تقديم
خلفت الدراسات والأبحاث المنجزة من قبل المؤسسات الاستعمارية حول المغرب، رصيدا معرفيا لا يستهان به. واهتم في مجمله بطبيعة البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المغربي. وتضمن هذا الرصيد تكثيفا لتصورات ورؤى وقناعات إيديولوجية مسبقة، مصاغة ومنتظمة حسب قوانين وغايات ومرامي وأهداف المؤسسة الاستعمارية.
كما قدم ذلك الرصيد معطيات اتسمت بدرجة عالية من الدقة في التوثيق، والسرد، والتأريخ والوصف الاثنوغرافي. لكن طبيعة الاستعمالات السياسية والعسكرية، والتوظيفات الإيديولوجية له، حوَّلتها إلى دلائل "علمية" لخدمة حاجيات الشؤون الأهلية الفرنسية ومشروعها الاستعماري.
ويندرج اهتمامنا بهذا الرصيد المعرفي ضمن مشروع أكاديمي مغربي. أسس له رواد السوسيولوجيا المغربية أمثال بول باسكون، عبد الكبير الخطيبي، محمد جسوس وآخرون. مشروع يراهن على تأسيس "مدرسة وطنية للسوسيولوجيا". تأخذ مسافة نقدية من السلط المعرفية للتراث الكولونيالي، ومن التحاليل النظرية الجاهزة لكل من الماركسية الارثودوكسية والنزعات الخصوصية الاستئصالية. كما تضع نصب أعينها، تشريح المؤسسات السياسية والثقافية للمجتمع المغربي، لبلورة قضايا نظرية ذات الصلة بالتغير الاجتماعي والتحديث.
السوسيولوجيا الاستعمارية: حالة ميشو بيلير
يعتبر ادوارد ميشو بيلير Edouard Michaux-Bellaire (1857-1930) واحدا من الرواد الأوائل للسوسيولوجيا الاستعمارية بالمغرب. عاش بين المغاربة حوالي نصف قرن، وتدرج من موظف بسيط في طنجة الدولية، إلى شخصية نافدة في أوساط السلطات العسكرية، لتأسيسه سنة 1907 لما سمي " بالبعثة العلمية"، والتي عرَّف أهدافها كالتالي: «البحث في عين المكان عن كل الوثائق التي تسمح بدراسة المغرب، وإعادة تأسيس تنظيمه وحياته، وليس فقط بمساعدة الكتب والمخطوطات، ولكن أيضا بفضل المعلومات الشفوية، وتقاليد القبائل، والجماعات الطرقية والأسر...»[1]
وفي مقال نشره سنة 1927 والموسوم «بالسوسيولوجيا المغربية»[2]، وجه ميشو بيلير اهتمامات دراساته إلى ثلاث محاور:
- منطقة نفوذ المخزن، وأطلق عليها مناطق الشرع. وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "سوسيولوجيا المخزن".
- حقل المظاهر الإسلامية، (من سلوكات وتعابير دينية وتعبدية)، وهو حقل للبحث من اختصاص ما سماه "السوسيولوجيا الإسلامية".
- حقل دراسة "القبائل البربرية" وعلاقتها بمراكز السلطة وبالأطراف والهوامش. من اختصاص "السوسيولوجيا المغربية".
تبعا لهذا التقسيم، الذي يكرس حاجيات الشؤون الأهلية، أنتج بيلير مونوغرافيات ودراسات كثيرة، تناولت مختلف مناحي النشاط الاجتماعي، ومنظومات القيم الدينية، والعادات، والتقاليد، والأعراف ومختلف مستويات أنماط عيش الساكنة المغربية، في تمظهراتها المختلفة السياسية والثقافية وكذلك الاقتصادية: كنظام الأحباس، ونظام الضرائب، والتنظيم العقاري، والتشريعات الفقهية للسلوك الاقتصادي، بالإضافة الى نظام المبادلات الاجتماعية كالهدايا وغيرها.