لقد احتل الجمال على مر العصور جزءا بارزا من البنية الذهنية على الصعيد الفكري. حيث جند أهل التدبير و الفكر و النظر، من فلاسفة، و مفكرين و باحثين طاقاتهم، و قدراتهم الإدراكية، لتفسير الجمال، باعتباره قيمة من القيم الإنسانية المختزنة لطاقات زئبقية غير قابلة للحصر و التفسير. و نظرا لطبيعة الجمال المركبة و المعقدة. كان، و مازال، و سيظل موضوعا للبحث و مثار اختلاف الآراء و تضاربها من لدن مختلف المجالات الفكرية المهتمة بالشأن الجمالي. اذ جنح و نزع كل مجال نحو السبيل الذي رآه يراه مناسبا لبناء مواقفه و صياغة نظرياته و تمثلاته بخصوص الجمال. و ذلك وفق رؤيته و توجهه الفكري الخاصين به. لكن رغم الاختلاف حول دراسة الظاهرة الجمالية، يسود الائتلاف على أن الجمال طاقة أخاذة، بالغة التأثير في الإنسان. تحرك فؤاده، و وجدانه، الخاضعين لسلطة و سحر ما يسمى ب: الدهشة الجمالية، أو الصدمة الجمالية، أو الوقع الجمالي، أو الرجة الجمالية أو الغيبوبة الجمالية، المولدة للانفعال الجمالي.
و من أبرز المجالات المهتمة بالجمال:
- المجال الأدبي: الذي اهتم اهتماما لا حدود له بقيمة الجمال، إذ أقبل المتأدبون بكليتهم على رصد مظاهر الجمال في الكون، و اعتماد عناصره مادة لموضوعات أسالت كثيرا من الحبر كثيرا. فكان الشعراء من بين أولئك الذين سحرهم الجمال، و سيطر على أفئدتهم، و قلوبهم، و ألبابهم و وجداناتهم. فمنهم من رأى أن الجمال يتمظهر في:
1- الطبيعة الصامتة: مثل: الرمال، الوديان، الخيام، النخيل، المياه،......
2- الطبيعة الصائتة : من قبيل البقر الوحشي، الناقة،الظباء ، الحمر الوحشية، الافراس،.....
و هي موضوعات اتخذها الشعراء مادة لبناء قصائدهم الشعرية. فانطلقت بذلك أخيلتهم الشعرية تسبح في فضاءات واسعة، مخلقة في عالم الخيال لتضفي على هذه العناصر عبر آلية الوصف كل مظاهر الجمال القادرة على جعلها موضوعات ساحرة، تسلب لب المستمعين و تجعلهم أسرى لها، يتلذذون بإيقاعاتها، و يستمتعون و ينفعلون و يتأثرون بسحرها. و بقدر ما يجيد الشاعر في حشد عناصر جمالية في نتاجه كلما كان الإقبال كبيرا عليه. لذلك راح الشعراء يتنافسون على اختيار العناصر الجمالية، القادرة على التأثير في المتلقي، للتعلق بأشعارهم. و لعلها العلة التي ألزمت الشعراء بالتزام التؤدة، و التأني على المستوى الزمني. أي اتخاذ ما يكفي و ما يلزم من الوقت، لانتقاء جمال الصوت، و جمال الإيقاع، و جمال التصوير، لصنع قصيدة جميلة، تختزن طاقات جمالية، أو وقعا جماليا، يضمن لها التداول على مستوى القراءة، لفترات زمنية طوال و بما أن القصيدة هي الإطار الفني الذي يحتضن هذا الجمال/ مواطن الجمال ألفينا الشعراء مفتونين بالجمال الكوني، ملتقطين إياه بحواسهم و أحاسيسهم، معيدين بذلك تشكيله في أخيلتهم، صانعين صائغين منه قطعا فنية تقيض جمالا تمتع جماليتها، كما يقول ابن رشيق ، من: »الرحيل و الانتقال، و توقع البين و الإشفاق منه، و صفة الطلول و الخيول، و التشوف بحنين الإبل، و لمع البروق، و مر النسيم، و ذكر المياه التي يلتفون عليها، و الرياض التي يحلون بها، من خزامى، و أقحوان و بهار و حنوة، و ظيان، و عرار، و ما أشبهها من زهر البرية ،... و تنبته الصحارى و الجبال.... [1]« و إذا كان الحس بجمال الطبيعة المنغرس في النفوس، هو الذي جعل قلوب بعض الشعراء ترفرف بأجنحة الخيال فوق الرياض و الحياض و الجنان، لامتصاص رحيق جمالها، ليغدو عسلا مغذيا شافيا، يخرج من بطون القصائد. فان الحس بجمال المرأة دفع ثلة، أو لفيفا من الشعراء إلى اتخاذ المرأة الجميلة الفاتنة الساحرة مصدرا للإلهام، المحرك للأخيلة، و ألهاديها عبر أساليب لفظية مختلفة، لصناعة جمال يرضي الحواس، و يشبع نهمها، و يهز كيانها. إذ منهم من رأي أن جمال المرأة يكمن في حور عينيها. و منهم من رأى الجمال في عنقها، و شعرها، .......ومنهم من رآه في رشاقة قدمها، و ظمور بطنها...... و بهذا النحو، تفرق الشعراء أحزابا و شيعا، كل شاعر يولي وجهه تجاه أو شطر أو صوب ما يرضي خياله و يوافق ذوقه ليجود بما يمتع العين، و يطرب الأذن، و يهز الفؤاد. و على هذا الأساس، و من خلال استقراء الآثار الشعرية، ندرك أن مظاهر الجمال تختلف باختلاف الشعراء. و ذلك تبعا لاختلاف انتماءاتهم البيئية و تباين توجهاتهم الثقافية، و تعارض مذاهبهم الفكرية. هذا، و بما أن الشعر نسق لفظي قوامه، و عصبه العناصر الجمالية الملتقطة من ثنايا الكون و زواياه، و ذلك بعد انصهارها في أفران الخيال، بحرارة العاطفة، و دفء و صدق الشعور الدقيق الرقيق. لتتحول إلى صور تعبيرية،محاكة من مكونات و مواد ( الحلى اللفظية ، الإستعارات الرائقة، البديع، الجناس، الطباق، مراعاة اللفظ.....) منضدة في سياق بناء تفاعلي تعالقي تركيبي تسكن فضاء القصيدة التي تقسم ثلاثة أقسام، وفق العرف النقدي:
1- قصيدة جيدة.
2- قصيدة أقل جودة.
3- قصيدة غير جيدة.
فالقصيدة الجيدة، هي التي صدر في حقها حكم بعد خضوعها للمحاكمة النقدية، و ذلك احتكاما إلى المعايير الجمالية المتفق عليها، و المعمول بها. لكن، أين تكمن مواطن الجمال في القصيدة ؟ ان مواطن الجمال تكون مبثوثة، واضحة المعالم في أركان و زوايا جسم القصيدة. فنجد:
- الجمال اللغوي.
- الجمال التصويري.
- الجمال الإيقاعي.
- الجمال الصوتي.
- الجمال التركيبي.
و هي جملة من المستويات الجمالية المتضمنة لما يسمى بالوقع الجمالي القادر على اختراق كيان متلقيها و العبث به جماليا، و فيستسلم طوعا للذة القراءة و عذب شبقها، فيقرأ مرات تلو المرات، دون كلل أو ملل. و يكمن السر في تلك الطاقات الجمالية و قيمها المخبوءة، و المبثوثة في شرايين النص، الذي يتحول إلى نص جمالي بفعل ما يتوافر لديه من أسباب القوة الضامنة له توطين الوجود و ترسيخه على مستوى التلقي، دونما تأثر بسلطة القراءة.
أما القصيدة الأقل جودة، فتلك التي لا ترقى إلى مستوى الأولى. حيث تتميز بضالة العناصر الجمالية. إذ تعوز منتجها المهارات التي تجعل منه صانعا للجمال الفني .
على حين، تكون القصائد غير الجيدة فقيرة إلى العناصر الجمالية على مستويات كافة. و هو نموذج له حضوره في تاريخ الشعر العربي. إذا كان أصحابه عرضة لحملة نقدية شرسة من لدن النقاد، ناعتين إياهم بنعوت وصفات تبعدهم عن زمرة الشعراء و تخرجهم عن دائرة الشعر. الذي خضع لمقاييس جمالية صارمة باعتبارها القوة المائزة بين الشعراء، و على أساسها يتم التصنيف و يقام الترتيب يقول حازم القرطاجني : »فأهل المرتبة العليا هم الشعراء في الحقيقة، و أهل المرتبة السفلى غير شعراء في الحقيقة و أهل المرتبة الوسطى، شعراء بالنسبة إلى من دونهم، غير شعراء بالنسبة إلى من فوقهم.[2] « و يوضح ابو هلال العسكري ففحوى النص قائلا : " و دليل اخر ان الكلام اذا كان لفظه حلوا عذبا و سلسا سهلا، و معناه وسطا ، دخل في جملة الجيد و جرى مع الرايع كقول الشاعر :
و لما قضينا من منى كل حاجـــــــة و مسح بالاركان من هو ماســح
و شدت على حدب المهارى رحالنا و لم ينظر الغادي الذي هو رائح
اخذنا باطراف الاحاديث بيننـــــــــا و سالت باعناق المطي الاباطــح
ثم يقول : " و اذا كان المعنى صوابا ، و اللفظ باردا و فاترا ، و الفاتر شر من البارد ، كان مستهجنا ملفوظا ، و مذموما مردودا ... و البارد من الشعر قول عمر بن معدي كرب
قد علمت سلمى و جاراتها ما قطر الفارس الا انــــــا
شككت بالرمح سرابيلـــــه و الخيل تعدو ازيما حولنا[3]
و الاشارة النقدية هنا تخص و تهم اهل المرتبتين العليا و السفلى
و على هذا الأساس يمكن القول أن الجمال قيمة إنسانية تليدة، و خالدة تنتقل عبر الأجيال في سياق البناء الثقافي و الفكري المرافقين لها عبر الأزمنة. و ذلك لأن الحس الجمالي منغرز في جبلة الإنسان الذي يولد و هو قابل لإدراكه، و فهم طبيعته، استنادا لما يحمله من ثقافة تؤهله لذلك. و تجدر الإشارة في هذا المقام، إلى أن الفطرة غير كافية لجعل الملكة الجمالية ناضجة لدى الإنسان، بل لابد من تدخل عاملين اثنين يشتركان قي مهمة واحدة، ألا و هي المهمة التربوية. و يتعاضدان لتحقيق هدف واحد، ألا و هو تربية النشء لإنضاج ملكته الجمالية، و تقويتها، حتى يكون مؤهلا لاستثمارها في حياته النفسية و الاجتماعية... و هذان العاملان الموضوعيان، هما:
1) – الفضاء الأسري: باعتباره المؤسسة الاجتماعية أو الإطار الاجتماعي الحاضن له. و الملقن إياه مبادئ التربية و أسسها. و بمعنى أدق، يلقنه ما هو ثقافي بالمفهوم الأنطربولوجي. و ما هو تربوي قيمي أخلاقي.
2) – الفضاء التربوي: و هو الفضاء الثاني الذي يتسلمه و يحتضنه، لما يتوفر عليه (الفضاء) من خبرات ثقافية و تربوية. و يتمحور دوره حول وظيفتين اثنتين:
أ الوظيفة الأولى: تصحيحية، بمعنى، أن دوره ينصب حول الاهتمام بجبر الأضرار التي يحملها المتعلم. وقد تكون ثقافية أو أخلاقية، أو هما معا. و العمل على تصحيحها
ب الوظيفة الثانية: تلقينية تعليمية، أي تعليم المستهدف وفق ما يقتضيه السلوك التربوي القويم المبني على القيم الأصلية و الذوق الرفيع و هما وظيفتان متكاملتان متعاضدتان، مآزرتان لوظيفة الأسرة، لتحقيق الأهداف التربوية النبيلة الهادفة إلى صنع جيل سليم ذوقا و سلوكا عبر آلية التربية
لكن و في سياق الحديث عن التربية هناك سؤال ملح يتوجب و يتعين طرحه. ألا و هو، هل استطاعت المنظومة التربوية الساهرة على التربية أن تضمن للنشء حقا من أجل الحقوق و أعظمها شأنا؟ ألا و هو حق التنشئة الجمالية اللائقة القائمة على صقل الذوق و بناء قدرات يستطيع بموجبها :
· أولا: معرفة القيم الجمالية في الفن و الواقع.
· ثانيا: التمييز بين نسقين جماليين:
*نسق الجمال النسبي: و هو ذاك الجمال الخاضعة قيمه للتغيير و التبدل، وفقا و تبعا لتبدل المواقف و الأفكار و الأذواق المرتبطة بحتمية التطور.
*نسق الجمال المطلق: و هو ذلك الجمال الذي يتعالى على قانون التطور و يتحدى قانون التغيير و التبديل، و قوة الزمن و جبروته. إنه الجمال الثابت السرمدي جمال الذات الإلهية المتمثل في صفاته و أفعاله، و كل العلامات و الإشارات الدالة عليه جل و علا.
و هل ستفلح في ظل الحرب المعلنة على القيم الجمالية التليدة ترسيخ المبدأ الذي صنع الذاكرة الجمالية الراسخ في القول الجميل: » إن الجمال ضالة الإنسان عليه أن يطلبه انا وجده.
و كما في القول الجليل : "الجمال خمر تسقي كوزها القلوب العطشى بانوار اليقين ، فتنفلت و تتحرر من الدركات و تسمو في الدرجات."؟
الدكتور الصفاح
[1] العمدة بن رشيق
[2] منهاج البلغاء وسراح الادباء
[3] كتاب الصناعتين بو هلال العسكري.