الصراعات هي جزء لا يتجزأ من التطور الإنساني، ومن خلالها يتم تحقيق التغيير والتقدم" - كارل يونغ
"الصراعات لا تخيفنا، فالحياة نفسها تحمل الصراعات، وما يتعلق بها هو كيفية التعامل معها" - مايا أنجيلو

1- مقدمة:

شهدت نظرية الصراع تطورها على أيدي نخبة من علماء الاجتماع في القرن العشرين الذين اخذوا على عاتقهم العمل على تطوير هذه النظرية في ضوء التطورات التاريخية الجديدة التي ألمت بالمجتمعات الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد أثمرت جهود كثيرٍ منهم في استكشاف أبعاد جديدة لنظرية الصراع تتجاوز حدود المركزية الماركسية القائمة على مفهومَي الصراع الطبقي، والحتمية التاريخية للتطور القائم على التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته. وانطلق منظرو الموجة الجديدة  للصراع الاجتماعي إلى تناول قضايا جديدة ومختلفة عن كلاسيكيات نظرية الصراع، مثل: صراعات الجندر، وقضايا التفاوت الاجتماعية القائمة على أشكال جديدة من الصراع حول: السلطة، والموارد، والثروة، والقوة، والثقافية، والصراعات التي تأخذ طابعا عرقيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا ودينيًّا وثقافيًّا [1].

وقد شهد مفهوم "الصراع" (Conflict) تطوره الفكري الملموس في خمسينيات القرن الماضي، في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الأمريكية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى جهود عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز (Wright Mills) (1956)، الذي كان له قصب السبق في تناوله لمفهوم الصراع، وذلك في محاولة منه لفهم البُنى الاجتماعية للمجتمعات الغربية القائمة على جوهر الصراعات الاجتماعية والسياسية وتحليلها.

ويبدو لنا  أن ميلز قد سار على هدي النظرية الماركسية واستلهمها في تطوير نظريته حول الصراع وانطلق يعزز توجهاتها ويطورها في مجال التركيز على قضايا هذا الصراع في المجتمع الأمريكي. وقد أكد رفضه الواضح للفكرة الوظيفية التي تقول بأن المؤسسات والهيئات الاجتماعية تقوم على أساس الاتفاق مؤكدًا على عنصرَي الصراع والمنافسة في طبيعة هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي أدى إلى استفحال اللامساواة في توزيع الموارد والسلطة والقوة في المجتمعات الغربية. وقد أدى تفاقم هذا التفاوت الاجتماعي إلى نوع من الصراع الذي حدا بطبقات النخبة البرجوازية الحاكمة إلى العمل على بناء المؤسسات الأيديولوجية التي عُهد إليها بتشكيل أنظمة ثقافية تتمثل في منظوماتٍ من الأعراف والقيم التي تهدف إلى ترسيخ سلطة الطبقات النافذة وهيمنتها وسطوتها في المجتمع.

يرى ميلز في هذا السياق السوسيولوجي أن عملية الضبط السياسي والاجتماعي تتم عن طريق الإكراه والقوة واستخدام مختلف الوسائل المادية والثقافية والأيديولوجية التي تمّ تصميمها من قبل الأقوياء لتحقيق الضبط الاجتماعي، وعلى هذا الأساس فإن المجتمع ينشطر طبقيًّا ويحدث الصراع العميق بين الطبقات المَهيضة والطبقات الرأسمالية التي تمارس القوة لحرمان أبناء الطبقات العمالية والفقيرة من المشاركة الحقيقية في موارد الثروة والسلطة والقوة وإبقائها حكرًا على طبقات النفوذ والهيمنة [2].

وعلى أثر ميلز ظهرت نخبة من المفكرين الذي كرّسوا جهودهم للبحث في قضية الصراع الاجتماعي والخوض في إشكالياته واستشراف تجلياته في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة. ويُعد كل من دارندورف وكوزر وكولنز من أبرز رواد نظرية الصراع في العصر الحديث. وسنعمل على استعراض أهم الأفكار والتصورات الجديدة التي قدمها هذا الثلاثي في مجال سوسيولوجيا الصراع في المجتمعات الحديثة.

لقد حاول الفن جولدنر كعالم اجتماع راديكالي واعٍ وبارز، أن يلمس جملة هذه القضايا في مؤلفه الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي وقد نجح في ذلك بامتياز. فقد سجل تأملاته في هذا الصدد خلال عقد السبعينيات، غير أن ملامح الأزمة التي بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين، وسجل الفن جولدنر طبيعتها في السبعينيات استمرت تفرخ أزمات متوالية بصورة مستمرة، حتى انتهت الألفية الثانية، وقد اتسع نطاق الأزمات وساحتها، حتى ملأت فضاء العلم، وحينما جاءت الألفية الثالثة طرق علم الاجتماع أبوابها وهو يحمل أزماته على كاهله، ولقد كان ألفن جولدنر على حق حينما دق الأجراس بقوة في رجاء أن يستعيد علماء الاجتماع وعيهم ليتأملوا بهذا الوعي واقعهم وموقفهم، وأدوارهم في قلب هذا الموقف، ولينتقلوا بهذا التأمل لأعماله في مواجهة أزمات علمهم حتى يستعيد عافيته ليكون قادراً على تأمل وفهم ما يقع من أحداث وتفاعلات على ساحة نظامنا العالمي المعاصر بأصعدته العديدة . (علي محمود أبو ليلة)

- تمهيد:

يعتبر ألفن جولدنر· رائداً من رواد الاتجاه النقدي السوسيولوجي المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصةً في بداية العقد السابع من القرن العشرين المنصرم. فقد أبدى وعياً راديكالياً بدوره الأكاديمي والسياسي والثقافي في المجتمع. من خلال سعيه المتواصل للكشف عن النقائص والثغرات السائدة في علم الاجتماع المعاصر، لذا نجد أن معظم كتاباته قد وقعت على الحد الفاصل بين علم الاجتماع المعرفة والنظرية الاجتماعية.

عبّر جولدنر عن نظريته النقدية من خلال مؤلفه الشهير " الأزمة القادمة لعلم الاجتماع الغربي "، الذي يعتبر من أهم المؤلفات في هذا المضمار، لأنه بمثابة ثورة حقيقة تهدف إلى تشخيص أزمة علم الاجتماع من خلال حصر التناقضات والصراعات التي يشهدها هذا العلم بغية تصحيح مساره، بالاعتماد على رؤية نقدية تسعى إلى إيجاد بديل نظري يتصف بالكفاءة والشمول مما يجعله قادراً على الإحاطة بكل عناصر الواقع الاجتماعي، وحتى يتمكن الباحثون السوسيولوجيون أيضاً من استخلاص الجوانب الراديكالية من علم الاجتماع، وتخليصه من الجوانب القهرية التي تعتري أنساقه النظرية، لتحقيق غاياته الإنسانية التي وُجِدَ من أجلها بدلاً من غاياته الاستغلالية التي تم تكريسها من خلال نظرياته التقليدية ذات الطابع المحافظ.

ولتحقيق رؤيته النقدية هذه، قام ألفن جولدنر من خلال كتابه " الأزمة القادمة " بتطوير مفهوم التأمل السوسيولوجي، الذي يقوم على التحرر من مخاطر الوعي الاجتماعي، وتنمية وعي ذاتي سوسيولوجي لدى المشتغلين بعلم الاجتماع. على اعتبار أن هذا التأمل حسب جولدنر قد أصبح مطلباً ملحاً بعد التطور الفكري الهائل الذي شهده علم الاجتماع المعاصر خلال العقود الماضية، فضلاً عن زيادة عدد المشتغلين بهذا العلم واتساع نطاق اهتماماتهم. بناءً على ما تقدم سنسعى من خلال هذه الدراسة إلى مناقشة ما يلي:

 1
     الروابطُ الاجتماعية بين الأفراد تُمَثِّل أنساقًا تاريخيةً كامنةً في بُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي ، ومُتَجَسِّدَةً في الوَعْيِ المُسيطِر على مصادر المعرفة ، وهذه الأنساقُ تَحتاج إلى آلِيَّاتٍ لُغوية لتحليلِ مَعْنَاها ، وبيانِ جَدْوَاها ، وتكريسِ شرعيتها ، مِمَّا يُسَاهِم في تَوظيفِ البُعْدِ التاريخي في المُجتمع ، لَيْسَ مِن أجلِ إعادةِ الحَاضِرِ إلى المَاضِي ، بَلْ مِن أجلِ تَحويلِ الحَاضِر إلى وَعْي بالمَاضِي ، وامتلاكِ الظواهر الثقافية التي تُعَرِّي الأزمنةَ مِن الوَعْي الزائف ، وتُجَرِّد التفاعُلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن أوهامِ الهَيْمَنةِ . وهذه التفاعلاتُ لَيْسَتْ تَوَاصُلًا ميكانيكيًّا بين الأفراد، أوْ تَبَادُلًا آلِيًّا بين عناصر البيئة المُعَاشة ، وإنَّما هي تفاعُلات قائمة على الشُّعورِ الواعي، والإدراكِ الحِسِّي ، وَمَنْطِقِ اللغة ، وهذا يَحْمِي مَركزيةَ الوُجودِ الإنساني مِن القطيعة المعرفية ، ويُحَقِّق الانسجامَ بَين إفرازاتِ العَقْل الجَمْعِي وتأثيراتِ تاريخ الأفكار.وكُلُّ التفاعُلاتِ المُتَجَذِّرَةِ في البِنَاءِ الوُجودي للمُجتمعِ وبُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي تُمَثِّل مَناهجَ نَقْدِيَّةً لا يُمكِن عَزْلُها عن السِّيَاقِ الحضاري للفردِ والجماعةِ ، وتُمَثِّل مَرجعياتٍ فكرية لا يُمكِن إبعادُها عن دَلالاتِ التأويلِ اللغوي لتجارب الأفراد الحياتية ، التي تَتمركز حَول هُوِيَّةِ المَعنى الإنساني ، وعلاقةِ الوَعْيِ بِسُلطةِ المعرفةِ كَنَسَقٍ وُجودي مُلتزِمٍ بالمعاييرِ الأخلاقية ، ومُتَجَاوِزٍ لِحُدُودِ التَّوظيفِ المَصلحي للثقافةِ والتاريخِ والحضارةِ .

تقديم:
في الموقع العلمي المتخصص (hypothèses)، نشرت الدكتورة لورا بالزر مقالا نقديا يوم فاتح يناير 2019 ترد فيه على اطروحة جوليان روشيدي الذكورية والمعادية للنسوية. قبل الشروع في تقديم اقوالها، يجدر بنا التعريف بها في سطور.
الدكتورة لورا بالزر هي أستاذة مساعدة في الإحصاء الحيوي ومديرة مختبر السببية في UMass Amherst. تشمل مجالات خبرتها الاستدلال السببي والتعلم الآلي. هذه التخصصات أساسية لتطوير وتقييم وتنفيذ الحلول القائمة على البيانات في الصحة العامة والطب. قامت الدكتورة بالزر بإحصاء أساسي لأربع تجارب عشوائية عنقودية في شرق إفريقيا. إنها ملتزمة بشدة بتحسين نتائج المشاركين، وتكوين مجموعات مهتمة بالصحة، وترجمة الأساليب المتقدمة لتطبيق المحاضرات، وتدريب الجيل القادم من العلماء.
"قبل أسابيع قليلة تلقيت رسالة بالبريد الإلكتروني من مسؤول برنامج "Open Mic" على قناة روسيا اليوم، يدعوني إلى حلقة مخصصة للموضوع التالي: "الرجال غاضبون من النسوية؟". كان علي أن أتناقش مع جوليان روشيدي، الرئيس السابق لشبيبة الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة، الذي أنشأ شركة "تكوين"، موضحا للرجال كيف "يكونون ويظلون رجالًا"، للدفاع عن امتيازاتهم ضد "النسويات القبيحات".
من الواضح أن هذه الدورات التكوينية مدفوعة الأجر ... ترددت، متشككا في عنوان البرنامج، خائفا من عدم القدرة على المجادلة حقًا ضد شخص اعتاد على طرح خطاب أيديولوجي بسيط وبالتالي فعال. ثم قلت لنفسي إن أفضل شيء هو الاستعداد للإجابة. شاهدت مقاطع الفيديو الخاصة به، أجريت بحثا عن حجج بناءة لمعارضته... وفي اليوم السابق للمناقشة، تلقيت رسالة بالبريدا الإلكتروني من RT France تخبرني أنه، "لأسباب تتعلق بالميزانية واللوجستيك"، لم أعد مدعوا. شاهدت النقاش على أي حال. كان من الواضح أنها كانت منصة لجوليان روشيدي الذي كان قادرا على فضح أيديولوجيته الكارهة للنساء والعنصرية. لذلك أردت أن أتناول حججه خلال هذه المناقشة، لأنني إذا لم أتمكن من التحدث مباشرة، فأنا أريد أن أفعل ذلك للتشكيك في خطاب يستحق أن يضحد ويحلل.

1
     هَيمنةُ الأنساقِ التاريخية على الظواهر الثقافية ، وسَيطرةُ فلسفةِ القُوَّة على العلاقات الاجتماعية ، تُعْتَبَرَان مَنظومةً واحدةً ومُوَحِّدَةً للعناصرِ الفكريةِ المَنْسِيَّةِ في البناء الاجتماعي. وإذا كانَ الوَعْيُ تشخيصًا للحاضرِ مَعْنًى وَمَبْنًى ، فإنَّ اللغةَ تشخيصٌ للواقعِ إدراكًا وحِسًّا . والوَعْيُ واللغةُ يَنطلقان مِن قُيودِ اللحظةِ الآنِيَّةِ إلى فَضاءاتِ التاريخِ والحضارةِ ، لصناعةِ زَمَنٍ معرفي عابرٍ للتَّجنيسِ ، ومُتَجَاوِزٍ للحُدود ، وقادرٍ على إيجاد رابطة منطقية بين فَلسفةِ القُوَّة وسُلطةِ المعرفة، مِمَّا يَدفَع باتِّجاه تَوليد مفاهيم تُحَلِّل الصِّرَاعَ بين الفردِ وذَاتِه ضِمن البُنى الوظيفية في المُجتمع . وتَوليدُ المفاهيمِ يَعْني بالضَّرورةِ تأسيسَ مناهج اجتماعية إبداعية ذات طابع خَلاصِي تَحْريري للأحداثِ اليومية مِن سَطوةِ آلِيَّات الوَعْي الزائف ، وتأثيرِ أدوات القَمْع الفكري ، وهذا يُؤَدِّي إلى تَحويلِ الفِعْل الاجتماعي إلى مِعيار أخلاقي في جَوْهَر الطبيعة الإنسانية للفردِ والمُجتمعِ ، وتَحويلِ الظواهر الثقافية إلى مُمَارَسَات وُجودية فَعَّالة تُوَظِّف الأنساقَ التاريخية في الحُلْمِ الفردي والمَصلحةِ العَامَّة ، مِمَّا يَضمَن تحقيقَ التجانس بين الماضي والحاضر، وإعادة تأسيسهما على الزمن المعرفي ، بِوَصْفِه وَعْيًا إبداعيًّا مُتَجَدِّدًا ، وتَفجيرًا مُسْتَمِرًّا للطاقة الرمزية في اللغة من أجل تحقيق اندماجِ الفرد في ذَاتِه ومُحيطِه ، واندماجِ المُجتمع في تاريخِه وحضارته. وعمليةُ الاندماجِ الفرديةُ والجَمَاعِيَّةُ قائمةٌ على ثُنائية ( التَّقييد / التَّحييد)، تَقييد العلاقاتِ الاجتماعية الناتجة عَن تَكريسِ الوَعْي الزائف ، وهذا يُؤَدِّي إلى امتلاك المُجتمع لِمَسَارِه ومَصِيرِه ، وتَحييد التناقضاتِ الشُّعورية الناتجة عن تأويل اللغة الوَهْمِي، وهذا يُؤَدِّي إلى تحقيق التوازن بين إنتاجِ سُلطة المعرفة وامتلاكِ سُلطة القَرَار ، وهاتان السُّلْطَتَان تُحَدِّدَان مَاهِيَّةَ البناء الاجتماعي ، وقُدرته على التَّكَيُّفِ معَ ضغط الأنساق التاريخية ، والتَّأقْلُمِ معَ تجاذبات مراكز القُوَى في الظواهر الثقافية .

1- مقدّمة:

تعدّ نظريّة إيرفنغ غوفمان الدّرامية (Dramaturgical Theory)[1] مدخلاً سوسيولوجياً درامياً متطوراً لفهم السّلوك الاجتماعي وتحليل التّفاعلات الإنسانية في مسار الاستكشاف الأعمق لخفايا السّلوك الإنساني ونوازعه العصية على الفهم والتحليل. وتشكل نظريته هذه بلورة مكثّفة لمختلف الاتّجاهات الأساسية في نظريات التّفاعل الاجتماعيّ والرمزيّ على حدّ سواء. وتكمن عبقرية غوفمان في تناوله لمختلف الظواهر الاجتماعية وفق طريقة مبتكرة تعتمد التّمثيل المسرحي الرمزي منهجية صميميّة في استكشاف أبعاد السلوك الإنسانيّ نفسياً واجتماعيّا. وهو في مختلف جوانب هذه النظرية يوضّح لنا كيف يتفاعل الناس وكيف يتشكلون بأنفسهم، ويشكّلون الحقيقة الاجتماعية وفق الفعاليات الرّمزية الدرامية التي تنطوي على عمليات سيكولوجية صميمية تأخذ طابعاً رمزياً مكثفاً فاعلاً في إنتاج الهويّة والمعنى والدّلالة، وفي تشكيل الفعل الاجتماعيّ بمختلف تجلياته وتمظهراته.

وتتميز نظرية غوفمان بقدرتها الفائقة على التوغّل في أعماق النّفس الإنسانية ، واستكشاف أغوارها العميقة ، وقد جعلت من التّفاعل الإنساني الدّرامي قضيتها الأساسية وميدانها الحيوي لممارسة نشاطها المعرفي. إذ يرى  غوفمان أن التّفاعل الرمزي يشكل البوتقة  التي تتفاعل فيه إيماءات الجسد، وتهدّجات الصّوت، وحركات اللّسان، وومضات الدلالة، وبريق الرموز وتوهّجات المعاني. وعلى هذا النحو، وفي هذا الميدان التّفاعلي، يدرس غوفمان الإنسان كبنية دينامية سيكولوجية لغويّة رمزية تتشكل في سياقات التّفاعل مع الآخر تكيفاً مع مواقف الحياة اليومية ووضعياتها الاجتماعية.

وقد أثمرت جهود غوفمان العلمية في هذا المجال السوسيولوجي ليكون أحد أهم علماء الاجتماع في القرن العشرين، واستطاع أن يخطّ مساره المبتكر في سوسيولوجيا التّفاعل الرمزيّ، وأن يرسّخ نظريته المتفردة في مجال التّحليل الدراميّ للسّلوك الإنساني. وقد عُرف بأفكاره المبتكرة حول سلوك الإنسان في الحياة الاجتماعية والمجتمع، وقدّم رؤى واضحة حول دور الرموز والإشارات في التّفاعل بين الأفراد. وقد استحقّ بجدارة فائقة أن يلقّب اليوم بالأب المؤسّس لنظرية التّفاعل المسرحي الدراماتورجي (Dramatyrgy)[2].

 1

     الفِعْلُ الاجتماعي لَيْسَ زمنًا مُتَحَجِّرًا في الظواهرِ الثقافيةِ والقوالبِ التاريخيةِ ، وإنَّما هو تجديدٌ فِكري حقيقي ومُؤثِّر في مفاهيمِ المُجتمعِ وحقولِ المعرفةِ، وكُلُّ تجديدٍ فِكري يُمثِّل آلِيَّةً لإعادةِ إنتاج التفاعلات الرمزية في لُغةِ الفردِ الإبداعية ، وهُويته المركزية ، وسُلطته الاعتبارية . وإذا تَكَرَّسَ الفِعْلُ الاجتماعي كأداةٍ تفسيريةٍ للأحداثِ اليوميةِ والسُّلوكياتِ الأخلاقيةِ ، فَإنَّ وَعْيَ الفردِ بِذَاتِه وعناصرِ البيئةِ المُحيطة به ، سَيَصير قُوَّةً دافعةً لأشكالِ العلاقاتِ الاجتماعيةِ ، ومُوَلِّدَةً لرموز البُنى اللغويةِ ، ومُنَظِّمَةً للمعاييرِ الأخلاقيةِ . وهذا يدلُّ على أنَّ الوَعْيَ هو أساسُ الفِعْلِ الاجتماعي ، وكِلاهُمَا مُندمِج معَ عمليةِ تحريرِ الظواهرِ الثقافية مِن عِبْءِ المَصَالحِ الشخصيَّةِ ، وعمليةِ تخليصِ القوالبِ التاريخيةِ مِن ضَغْطِ التأويلاتِ المُغْرِضَةِ . وإذا كانَ المُجتمعُ هو ذاكرةَ الأحلامِ الفرديةِ التي تُعيد تشكيلَ سُلطةِ البناءِ الاجتماعي ، وترسيخَ إنْسَانِيَّةَ الواقعِ التي لا يُمكِن أَدْلَجَتُهَا مَصلحيًّا ، ولا تفكيكُها تاريخيًّا ، فإنَّ فلسفةَ المُجتمعِ هي تجسيدُ ذاكرةِ الأحلامِ الفرديةِ في بُنيةِ السِّيَاقِ الحضاري لِثَورةِ اللغةِ وحركةِ التاريخِ ، وهذا التشابكُ المعرفي بين المُجتمعِ وفلسفته يَجعل جَوْهَرَ الفِعْلِ الاجتماعي إطارًا مرجعيًّا لِمَنطقِ اللغة الرمزي ، ومَنهجِ العقل الجَمْعِي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَجذيرِ الفِكْر النَّقْدِي ، وتَكَيُّفِ فَلسفةِ الحَداثةِ معَ فَلسفةِ التُّراثِ ، بدون عوامل خارجية ضاغطة ، ولا عمليات تَلفيق اصطناعية على الصَّعِيدَيْن الزَّمَني والأيديولوجي .

النقد أعلى درجات المعرفة، والنقد الاجتماعي هو النقد الذي يساهم في دعم نوع من الوعي الذاتي وفهم الظروف الاجتماعية والسياسية القائمة حتى تصبح البشرية قادرة على تحديد طريق حياتها، ودعم عملية تحرير الإنسان، لأن علم الاجتماع وُلد لكي يكون علماً نقدياً رافضاً لكل ما هو ضد إنسانية الإنسان، أما حركة التجديد والنقد في علم الاجتماع المعاصر، فهي لا تهتم بتقديم بدائل نظرية فقط، ولكنها تهتم أيضاً بتقويم مسار العلم وتصحيحه ليحقق أهدافاً جديدة أكثر تحرراً وإنسانية، ويمكن تسميتها بالنقد السوسيولوجي([1]).

يؤكد لنا تاريخ الفكر الاجتماعي أن الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع، ظهرت كرد فعل طبيعي ومنطقي تجاه الأزمات والمشكلات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، التي كانت ومازالت تعتري الواقع الاجتماعي بكل تجلياته.

إن الدراسة التحليلية لحركات النقد الاجتماعي التي ظهرت ضمن إطار الاتجاهات النقدية عموماً، تكشف لنا عن وجود مستويين أساسيين لهذا النقد، ففي المستوى الأول  نجد أن النقد الاجتماعي يعبر عن احتجاج اجتماعي شامل يستهدف التأكيد على ضرورة التغيير الأساسي والجوهري للأنماط الحضارية القائمة، إذ يبدأ هذا النقد بالتحليل السلبي لعيوب السياق الاجتماعي القائم ونقائضه، من خلال العمل على تجسيد حركة احتجاج تنظر إلى الواقع كشيء يمكن إعادة تشكيله وتغييره، أي امتلاكها  لتصور مثالي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بحيث يصبح هذا التصور بدوره الإطار المرجعي الأولي لتنفيذ ما هو قائم، فيؤكد هذا المستوى على ضرورة امتلاك الحركة النقدية لقوى اجتماعية تصبح هي الفاعل الثوري (الراديكالي)* الذي ينتقل بالمجتمع مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، من خلال التأكيد على اكتمال حركة التحول الاجتماعي والحضاري([2]).

أما المستوى الثاني للنقد الاجتماعي فيمكن اعتباره أقل راديكالية وشمولاً لأنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط، أي أنه يهدف إلى عملية التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع الاجتماعي والحضاري، ويظهر هذا المستوى من النقد الاجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع، أو عندما لا يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأً لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته. هذا النقد قد يصبح هو المستوى المسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صلابته أمام الانتقادات الموجه إليه، حيث يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بنائه وصلابته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته. ويبرز هذا المستوى النقدي في المراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع الاجتماعي قوياً، قادراً على استيعاب تناقضاته مؤكداً على وحدته وتكامله، أو حينما يقتصر النقد الاجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم، وامتلاك القدرة على الانطلاق إلى ما ينبغي أن يكون عن طريق امتلاك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه المجتمع، أو حينما لا يمتلك التيار النقدي قوى التحول الاجتماعي أو الفاعل الثوري ([3])