لا خلاف في كون عمر القصة القصيرة بالمغرب، مقارنة مع باقي أشكال وأجناس الإبداع، هي بنت بكر ، إذا جاز التعبير، لكنها مالبثت أن تمردت على كل الأنساق لتصير فنا أدبيا قائم الذات بكتابها وروادها وقرائها المتميزين.
ومما ساهم في تدويل وانعكاس هذا الجنس على وعي الإبداع والمبدع معا هو حضور التفاعلات المجتمعية الطارئة على مغرب القرن الماضي، حتى أصبح بالشكل الراقي الذي هو عليه اليوم، سيما تلك المناولات على مستوى الطروحات الفنية والجمالية.
لا نروم من خلال هذا الاستطراد تقعيد سياقات ظهور فن القصة القصيرة بالمغرب أو تطورها بقدر ما نتوخى من هذا المدخل أن يكون بوابة لاقتحام عوالم الكتابة النسائية عبر الوقوف على بعض القضايا التي أثارتها مجموعة " نحيب الملائكة " القصصية (1) للقاصة المغربية هند لبداك، مركزين في هذه المساهمة على قضية حضور المرأة ومدى انعكاسها على وعي الكاتبة التي راهنت في هذا الإبداع الخاص على صوتها المتميز ركوب غمار تجربة جمعت بين دفتيها ما أسماه الناقد نور الدين صدوق ب" التنويع على الواحد ".
حقا إنه توصيف ينطبق بالجملة والتفصيل على هذا الإبحار الذي يجمعنا الآن وهنا بصيغة الواحد المتعدد.
سيلاحظ القارئ ومنذ الوهلة الأولى أن العنوان يضعنا إزاء قضيتين بلغة المناطقة : "نحيب" بصيغة التنكير متبوعا بأداة عطف و "ملائكة" بصيغة التنكير هي الأخرى ... وهذا الفصل المتعمد تربطه الأداة اللغوية فتجعلنا نفصل العنوان القصصي الأصلي لتفكيك عوالمه لأنه هو أصلا عبارة عن مجموعة قصصية.
إن ما يوحد المجموعة القصصية هو النحيب الطاغي على لغتها وهمومها، لكن هذا النحيب بصيغة المفرد هو نحيب واحد يتسلل من زفرات ملائكة بصيغة الجمع أو التعدد، و نعني به مختلف الأضمومات السردية التي جمعها هم واحد ألا وهو النحيب.
وهكذا تورطنا القاصة هند لبداك في مجموعتها القصصية وتضعنا أمام أربعة أطفال من رحم واحد، هم أشبه بالتوائم، تربطهم علاقة سيامية داخل بيت واحد اسمه آخر العنقود فيهم : " نحيب الملائكة".
حقا، فلكل إبداع وجهان مترابطان .. وجه خفي ووجه جلي، فالأول يشير إلى خلفية الخطاب ونعني به المضمون، والثاني إلى لغته ونعني به الشكل. إن هذا الأخير في المجموعة القصصية لهند لبداك يتميز بنزعة باختينية واضحة المعالم، نظرا لتداخل لغة الكاتبة مع لغة الساردة، حيث تتقاطع لغة السرد المسترسل مع لغة تقريرية لمطارحة أفكار تؤمن بها الكاتبة على شكل مرافعة حجاجية تستمد قوتها من الفكر والفلسفة، أما المضمون فإنه يتقاطع هو الآخر بين قناعة هند لبداك وشخوصها داخل المتن السردي، وهنا تتجلى خلفية الخطاب باعتباره محاولة تعكس وجهة نظر الكاتبة .
في متنها السردي الذي يحتوي على أربعة قصص تقدم لنا هند لبداك صورة المرأة داخل مجتمع تراتبي اغتصب الرجل السلطة فيه، واحتكرها لنفسه، وصور المرأة والأطفال والأجيال عبر الأجهزة الإديولوجية للدولة، على أنها مجرد جنس ناقص العقل والدين.
وفي السياق ذاته تدين " نحيب الملائكة" بعض الكتابات العربية التي تصور المرأة على أساس الجسد فقط، حيث تقول في هذا السياق :
إن المرأة "في الكتابات العربية غالبا موضوعا يحصرها في الجسد والغريزة، حتى تشكلت بالفعل قناعات إيديولوجية تدمج المرأة في إطار الإنثوية
والإثارة". (2)
على هذا الأساس فهي عبارة عن جسد إيروتيكي حولتها الحضارة الإيروسية إلى منبع للإثارة واللذة، ثم نقلتها الرأسمالية المعولمة إلى متعة عابرة للقارات، فمن كائن ليلي ينشط استثمارات معينة إلى الفضائيات، والإشهار، والإباحية وفلسفة اللباس والموضة، والتجميل، والاعتناء حد الهوس بمظهر الجسد وإهمال العقل كجوهر يميز المرأة كإنسان .
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن " نحيب الملائكة " وضعتنا في قلب الحضارة الرقمية التي حولت كل الأشياء إلى أرقام وصور، وجعلت من المرأة أيقونة العصر فأفقدتها روحها وإنسانيتها، كينونتها ووجودها، من خلال تشييئها وتحويلها إلى بضاعة أو سلعة محكومة بحسابات العرض والطلب داخل سياسة الاحتكار والتسويق.
إن ثقافة الصورة، إذن، شوهت في كثير من الأحيان، صورة المرأة وأفرغتها من محتواها الإنساني بتحويلها إلى حريم وآلة جنسانية لاروح ولا جوهر فيها، وجعلتها دوما لفيفا مقرونا بشهريار العربي المهووس، والذي يعتبر شهرزاد/ المرأة مجرد لعبة إذا قضى وطره منها كسرها ورماها.
لكن هذه الصورة التهميشية للمرأة والمعبر عنها مجازا ب" نحيب الملائكة " سترفضها القاصة هند لبداك بمعية شخوصها، سترفض شهريار الطفل، سترفض واقعا مريرا صنع منها ضحية لأمراض نفسية، سترفض ثقافة الحريم وإعادة إنتاج شهرزاد بتعاليم دين جديد اسمه العولمة. لنستمع إلى فريدة وهي تقول في " إشراقة أمل " :
- وعنترة الرجال كعصر الحريم ... (3)
داخل هذه الصورة، إذن، والتي يمكن وصفها بتعبير فاطمة المرنيسي " شهرزاد ليست مغربية "، بمعنى ما من المعاني فالمرأة في قصص هند لبداك تجد نفسها أمام واقع وزع الأدوار بين الرجل والمراة، فوجدت هذه الأخيرة نفسها أمام قيود كسرتها هند الكاتبة بإرادة شخوصها سواء في " عطر البحر " أو في " خمار ودموع " أو في " إشراقة أمل" أو في " نحيب الملائكة" من خلال كفاح المرأة والإيمان بشخصيتها القوية وذلك بالعودة إلى طبيعتها الإنسانية الأولى، والتشبث بمقومات هويتها دفاعا عن كرامتها من خلال الإيمان القوي المبتوت فيها بالفطرة ككائن عبر في المتن السردي ب " نحيب" يمكن وصفه مجازا ب " صك الاتهام ".
إن حلم هؤلاء الشخوص بالحرية والكرامة هو نفسه مطلب امرأة اسمها هند لبداك، والتي تقول عن نفسها في " عطر البحر " :
- بداخلي خزان من الانفعالات، وبعقلي مستودع من الأفكار .. (4)
لكن دعوني أسأل في النهاية، هند لبداك ككاتبة وامرأة، هل حقا ثمة من يفهم لغة النحيب في عصر تحجرت فيه القيم والقلوب؟
إن السؤال هنا متروك للمرأة التي آمنت بقدرها ككاتبة والتي ربما ستكتب بنحيبها قصة أخرى تطبع صرختها مثل آخر صرخة تنتهي بها قصص هند لبداك في آخر العنقود:
- إنه حتما نحيب الملائكة .. (5)
المراجع :
1- لبداك )هند(: نحيب الملائكة، منشورات أمنية، السلسلة الإبداعية 14، البيضاء، 2012.
2- المرجع نفسه، ص.125.
3- المرجع نفسه، ص.121.
4- المرجع نفسه، ص.26.
5- المرجع نفسه، ص.210.