هل يمكن أن تتحسن المدارس إن جرى إعادة تصميم مناهجها، وطرق التدريس داخل فصولها، بما يتوافق مع معطيات علم الوراثة؟ وكيف يمكن للجينات أن تحفز التفكير خارج الإطار التقليدي، بالنسبة لطفل لا يتعلم بالطريقة الاعتيادية؟
لا تسمح المسافة بين التعليم وعلم الوراثة بالتكهن، أو توقع حلول للإكراهات التي يواجهها التعليم المدرسي؛ غير أن التأثير الذي تمكن علماء الجينات من إحداثه في ميادين الطب، والزراعة، والقانون، والسياسة الاجتماعية، يعزز فرضية التجاوب، ولو من منظور مستقبلي، بين الدروس المستفادة من علم الوراثة وأبحاث الجينات، وبين الإشكالات التي تنتصب على نحو مستمر داخل الوسط المدرسي، وفي طليعتها: معيقات التحصيل الدراسي.
إن مهمة التعليم هي أن يُكسب الصغار مهارات التعلم البسيطة، ممثلة في القراءة، والكتابة، والحساب، بغض النظر عن معدلات ذكائهم. وهذا يعني أن السياسة التعليمية قائمة على فرض الأهداف ذاتها، دون مراعاة للاختلافات الفردية الطبيعية في القدرة والنمو. في حين يعلم الجميع أن كل طفل عند ولادته، يحمل سمات خاصة به، تعكس حالته المزاجية، واحتياجاته، وميوله. لذا يرتبط تحقق مهمة التعليم بمعرفة الطريقة التي تتفاعل بها جيناته مع الخبرات المكتسبة في المدرسة.
يكمن الحل إذن في نظام تعليم تستوعب مناهجه وطرائقه معطيات علم الوراثة، بشكل يتيح في الآن نفسه تنمية المهارات الأساسية للطفل، واحتضان مواهبه وقدراته الفردية. فمنذ اختتام مشروع الجينوم البشري سنة 2003، أصبح تحديد تسلسل الجينوم عملية ميسرة، تسمح بالتعرف على الجينات التي تؤثر على قدرات التعلم، وبالتالي تُمكّن نتائجها من إحداث فارق إيجابي.
أولى الاختلافات التي تقدم أبحاث الجينات تفسيرا لها، تتعلق بالتباين الحاصل في تمكن الأطفال من القراءة، باعتبارها مهارة تحفزها البيئة بالدرجة الأولى، حيث ينشأ ارتباط جيني بين القراءة والمهارات السابقة، مثل تعلم الحروف الهجائية، وكل تذبذب أو صعوبة يرجع في الغالب إلى تأثيرات بيئية، كالأسرة، ورفقة السوء، وغيرها؛ فعلى سبيل المثال تركز رياض الأطفال في السويد والنرويج على تنمية المهارات الاجتماعية والعاطفية والجمالية، أما التمكن من القراءة في هذه المرحلة فراجع إلى دور الأسرة. وما إن يلتحق الطفل بالمدرسة حتى تصبح القراءة والهجاء أنشطة مستهدفة بشكل مكثف. والنتيجة هي أن في هذين البلدين يكتسب التلاميذ مهارات قراءة فوق متوسطة، مما يؤشر على أن فرضية إرجاء تعلم القراءة لصالح نمو الأطفال لن يتسبب في ضرر طويل الأمد لمهارة القراءة لديهم.
تلعب الجينات أدوارا نشطة في تكوين خبراتنا، وهذا الاقتران بين البيئة والنمط الجيني فيما يتعلق بالأداء القرائي، يتخذ ثلاثة أشكال هي:
- الاقتران السلبي: حيث إن الآباء غير المهتمين بالقراءة، لا ينقلون جيناتهم إلى صغارهم فحسب، وإنما يُنشئونهم في بيئة منزلية لا توجد به كتب؛ وبالتالي يصبح الطفل أمام انتكاسة مزدوجة، يرث بسببها جينات لا تحبذ القراءة.
- الاقتران الاستدعائي: حيث إن الطفل الذي يتمتع مسبقا باستعداد جيني لحب القراءة، يحفز البيئة من حوله على سلوكيات إيجابية، من قبيل اصطحابه إلى المكتبة، وتثني على عدد الكتب التي قرأها؛ وهذا المناخ الإيجابي تجاه القراءة تستدعيه جينات الطفل بشكل جزئي.
- الاقتران النشط: حيث يحظى الطفل المستعد جينيا للتميز في القراءة باستنفار كبير لقدراته، من خلال البيئة المنزلية المحفزة على الأداء، أو عبر المهام التي يتم تكليفه بها داخل الفصل. ويسمح هذا النمط للصغار بأن يحددوا عوالمهم على أساس ميولهم الجينية.
ولا تقلّ الكتابة أهمية عن القراءة، لكونها نمطا من أنماط التواصل، ومهارة حياتية بالغة الأهمية في العالم المعاصر. لكنها بالمقابل مهارة غير طبيعية، وتتطلب تعلما مكثفا قد لا يحقق لدى بعض الصغار نتائجه المرجوة، ليصبح تدني قدرة الكتابة حاجزا يستدعي تحديد الخبرات الكفيلة بالتغلب على استعداده الجيني.
إلى جانب القراءة والكتابة تثير مهارة الحساب قدرا مبالغا فيه من الاهتمام، خاصة وأنها تشكل داخل أغلب منظومات التعليم حجرَ الزاوية في المنهاج الدراسي. لذا فإن سؤالا من قبيل: هل نولد بحس رياضي؟ كفيل بأن يستنفر الباحثين في علم الوراثة السلوكي، لمحاولة الكشف عن سبب تفوق بعض الصغار عن غيرهم في القدرة الرياضياتية.
تشير نتائج البرنامج البحثي الذي أجرته عالمة النفس يوليا كوفاسKovas لدراسة التطور المبكر على عينة من التوائم يبلغون عشر سنوات، إلى أن القدرة الرياضياتية قابلة للتوريث بنسبة قد تصل إلى %70. بمعنى أن الصغار داخل الفصل الدراسي يبدؤون من نقاط مختلفة، وأن دور المدرس هو استخراج إمكانات كل طفل على حدة، وليس تحقيق هدف مفروض من الخارج على الصف بأكمله؛ فبعض الأطفال يلجون المدرسة ولديهم تفوق بيولوجي، بينما لا يحتاج الآخرون سوى المقدار اللازم لمجابهة مواقف من حياتهم اليومية.
إن هذه النتائج لا تستبعد القيمة المضافة للدراسات التي تحلل تأثير بيئة الأسرة أو المدرسة، وتقترح تدخلات مناسبة للرفع من متوسط التحصيل الدراسي في الرياضيات. غير أن اختبار الفرضيات بمعزل عن التأثير الجيني لا يمكنه أن يقدم دليلا حقيقيا على دور الأم مثلا، أو الألعاب المحفزة للعقل في زيادة تلك القدرة. بمعنى أن علاقة الاقتران هنا بين النمط الجيني والبيئة لن تصبح بالضرورة علاقة سببية، كما أن استخدام المظلة لا يؤدي حتما إلى هطول المطر.
تتعدد إذن مهام جيناتنا مما يُكسبنا أفكارا قيمة حول طريقة عملها، وأهميتها بالنسبة لقدرة التعليم والتحصيل الدراسي. لكن بيت القصيد هنا هو استثمار الإمكانات الجينية لتحسين النظام التعليمي بكل مكوناته. وتشكل التربية البدنية أحد المداخل التي يسعى البحث الجيني إلى تثمين حضورها في البيئة المدرسية، بعد أن تبين قدرة الجينات على التحكم في معدل التمرينات الرياضية، ومدتها وشدتها.
لا تحتاج المنافع الصحية للرياضة المدرسية إلى دليل، كما أن توفير نطاق واسع من الأنشطة البدنية لهو أمر تتزايد أهميته، في ظل العزوف الذي يتسبب فيه التعاطي المفرط للألعاب الإلكترونية. غير أن ما تسجله الدراسات المعنية بالتأثيرات الجينية ينصب أساسا حول ضرورة توفير نطاق واسع من الاختيارات في مجال اللياقة البدنية، ضمن منهج موحد على صعيد المدرسة الابتدائية، وتشجيع الصغار على تكوين ميول معينة تجاه الرياضة قبل سن الخامسة عشرة، لأنها السن التي تصبح فيها ممارسة الرياضة رهينة بالمتعة، أو بمعنى آخر حبيسة الاقتران النشط الذي تحدده الميول الجينية.
تلك هي أبرز النتائج التي خلص إليها كل من كاثرين آسبري وروبيرت بلومين في دفاعهما المشترك عن الصلات الوثيقة بين علم الوراثة والتعلم، وحماسهما لوضع لبنات نظام تعليمي موجه جينيا، يدعم الاختلافات الفردية، ويحتضن التنوع، ويحفز المدرسين على التفكير خارج الأطر التقليدية.
ورغم أن السياسات التعليمية الحالية لا تبدي حماسا شديدا للقدر الضخم الذي توصل إليه علماء الجينات، من معلومات ونتائج أبحاث ودراسات عن التعلم والسلوك، إلا أن مؤلفي كتاب (الجينات والتعليم) يُؤكدان حتمية التغيير، وهدم التصورات الخاطئة التي تقيد النظم التعليمية وعلى رأسها فلسفة "الصفحة البيضاء".
وفي معرض هذا الحماس يصرح المؤلفان دون مواربة: "ينبغي على المدرسة أن توفر تنشئة متكافئة الجودة بحسب طبيعة كل طفل؛ فنحن جميعا لا نتمتع بالمواهب نفسها، لكن ينبغي أن يحصل كل منا على فرص متساوية من أجل تنمية ما لدينا من مهارات."