يقول إميل سيوران (Emil Cioran) [1]: لا أحيَا إلاّ لأنّ في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلتُ نفسي منذ البداية".
تبيّن الإحصائيّات العالميّة الرسميّة اليوم أنّ 703000 شخصاً ينتحرون سنويّاً، هذا عداك عن مئات الألوف من المحاولات الانتحاريّة الفاشلة. ومن المؤكّد أنّ كلّ حالة انتحار تشكّل بذاتها مأساة إنسانيّة في المجتمع. وقد صنّف الانتحار بوصفه رابع أهمّ سبب للوفاة بين الأفراد الّذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالميّ، والواقع أنّ أكثر من 79% من حالات الانتحار العالميّة تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل.
1- مقدّمة:
احتلّت ظاهرة الانتحار مكاناً استراتيجيّاً في سوسيولوجيا دوركهايم، وشكّلت محوراً أساسيّاً من محاور اهتمامه. وقد عُرف دوركهايم بدراسته التاريخيّة الّتي أجراها عن الانتحار في أوروبا، وهي الدراسة الشهيرة الّتي كرّسها للبحث في ماهيّة الانتحار، وفي عوامل نشأته، ومظاهر حركته وانتشاره، ساعيا إلى استكشاف القانونيّات السوسيولوجيّة الّتي تحكمه. وقد نشر نتائج دراسته هذه في كتابه المشهور الانتحار (Le Suicide)([2]) عام 1897. ويشكّل بحث دوركهايم حول الانتحار عملاً سوسيولوجيا كلاسيكيّاً فذّاً، يتميّز ببراعته المنهجيّة، وعمقه المعرفيّ وقدرته الخلّاقة على توليد الإلهام السوسيولوجيّ للمفكرين والباحثين على مدى أجيال متعاقبة. وقد شكّلت دراسته هذه أحد أكثر الأعمال وضوحاً وأهمّيّة في علم الاجتماعيّ الكلاسيكيّ التأسيسيّ، وارتقى هذا العمل إلى صورة نموذج علميًّ سوسيولوجي فريد في بنيته وتكوينه استلهمه علماء الاجتماع وغيرهم من المفكّرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانيّة على امتداد القرن الماضي وما يزالون ([3]). ويعترف معظم النقّاد في مجال علم الاجتماع بأنّ مبحث دوركهايم عن "الانتحار" يتّسم بأهمّيّة تاريخيّة فائقة في مجال علم الاجتماع وذلك لاعتبارات ثلاثة أساسيّة:
يتمثّل الأوّل في أنّ دوركهايم اعتمد في بحثه عن الانتحار- ولأوّل مرّة في تاريخ علم الاجتماع- المنهجيّة العلميّة الّتي أسّسها ورسّخها في كتابه قواعد المنهج (Les regles de la methode en sociologie)، إذ قام بتطبيق المنهج السوسيولوجيّ (قواعد المنهج) بصورة واضحة ورصينة في هذا العمل، وقد أعطى هذا الأمر أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة لهذا العمل، إذ إليه يشار اليوم بوصفه البحث السوسيولوجيّ الأوّل الّذي أخذ صورة طابع بحث ميدانيّ أكاديميّ منهجيّ إمبيريقيّ، وقد اعتمد دوركهايم في هذه الدراسة على معطيات اجتماعيّة إحصائيّة، وانتهج التحليل الإحصائيّ، واعتمد الملاحظات العلميّة الرصينة ليجسّد بذلك المنهج السوسيولوجيّ الرصين الذي نادى به في هذه الدراسة على أكمل وجه ممكن.