يُنظر إلى سبنسر على أنّه المشرّع الأوّل لتعاليم المدرسة الإنجليزيّة في علم الاجتماع المناظر لتطوّر علم الاجتماع في فرنسا وألمانيا.
ويسجّل النقّاد اليوم أنّ سوسيولوجيا سبنسر التي بلغت ذروة قوّتها وقمّة عظمتها في القرن التاسع عشر، قد خبت أنوارها، وتراجعت سطوتها، وخفتت أهمّيتها، وانحسر حضورها إلى حدّ التّلاشي في النّصف الأول من القرن العشرين. وقد ورد هذا التّراجع في الأهميّة والحضور على لسان تالكوت بارسونز الذي قال متسائلا: من يقرأ سبنسر اليوم؟ وكان من جوابه: لا أحد! وهذا يرمز، من وجهة نظر بارسونز، إلى أنّ نظريات سبنسر قد فقدت أهمّيتها العلميّة. وقد يبدو لنا في قول بارسونز هذا نوع من التجنّي والتّحامل الأيديولوجيّ العنيف ضدّ أفكار سبنسر وتصوّراته، ولو أخذنا قوله مأخذ الجدّ لحقّ لنا أن نتساءل اليوم: من يقرأ أرسطو أو أفلاطون أو ابن خلدون أو حتى شكسبير وفولتير وروسو؟! فأفكارهم وتصوّراتهم اليوم لم تعد ذات قيمة معرفيّة بمقياس العصر. فأرسطو لم يكن يعرف قانون دوران الأرض حول الشّمس، ولم تعد مثاليّة أفلاطون صالحة في هذا الزّمان، ومع ذلك ما زلنا نُقبل عليها كقيمة أدبيّة تاريخية خلاّقة.