1
البناءُ الاجتماعي لَيْسَ كِيَانًا وهميًّا يُفْرِز علاقاتٍ اجتماعيةً ميكانيكية ، ويُنتج أنساقًا ثقافيةً جامدةً تَقُوم على الوَعْي الزائف، إنَّ البناءَ الاجتماعي هو الحاضنةُ الشرعية لِوُجُودِ المُجتمع معنويًّا وماديًّا، والمرجعيةُ الفكريةُ القادرةُ على إعادةِ أحلام الفرد إلى الحياة ، وتشكيلِ الهُوِيَّة الفَردية والجَمَاعية التي لا تَكْتفي بذاتها ، بَلْ تَسْعَى إلى التواصلِ معَ مَصادر المعرفة التي تُحَدِّد أبعادَ سُلطة المُجتمع ، والتفاعلِ معَ التجارب الحياتية التي تُحَدِّد معالمَ شخصيةِ الفرد . وإذا كانت مَصادرُ المعرفةِ تَتَأسَّس على عَقْلانِيَّةِ الواقعِ اليَومي ، فإنَّ التجارب الحياتية تَتَأسَّس على رمزيةِ الدَّلالات اللغوية . وهذا التَّشَابُكُ المعرفي مع الواقعِ واللغةِ يَحْمِي العقلَ الجَمْعِيَّ مِن العَيْشِ خارج التاريخ ، ويَحْمِي التاريخَ مِن العَيْشِ خارجَ فلسفة الوَعْي . والوَعْيُ إذا اتَّصَفَ بالحَيَاةِ ، والحَيَوِيَّةِ ، والحُرِّيةِ في ذاته ، والتَّحَرُّرِ مِن عناصرِ المنظومة الاستهلاكية المُحيطة به ، سَيَتَحَوَّل إلى رافعة لفلسفة اللغة ، لأنَّ اللغةَ تَستمد وُجودَها مِن الوَعْيِ لا الغَيبوبةِ المَعرفية ، وتَكتسب شرعيتها مِن الخَلاصِ التاريخي لا الهُرُوبِ مِن الزمن .
2
مَركزيةُ اللغةِ في البناء الاجتماعي ذات طبيعة عابرة للزَّمَنِ ، وغَير خاضعة للتَّجنيس المَكَاني ، لأنَّ اللغةَ تَدَفُّقٌ مَعرفي مُستمر أُفقيًّا وعَمُوديًّا ، وانفجارٌ رَمزي مُتواصل على صعيدِ الألفاظِ والمَعَاني . وشَبَابُ اللغةِ الدائمُ هو الضَّمانةُ الأكيدة لحماية العلاقات الاجتماعية مِن التَّشَيُّؤ ( تَحَوُّل العلاقات الشخصية بين الأفراد إلى علاقات آلِيَّة بين الأشياء ) . وإذا صارَ الفردُ شيئًا هامشيًّا في المُجتمع ، وعُنْصُرًا مُغترِبًا عن ذاته ومُحيطه ، فإنَّ الفِعْلَ الاجتماعي سَيَخرج مِن فلسفة التاريخ، ويَتَشَظَّى بَين الأفكارِ الذهنية والإدراكِ الحِسِّي.وهذا التَّشَظِّي شديد الخُطورة ، لأنَّه يُدخِل المُجتمعَ في مَتَاهَةِ رُدُودِ الأفعالِ والمواقفِ الارتجالية ، بلا تخطيط ولا تنظيم . وكُلُّ خَلَلٍ في البناء الاجتماعي هو بالضَّرورة خَلَلٌ في مَنطق اللغة الرَّمزي ، وإذا غابَ اليقينُ عن العلاقات الاجتماعية،فإنَّ شرعية المُجتمع سَتُصبح وَهْمًا مُكَرَّسًا بِفِعْلِ الأمرِ الواقعِ، ومُعتمِدًا على عوامل مَصلحية مُؤقَّتة ، بلا مبادئ عقلانية ذاتية، ولا جُذور تاريخية ضاربة في الأعماق. وكُلُّ شَجرة تعتمد في الثَّبات على غَير جُذورها، سَتَسْقُط معَ هُبُوبِ الرِّياح .

1
القاعدةُ الثقافية الحاملة للعلاقات الاجتماعية تُكَوِّن أنساقًا لُغويةً رمزيةً تُفَسِّر طبيعةَ الإنسان ، اعتمادًا على الرابطة بين الدوافعِ النَّفْسِيَّةِ ومَعاييرِ الإدراكِ . وتفسيرُ طبيعةِ الإنسانِ هو تفسيرٌ للواقع الاجتماعي ، وكُلَّمَا تَكَرَّسَتْ عمليةُ التفسيرِ إنسانيًّا وواقعيًّا واجتماعيًّا ، اتَّضَحَتْ معالمُ الوَعْي المُسيطِر على التَّنَوُّعِ الثقافي ، والسُّلُوكِ اليَومي ، والتواصلِ الحضاري . وهذا يدلُّ على أنَّ الهدفَ مِن عملية التفسير هو الوُصُولُ إلى الوَعْي ، وَحِمَايَتُه مِن الغيابِ والتغييبِ،لأنَّ حُضُورَ الوَعْي هو الضَّمَانَةُ لدمجِ القاعدة الثقافية مع قاعدة البناء الاجتماعي، واستخراجِ تاريخ التجارب الحياتية مِن أعماق الإنسان . وهذا مِن شأنه إحداثُ توازن بين حُضُورِ الوَعْي وحُضُورِ التاريخ ، ومنعُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن عَزْلِ الثقافة ، ومنعُ الثقافةِ مِن تَحويل اللغةِ إلى هيكل اجتماعي مُحَنَّط في مُتْحَفِ التاريخ . والغايةُ مِن العلاقاتِ الاجتماعية هي تعميمُ الظواهر الثقافية ، وتحديدُ المعاني الوجودية ، وتفعيلُ التبادل المعرفي ، وتعزيزُ وسائل الاتصال والتواصل ، والغايةُ مِن الثقافة هي تفجيرُ الطاقة الرمزية في اللغة ، وتأويلُ الواقع الاجتماعي معرفيًّا لا مصلحيًّا ، وتحويلُ السُّلوكِ اليومي إلى مُحاولة مُستمرة للتَّطَهُّر مِن العُقَدِ النَّفْسِيَّة في طبيعة الإنسانِ ، والعُقَدِ التاريخيةِ في البناء الاجتماعي .

- تمهيد:
لقد عارض أنصار الدارونية الاجتماعية وعلى رأسهم سبنسر فكرة كونت التي تذهب إلى أن تطبيق المعرفة العلمية يمكن أن يؤدي إلى الإسراع بالتقدم الاجتماعي. فقد شاركوه في ادعائه بأن التغير الاجتماعي عبارة عن عملية تطورية. ولكنهم أضافوا إلى ذلك، أن التغير محتوم بقوى لا تثنى ولا يمكن أن تتعدل بالفعل الإنساني وكل المحالات التي تبذل للتأثير في مجرى (النمو التطوري) لن تؤدي إلا إلى قلقلة التوازن الاجتماعي الموروث الأمر الذي يحدث أسوأ الآثار، وكان هدف العلم الاجتماعي عندهم، اكتشاف المراحل الحتمية في التطور الاجتماعي، متمثلين تشارلز داروين في تتبعه لتطور الأنواع الحيوانية([1]).

يمكن اعتبار دراسة هربرت سبنسر* بعنوان " مبادئ علم الاجتماع The Principles of Sociology "([2]) التي تقع في ثلاثة مجلدات والتي نشرت سنة 1877 هي أول دراسة منهجية خُصصت لتناول قضايا التحليل في علم الاجتماع. وكان هذا الباحث أكثر تحديداً من كونت من حيث بيان الموضوعات أو الميادين التي يجب أن تحتل أهمية في التحليل السوسيولوجي في نظره.

فقد أوضح في المجلد الأول من كتاب " المبادئ " مجالات الدراسة في علم الاجتماع حيث ذكر أنه على علم الاجتماع أن يوضح لنا كيفية نشوء الوحدات والأجيال المتعاقبة، وكيفية تنظيمها بحيث تحقق التعاون المتبادل. ويمكن تلخيص المبادئ التي تقوم عليها هذه المدرسة، فيما يلي([3]):

  • " يعد مفهوم التطور Evolution المفهوم الرئيسي لفهم العالم بكامله، والمبدأ الأساسي الموحد لكل العلوم، وهو القانون السامي لكل الموجودات، إنه سنة الوجود وقانونه الحاكم، فالطبيعة تتضمن أنماطاً متباينة من الحياة تخضع جميعها لعمليات من التحول والتطور المستمر "([4]).
  • اعتبار علم الحياة هو الأساس الذي يقوم عليه علم الاجتماع.
  • إن المبادئ الحيوية يجب أن يكون لها اعتبارها عند تفسير الظاهرة الاجتماعية.
  • إن المجتمع الإنساني وحدة حية تختلف عن كونها مجرد مجموعة من الأفراد المنعزلين.
  • لما كان أفراد المجتمع يخضعون للقوانين البيولوجية فإن المجتمع الإنساني بذلك لا يخرج عن كونه كائناً عضوياً.
  • لما كان المجتمع الإنساني كأي كائن عضوي يتكون من خلايا حية، (الأفراد) أصبح المجتمع بذلك كالكائن العضوي في تركيبه وأعضائه ووظائفه.
  • التطور الاجتماعي للإنسان استمراراً للتطور الذي يسميه (ما فوق العضوي) للحيوان، وهذا الأخير ليس إلا استمراراً لعملية التطور العضوي.

" السلام الكلي لا يسود إلا في داخل المقابر ([1]).  بول ليفي Paul Levey

1- مقدمة:

يتأصل الصراع بأشكاله المختلفة حضورا وتجذرا في مختلف مظاهر الوجود المادي والاجتماعي، ويتجلى في مختلف مظاهره على مبدأ تفاوت القوة وتكاملها ناموساً في الكون وقانوناً في الوجود. فالكون يقوم على معادلات التناقض والاستقطاب والتكامل وتوازنات القوى، بدءا من أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في الصغر حتى أكثر عناصر الوجود اللامتناهية في العظمة والكبر. فالصراع يبدأ في قلب الذرة ولا يتوقف حتى في مختلف مدارات المجرة. ففي قلب الذرة تتفاعل الإلكترونات وتتفاضل في تضافرات القوة والحركة على صورة التفاعل الذري بين أصغر مكونات الذرة بين النترونات والفوتونات، وفي قلب العالم المظلم المضيء -عالم الأفلاك والنجوم - يجري التقاطب بين الذرات والمجرات والشموس والأقمار في دائرة من التجاذب والتنابذ الكوني الذي يشكل قانون الكون الأساسي في المادة والحركة والطاقة. وقد اقرّ علماء الفيزياء في معظمهم بأن الحركة تلازم المادة والطاقة التي تشكل القوة المحركة للوجود، ويتجلى الكون وفقا لعلم الفلك والنجوم والفيزياء الكونية على صورة عالم متحرك في معترك تفاعلات كونية لا متناهية تقاطباً وتجاذباً.

فكل شيء كما يقول نيوتن " يجري كما لو أن الأجسام تتجاذب بنسبة أحجامها وبنسبة معكوسة لمربع بعدها بعضها عن بعض " وهذا القانون النيوتني يتيح لنا أن نفهم الحركات الظاهرة في السماء، وتلك التي تدور على الأرض، لأن قوانين السماء تحاكي قوانين الأرض توغلا في ثنايا الوجود. فالتجاذب والتقاطب والدوران وتشاكلات المادة المتحركة تشكل محكم الأسرار الحقيقية للوجود الكوني والاجتماعي في آن واحد. فالكون يتحرك بالقوة، وكل وجود يَمتثل لمبدأ القوة المحركة له في دورانه وتقاطباته وتجاذباته. وهل يمكننا أن نتصور ما الذي يحدث لو افترضنا بأن الأرض توقفت لبرهة عن الدوران؟ والأكثر هولا أن نتصور وهما بأن الشمس قد توقفت عن الحركة في لحظة ما؟ وعلينا عندها أن نسأل حينذاك عن مصير الوجود في المجموعة الشمسية وما يجاورها من أفلاك وأكوان.

ترتسم نظرية الصراع الكونية في أرقى مظاهرها الفلكية في نظرية الانفجار العظيم (The Big Bang Theory )[2]، الذي يقدر حدوثه قبل 13,7 مليار سنة، وهي النظرية الأكثر أهمية وخطورة في علم الفيزياء الفلكية، فالانفجار تعبير صراعي يدل حلى حدوث تناقض كوني رهيب في العناصر التي تشكل منها الكون. والانفجار لا يكون إلا بقوة ضاغطة وصراع ما بين الأضداد وهو يمثل حالة انفلاق ذري كوني بدأ في لحظة صفرية حيث لم يكن هناك زمان أو مكان، وفي خضم هذا الانفجار العظيم تشكلت الذرات والنجوم وانبثقت الظواهر الكونية وولدت الأشياء. وتنبئنا النظريات الكونية بأن هذا العالم اللامتناهي ما زال يولد دائما ويتجدد وينمو ثم يلتهم نفسه ويدمر تكويناته ويعيد خلق نفسه من جديد[3].

” إن البناءات الاجتماعية لديها القدرة على أن تنتج في داخل ذاتها عناصر الإحلال بالقوة والتغيير “. رالف داهرندورف.
- المقدمة:
عمل ماركس على بناء نظريته في المادية التاريخية على أساس جدلي (مادي)، معتمداً على البيانات التاريخية والموضوعية حتى عصره. لكن النظام الرأسمالي شهد تغيرات موضوعية وفكرية بعد وفاة ماركس، هذا إلى جانب ظهور قراءات خاطئة للماركسية نفسها، كما تجلت هذه لدى من أخذوا بالحتمية الاقتصادية.

لذا حاول رالف داهرندورف إلى بناء نظريته المعاصرة حول مفهوم الصراع الاجتماعي بالاعتماد على إعادة قراءة ونقد الأفكار الاجتماعية والاقتصادية التي قدمتها النظرية الماركسية الكلاسيكية، بالإضافة إلى استيعاب التغيرات التي شهدها مجتمع ما بعد الرأسمالي وبالأخص في النص الثاني من القرن العشرين.

ترى الماركسية أن منشأ الصراع الاجتماعي هو صراع طبقي في المؤسسات الصناعية وذلك بالاعتماد على مقولة ماركس في بيانه الشيوعي (المانيفيستو) عام 1848 (ليس تاريخ المجتمعات سوى صراع طبقي). إلا أن داهرندورف يعتقد بأن الصراع الدائر في وقتنا الحالي ليس صراعاً طبقياً بين طبقة البروليتاريا وطبقة مالكي وسائل الإنتاج كما اعتقد ماركس، حيث أخذ مفهوم الصراع الاجتماعي منحى آخر بناءً على أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته والتغيرات التي لحقت بالمجتمع ما بعد الرأسمالي. من هذا المنطلق يهدف المقال إلى تسليط الضوء على نظرية الصراع الاجتماعي عند رالف داهرندورف من خلال تناول بالدراسة والبحث العناصر التالية:

أولاً - من هو رالف داهرندورف (1929- 2009)؟  هو عالِم اجتماع ألماني - بريطاني، فيلسوف، سياسي، وليبرالي، كان خبيراً بارزاً في شرح وتحليل الانقسامات الطبقية في المجتمع المعاصر. درس الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، وهو من أبرز منظّري الصراع الاجتماعي المعاصر الذين اهتموا بدراسة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع، كما اهتموا بدراسة ومراجعة ونقد النظرية الماركسية في تفسير الصراع الطبقي، وكان نتاجه الفكري ينصب على أربعة موضوعات أساسية: (الطبقة ونظرية الصراع، نظرية الدور، المجتمع والديمقراطية، التحديث كعملية). أما عن منهجيته ( أي زاوية اقترابه من الواقع الاجتماعي) فهي مزيج من أفكار ماركس وفيبر. من أهم مؤلفاته:

" إن العقل الذي يسمو إلى معرفة الحقائق الأبدية لا يفنى حيث يتداعى الجسد، ذلك لأن البشر إنما يذمون الظلم خوفاً من أن يصبحوا من ضحاياه، لا اشمئزازاً من ارتكابه " . "  من المستحيل وجود نظام حكم مثالي لأفراد ليسوا مثاليين " ( أفلاطون).

- المقدمة: يتحلى الخيال بأهمية كبيرة في الفكر الفلسفي، والإنساني عموماً، حتى ليصدق القول إن الإنسان يتميز بكونه يتخيل. فالخيال هو الَملكَة التي تنقل الإنسان من التعامل مع المُعطى والسائد، إلى التعامل مع المُتشكِّل بإرادة الإنسان وعمله. وهكذا يصبح العالم، مع الخيال، عالماً لنا بعد أن كان عالماً قائماً بذاته، وبعد أن كان خاماً يُصبح واقعاً مفيداً. وهكذا يتجاوز الإنسان عبر الخيال الموضوعية المبالغة، كي يحقق تلك الصلة البينيّة والمتفاعلة بين الذات والموضوع. فيكون كلاهما في حالة " اعتماد متبادل " و" تضامن وجودي ".

الفلسفة والعلم وليدا الخيال والعقل معاً، ولولاهما لما ارتقى الإنسان بفكره وعلمه نحو حالة من التطور المتصل. فالتقدم سمة جذرها الحقيقي ينهل من معين التخيّل، ذلك أن كلاً من الفلسفة والعلم قد اصطدما، غير مّرة، بمشكلة حدود المعرفة العقلية، وأحالا الأمر عند كل " عقبة إبستمولوجية " على التخيل. وهكذا، تضامن العقلي واللاعقلي، بل والميتاعقلي، كي يشكلوا المعرفة الإنسانية بشقيها الفلسفي والعلمي. حيث يبدو أن للعلم الحديث دوراً في التخيل أكثر من اعتماده على الحواس.

إذا أردنا وضع علم الاجتماع في إطاره الصحيح، فلابد من العودة إلى الماضي ومراجعة ما قاله المفكرون عن مجتمعاتهم، أو عن فكرة المجتمع عموماً. حيث تمثل دراسة تاريخ التفكير الاجتماعي مطلباً مهماً للباحث في علم الاجتماع. إذ ينبغي أن يكون الباحث على وعي تام بتطور هذا التفكير عبر فتراته الزمنية المتعاقبة، حتى يتمكن من فهم تطور الظواهر الاجتماعية المختلفة فهماً سليماً، ذلك أن الظواهر المعاصرة إنما هي نتاج تراكمات كثيرة ومعقدة.

- قال أحدهم للبوذا: الأمور التي تعلِّمها، سيدي، لم أجدها في الكتب المقدسة."
- ردّ البوذا قائلا: أضفها عليها إذن ..
وبعد هنيهة صمت حَرِجة ...
- قال الرجل: هل لي أن أتجرأ عليك يا سيدي، فأقول إن بعض الأمور التي تعلِّمها يناقض الكتب المقدسة فعلاً!
وأخيرا ردّ البوذا قائلا: إذا الكتب المقدسة تحتاج إلى التصحيح.
فالكتاب المقدس "لا يعلمنا كيف تسير السماء، وإنما كيف نسير نحن إلى السماء". كما يقول غاليلو غاليلي (Galileo Galilei)؟

1- مقدمة:

تعد إشكالية المقدس من أخطر الإشكاليات، وأكثرها حساسية وأعمقها صعوبة في حياتنا الثقافية المعاصرة. وتأتي هذه الصعوبة من حساسية المقدس نفسه الذي يلامس في كثير من الأحيان الأوتار الداخلية للوجدان الإنساني، وهي الأوتار التي تشكل نسيج العقائد الإيمانية والروحية التي تسكن في أعمق أعماق الإنسان، وهي التي تعبر عن أكثر معطياته الكونية أهمية وخطورة وحساسية. لقد لعب المقدس دورا تاريخيا كبيرا في توليد العطالة الفكرية وإفقار العقلية الإنسانية عبر عصور من الزمن. وشكّل هذا المقدس نفسه المانع والممنوع والممتنع على مختلف أوجه التفكير والتداول والنقد والمساءلة والرفض . ومن هنا تأتي الصعوبة المحفوفة بالخطر في مناقشة مفهوم المقدس نفسه وإخضاعه للمناقشة للجدل. ومع ذلك كله، ورغم هذه الحساسية الهائلة لهذا الموضوع، يبدو لنا أن مناقشة هذا المفهوم وإخضاعه للتحليل العلمي قضية تفرض نفسها في حياتنا الثقافية والفكرية المعاصرة. وهذه المناقشة لا تهدف أبدا إلى تجاوز حدود المقدس الذي يأنف التداول والجدل، بل تأتي في سياق مقالتنا هنا تأكيدا على جوهر هذا المقدس وتحديده وفصله عن مجاله الدنيوي الذي انغرس فيه إلى حدّ التهلكة.

جاء في لسان العرب أن المقدس هو تنزيه الله عز وجل وهو المتقدس القدوس المقدّس([1]). ويميز كمال دسوقي في مفهوم المقدّس بين معنيين، حيث يعني القضايا والأشياء التي تتعلق بما هو إلهي من جهة، والقضايا التي يجب تجنب التعامل معها بخفة ورعونة أو عبث من جهة أخرى ([2]). ولكن الموسوعة الفلسفية العربية لمعن زيادة تقدم تعريفا أكثر تطورا. فالمقدّس كما تعرفه هذه الموسوعة هو " كل ما لا يمكن تدنيسه أو تلويثه، ويمتلك المقدّس على قوة غامضة تجذب أحيانا وتنفّر أحيانا وتجذب وتنفّر في أحيان أخرى. ويضيف معن زيادة في تحليه لهذا المفهوم بأن المقدّس " هو ما يثير في النفس الخوف والرهبة والاحترام والخشوع الذي يبعدنا عنه ويرغبنا فيه في الوقت نفسه. وينتج عن المقدّس مجموعة من المشاعر المختلطة والمرتبطة من: الاندهاش، والرغبة، والانجذاب، والفضول والتحفظ والقلق، والفزع والخوف مما يجعلنا نحبه ولا نجرؤ على تناوله في الوقت نفسه" ([3]).

"الويل لأمة كثرت فيها طوائفها.. وكل طائفة تقول: أنا أمة".
الويل لهم كما قال (جبران خليل جبران) منذ قرن من الزمن..

1-مقدمة:

 تشكل المسألة الطائفية أحد أخطر مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي الإسلامي، وهي تشكل تهديدا مستمرا للوجود الإنساني، وأداة لتدمير مختلف التكوينات الاجتماعية التي تقوم على المواطنة والحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالطائفية، نزعة تدميرية، تسكن الوجدان الجمعي العربي وهي نوع مكثف من الأيديولوجيا السياسية الدينية التي تغلغلت في أعماق العقل العربي، وتكثفت في المنطقة الأعمق من مكنونات اللاشعور الجمعي منذ قيام الدولة الأموية حتى الآن. وقد شهدت النزعة الطائفية تاريخا من حالة التذبذب بين الحضور والغياب على مقياس الحوادث السياسية والاجتماعية هبوطا أو صعودا في مختلف المناطق العربية والإسلامية. ويرصد المفكرون أن حضور هذه النزعة يكون عاصفا ومدمرا في أثناء الانتكاسات السياسية والأزمات الاجتماعية التي تشهدها بعض الدول والبلدان. وقد يعود هذا التعصب الطائفي بعد ثورته إلى الاستقرار والهدوء وذلك عندما ترتفع مؤشرات الهدوء والاستقرار في المجتمعات. ويلاحظ في هذا السياق أن الطائفية قد ترسبت في الأعماق مع ظهور الدولة الوطنية القطرية في سوريا ولبنان والعراق، ولكنها لا  تلبث أن تنهض من القاع كقوة بركانية متفجرة مع أي اهتزازات سياسية في السطح فتعمل- بقوة تدميرية هائلة جارفة على تدمير الروابط الاجتماعية والإنسانية في المجتمع لتهدد كل أشكال الوحدة الوطنية أو الصيغ الحضارية للتجمعات الإنسانية السياسية.

وقد شكلت هذه الظاهرة " الطائفية" الشغل الشاغل للباحثين والمفكرين في العالم العربي منذ عهود تاريخية قديمة. وما تزال هذه الظاهرة تطرح نفسها للبحث والدراسة في ظل ظروف سياسية جديدة تلعب فيها المتغيرات الدولية تأثيرا كبيرا وواضحا في تفكيك مجتمعاتنا وتدمير أواصر الحياة الاجتماعية والسياسية فيها.

ويمكن القول تاريخيا، وفي المستوى السوسيولوجي، أن أي شكل من أشكال الاهتزازات السياسية أو الاضطرابات الاجتماعية كان يترافق مع انفجار المسألة الطائفية، ولاسيما في حالات الحراك الاجتماعي أو الثورات الاجتماعية. فثورة الفلاحين في جبل عامل في لبنان كانت في جوهرها ثورة اجتماعية فتحولت ضمن اللعبة السياسية الإقطاعية في ذلك الزمن إلى حرب طائفية، وهذا عين ما نشهده اليوم في سوريا وفي العراق وفي لبنان أيضا.