توطئة:
تفنن الخيال البشري في تمثّل شكل الفردوس الموعود وتقريبه إلى المخيلة الإنسانية التي تميل إلى الحسي والمباشر، ولم يكن الفردوس الموعود حكرا على الأنبياء ، والقصاص، والكهنة بل صار موضوعا دسما في نقاشات الفلاسفة وكتاباتهم وأضفوا عليها بصمة خاصة حين خلعوا عنه متعلقاته اللاهوتية، وجعلوه مشروعا إنسانيا قابلا للتحقق على أرض الواقع، أطلقوا عليه مصطلح المدينة الفاضلة تارة واليوتوبيا تارة أخرى، وهذا ما خلق إشكالا نقديا وقسم النقاد إلى فئتين؛ فئة توحّد بين اليوتوبيا وعدن، وفئة تجعلها تصورين مختلفين، وقبل أن أعرض حجج الطرفين سأعرّف من البداية بمصطلح اليوتوبيا، وألقي نظرة على نتائج هذا المفهوم.
كلمة يوتوبيا "Utopie" هي كلمة لاتينية "تحيل على مجتمع سياسي ذي نظام مثالي، أو على أرض أو وطن خيالي، ويكون هذا التصور مثاليا ونهائيا، وأقدم النصوص اليوتوبية هي جمهورية أفلاطون، وكلمة يوتوبيا هي عنوان عمل لاتيني كتبه توماس مورT.More في القرن السادس عشر، حيث يصل رحالة إلى أرض مثالية، وفي هذا السياق أيضا يمكن أن نذكر أطلنطس الجديدة لفرانسيس بيكون، و"الآن من اللامكان""Now from Nowhere" لويليام موريس William Morris، والأفق المفقود Lost Horizon لجيمس هيلتونJ.Hilton"(1)تعبّر اليوتوبيا عن حماس الإنسان كي يصنع جنته بيده دون أية وصاية ماورائية أو إعانة من السماء.
مع تطور التكنولوجيا ظهرت يوتوبيات جديدة جعلت الآلة هي وسيلة الإنسان لتحقيق فردوسه المنشود بما تتيحه من رفاهية و رخاء و راحة. و تجاوزت يوتوبيات القرن العشرين – اليوتوبيات السابقة- خصوصا حين حلت الآلة محل العبيد و السخرة وكانت هذه نقطة تشكل نقدا لاذعا لليوتوبيات الكلاسيكية، لكن سرعان ما ظهر للعيان خطر هذه الآلة، إذ تحولت إلى قوة مسيطرة على الإنسان. أو هي بمثابة المخلوق الذي استعصى على خالقها" فقد فاقت الآلات الشيطانية كل قوة مبدعة لدى الإنسان، وازدادت فتاكا بالقيم و العلاقات الإنسانية. وسيطرت على كل من يعارضها حتى على خالقها"(2).
تسبب طغيان المادة و سيطرة العلم في ظهور ما يسمى باليوتوبيات المضادة التي تنبأت بعواقب وخيمة يمكن أن تحدث في المستقبل إذا لم يوضع حد لاستفحال خطر العلم والآلة. بعد أن أخذنا فكرة عامة ووجيزة عن اليوتوبيا نعود الإشكالية السابقة حول علاقة اليوتوبيا بالفردوس.
يتقاطع هذان المفهومان في نقاط كثيرة فكلاهما يعبر عن رغبة إنسانية عميقة في تجاوز الواقع. و البحث عن بدائل أفضل تتعالى عن الراهن القاسي المبني على الاحتياج والعوز"فلا يوجد محرك لصنع أو خلق مشروع يوتوبي يفوق في قوته قوة الاحتياج. ولهذا كانت الأفكار و الأحلام و الخيالات اليوتوبية استجابة للحاجات الإقتصادية، والاجتماعية للمجتمعات البشرية على مر العصور. و تكمن أصول التفكير اليوتوبي في الأساطير و الحكايات القديمة عن جنة عدن أو غيرها. إذ تصور هذه القصص الموروثة الانسجام المطلق. و السعادة الفطرية التي كان يحيا في ظلها البشر الأولون. وبقي حنينهم الدائم إلى استعادة هذه العصور الذهبية"(3)
فالجنة – حسب هذا القول - هي اللبنة الأساسية لليوتوبيا، و يبقى كلاهما تجاوز للوجود أوهي الوجود الذي لم يوجد بعد، بعبارة أخرى فكلاهما مشروع وجود لم يتحقق بعد. لكنه قابل للتحقق. وإن اختلفت معايير كل مفهوم، فإذا كان الفردوس يتحقق بقوة إلهية.فإن اليوتوبيا تتحقق بقوة الإنسان،و إذا كان الخيال الأدبي بمرجعياته الأسطورية والدينية هو الذي خلق الفردوس. فإن الخيال العلمي بمرجعياته التقنية و الرياضية هو الذي يخلق اليوتوبيا.
يظل البقاء في الفردوس أو اليوتوبيا يعتمد على نوع من المعرفة" معرفة الخير من الشر في القصص الأدبية و المعرفة العلمية في القصص الخيالي العلمي. لكن بقاء الفاضل في الأدب / النصوص الأدبية التي تحدثت عن الفردوس قد يصبح مالك التكنولوجيا في مجال الخيال العلمي"(4) . و إذا كان الفردوس ينشطر زمنيا إلى اتجاهين؛ اتجاه ينحى إلى الماضي،و أخر نحو المستقبل. فإن اليوتوبيا مشروع مستقبلي ينظر إلى الغد فقط دون أن يولى أدنى عناية إلى الماضي.
و ثمة اختلاف آخر بين الفردوس و اليوتوبيا، فالفردوس أسطورة تضعها المخيلة الشعبية و الأدبية،و الإنسانية بصفة. أما اليوتوبيا فهي مشروع حكر على الطبقة المثقفة من العلماء و الفلاسفة،و الحكماء لذا يرى جورج أوريل أن منطق الفردوس أو الأسطورة يختلف عن منطق اليوتوبيا " فالأسطورة في رأيه. وعي جماعي عفوي له نفوذ الحكم القاطع، أما اليوتوبيا فإنتاج نخبة من المثقفين المهتمين و من ثم فهي وعي زائف متعال فوق حركة التاريخ "(5) . و لعل اليوتوبيا هي استفحال الإنسان و استعجاله لأن يحقق الفردوس على هذه الأرض لا بعد الموت.و قد مر الشاعر الأنجليزي وليم وردزورت من هذه العجلة في قوله " لا نريد أن نحيا في يوتوبيا تلك المروج التي تقع تحت الأرض و لا على جزيرة سرية يعلم الله وحده أين تكون. بل في هذا العالم نفسه الذي هو عالمنا أجمعين. هذا المكان الذي يحتوي سعادتنا في آخر المطاف أو لا شيئا على الإطلاق"(6).
كلما وضعنا أيدينا على حجج تقرب منها الفردوس من مفهوم اليوتوبيا إلا وظهرت حجج و آراء أخرى تفند هذا التقارب، و تقطع تلك الوشائج ما يجعل الموضوع إشكالية مثيرة تفتح شهية النقاد و الدارسين. و لعل السؤال المهم في هذا السياق هو إلى أي مدى كانت اليوتوبيا في نظر الشاعر العربي الحديث المعاصر فردوسا موعودا؟
تزخر المدونة الشعرية العربية بنصوص كثيرة وظفت موضوع اليوتوبيا، و قد تجلت لفظة اليوتوبيا على أديم النص أحيانا، واختفت لتظهر بدلالاتها أحيانا أخرى.وقدم مختار أبو غالي فصلا كاملا حول اليوتوبيا في الشعر المعاصر في كتابه القيم "المدينة في الشعر العربي المعاصر" الذي ساعدني كثيرا في تحليل القصائد التالية:
قصيدة " بعد ألف عام" لجميل صدقي الزهاوي
قصيدة يوتوبيا الضائعة. لنازك الملائكة
قصيدتان لسعدي يوسف
يوتوبيا صدقي الزهاوي:
يتصور الزهاوي أنه عثر على يوتوبيا في الحياة الآخرة . أو بالأحرى بعد أن عاد هو إلى الحياة. فوجد أن الناس قد تغيروا كثيرا، سواء في سلوكهم أو مظهرهم أو حياتهم العامة أو في مستواهم المعرفي .يقول:
" كأني من قبري انبعثت قد مضى عليّ من الأعوام في جوفه ألف
فألفيت أنّ الأرض قد حال وجهها بضع الألى كانوا عليها يعيشونا
و أنّ البرّ هناك قد ضاق عرضه بهم فبنوا فوق البحار منازلا(...)
وألفيت أنّ الناس طرّا تغيّروا فما أحد منهم عمّا كنت ألقاه
رؤوس كما يهوى الرقيّ كبيرة ترى بعيون للذكاء بها وقد(...)
لكل امرئ منهم جناح كطوله فينشره إمّا أراد ويطويه
تحرّكه فيما إذا شاء قوة قد ادّخروها من حطام الجواهر
وفي الجوّ تسامت قصور جميلة و في الأرض جنات وحور و غلمان
هم القوم أمّا نفوسهم فكبيرة تعاف وأمّا علمهم فهو أكبر"(7)
يتقاطع في هذا المقطع البعد الأسطوري بالبعد اليوتوبي ، فجعل الزهاوي مدينته الفاضلة تتحقق بعد موته، وهذا هو الجانب الأسطوري، وتمثّل البعد اليوتوبي في أنّ هذا الفردوس صنيعة بشرية تحققت على أيدي أناس جبلوا على الذكاء والمعرفة ، أي أنّ هذا الفردوس الأرضي لم يكن هبة السماء، بل صنعه الإنسان بنفسه بما أوتي من علم وتكنولوجيا، وكان الزهاوي في بداية قصيدته أسير التصورات الميثولوجية ، فأكثر من الدوال المرتبطة بالفردوس كقوله:
وفي الجوّ تسامت قصور جميلة و في الأرض جنات وحور و غلمان
لكن سرعان ما ينقطع النص عن جذوره الأسطورية ليوشّج صلته باليوتوبيا ، إذ يضفي الزهاوي على عالمه الآخر نسقا فلسفيا ينظّم العلاقات وفق رؤى ماركسية تجعل "المشاعية" مبدأ أساسيا تقوم عليه مدينته الفاضلة، يقول الشاعر:
" وقد ملكوا في كلّ شيء تساويا سوى العقل فهو الواحد المتفاوت
و قد قسموا الأرزاق بالعدل بينهم كما قسموا الأعمال الجمعاء بالعدل
وقد اقتسموا بانتظام ودقة كما قاسمتها في الجسوم خلاياها
لهم حقه في الزاد لا يبخسونه كما للخلايا الحق في قسمة الدم
وما من طعام غير ما ركّبوه من جماد وعلم الكيمياء هو الهادي
وما أحد هنا يقني ثروة و لا أحد هناك يشكو فقر"(8)
يرى الزهاوي أنّ العدل والمساواة أساس السعادة الأبدية، فإذا ما تحققا كانت اليوتوبيا واقعا عينيا ، يستعير الزهاوي هذه الفكرة من الماركسية التي روّجت كثيرا لفكرة المشاعية في وسائل الإنتاج والعدالة في التوزيع رافعة شعار " كل حسب طاقته كلّ حسب حاجته" ، وصاغ الزهاوي هذا الشعار في قوله:
و قد قسموا الأرزاق بالعدل بينهم كما قسموا الأعمال الجمعاء بالعدل
تقودنا هذه الرؤى إلى التصور الماركسي للفردوس ، إذ زعم أنّ الفردوس المفقود هو المرحلة الأكثر بدائية في تاريخ البشر حيث كانت الطبيعة ملكا مشاعا للجميع، وكانت الحقوق البيولوجية- خاصة- تمارس جماعيا دون أيّ ادعاء خاص، لذا " يذهب كاو تسكي إلى أنّ الاشتراكية الحديثة تبدأ مع اليوتوبيا "(9)، وصرّح الزهاوي بتأثير الاشتراكية في خلق تصوراته الخاصة حول مدينته الفاضلة حيث يقول:
" حكومتهم شبه اشتراكية فما تنعم أفراد وتشقى جماعات
يعيشون أحرارا فليس مسيطرا عليهم سوى العقل المكلل بالعلم"(10)
يتكرر الحديث عن "الحرية" في نص الزهاوي مما يدل على أنها تشكّل هاجسا حقيقيا للشاعر الذي عانى مع جيله من الشعراء من غيابها ، لذا أصرّ على وجودها في عالمه الآخر خصوصا حين ألبسها لبوسا إيديولوجيا تمثّل في الاشتراكية ، ولم تكن هذه الأخيرة الأساس الوحيد الذي بنى عليه الشاعر مدينته الفاضلة ، بل اعتمد الشاعر أساسا ثانيا هو "العلم" ، إذ تفنّن الشاعر في ذكر المعجزات العلمية التي تطاول المعجزات الإلهية:
" يرى بعضهم بعضا ويسمع صوته وبينهما الأرض القصية تفصل
ويقرأ كلّ منهم فكر غيره قديرا فلا تخفى عليه السرائر(...)
و أسهل شيء عندهم أن يحوّلوا إلى أحد الجنسين من كان راغبا
و أن يجعلوا بعض الإناث ذكورة و أن يجعلوا بعض الذكور إناثا"(11)
لا شكّ أنّ بعض المعجزات التي بشّر بها الزهاوي لم تنتظر ألف عام كي تتحقق ، فالهاتف، والاستنساخ، والتهجين أضحت من بديهيات القرن العشرين ، لذا كان الرقم "ألف" في عنوان القصيدة – بعد ألف عام- ذا دلالة حضارية تنضاف إلى دلالته الأسطورية ، فهو يوحي – في معناه الأسطوري- بالكثرة،والمبالغة، والتهويل ، وجاء في هذا النص ليدلّ أيضا على بعد اليوتوبيا عن واقع الشاعر المعيش الذي يئنّ تحت وطأة الجهل والتخلف والسلبية مما جعله يستبعد تحقق اليوتوبيا في الأجل القريب.
نلاحظ أنّ يوتوبيا الزهاوي لا تقف على أرضية فلسفية محددة، فهي تجمع بين مبادئ اليوتوبيا الاشتراكية و أسس اليوتوبيا العلمية ، تتحقق الأولى من خلال تصورات خاصة حول العدل والمساواة و المشاعية ، وتتحقق الثانية من خلال التقدّم العلمي والتطور التكنولوجي، وتعدّ كلاهما استجابة للمتغيرات الاقتصادية والعلمية والإيديولوجية في الواقع الأوربي ، لكن الزهاوي لم ينطلق من واقعه المحلي لوضع أسس مدينته الفاضلة ، بل انطلق من قراءته للثقافة الأجنبية و اطلاعاته الواسعة على ما كتبه ماركس ، وإنجلز، وداروين ، وغيرهم ، لذا جاءت مدينته الفاضلة مبنية على مرجعيات مختلفة ومتعددة ، و لا تخضع لرؤية فكرية واضحة ، وبالتالي حفلت مدينته بتناقضات ، ونتائج مبهمة ، ففي الوقت الذي يبشر فيه بحدوث معجزات علمية تمحو الفوارق بين جنس "الذكور" وجنس "الإناث" ، نجده أيضا يبشّر بحدوث نقلة إيديولوجية تساوي بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات ، يقول:
" يشاركن في الكدّ الرجال نواشطا فيتقنّ ما يأتين مقتدرات
ويجلسن للإبرام والنقض مثلهم ويبدين آراء قليل عوارها
ومنهنّ حكام ومنهنّ قادة ومنهنّ أطباء ومنهنّ عمال"(12)
وينسى الزهاوي الثورة البيولوجية التي ستتحكم في الجنس البشري ، ويستمرّ في وضع التشريعات المتعلقة بالأسرة و الأطفال، يقول:
" وليس زواج القوم إلا تعاقد يقوم فيه الزوجان ما بقي الحبّ
و تربية الأطفال راجعة إلى حكوما تهم في شرعها فهي الأم"(13)
أخذ على الفكر اليوتوبي نمطيته وسكونه وقمعه الحرية الفردية "فالبشر اليوتوبيون مخلوقات من نمط واحد، ولهم رغبات متماثلة، وردود أفعال متشابهة، وهم مجردون من العواطف والانفعالات لأن هذه الأخيرة ستكون تعبيرا عن الفردية"(14) يحاول الزهاوي أن يتجاوز هذه المآخذ فيجعل العقل هو معيار التفاوت بين سكان مدينته الفاضلة فيقول:
وقد ملكوا في كل شيء تساويا سوى العقل فهو الواحد المتفاوت
ولا ندري ما هي الخصائص المشتركة بين سكان المدينة الفاضلة خصوصا وأنه ألغى فوارق الجنس، والوظيفة، والامتياز المهني، وإذا كان العقل هو معيار التفاوت فما هي تبعات هذا الامتياز؟ وما هي صلاحياته وأدواره في هذا الهرم اليوتوبي؟
تظل هذه الأسئلة وغيرها ثغرات معرفية في مدينة الزهاوي المثالية، وهي تدل كما ذكرنا سابقا عن ضبابية رؤيته الفكرية، وعن تعدد مشاربه المعرفية تعددا ضيّع الشاعر في متاهات قراءاته الواسعة و ثقافته الأجنبية أكثر مما أثرى تجربته الشعرية، وأغنى طاقته الفنية إذ جاءت القصيدة في قالب تقليدي جعلها أقرب إلى النظم أو النثر... فقد افتقرت إلى الجانب الإيقاعي بسبب تعدد الروي والقافية، كما خلت من الصور البيانية والمحسنات البديعية التي ورثناها من البلاغة التقليدية، واعتمد الشاعر خياله الأدبي وهو يخوض هذا الموضوع "العلمي" الذي كتب فيه المفكرون الأوربيون نثرا، أما خياله العلمي فقد تراوح بين الابتذال والجدة، ففي قوله:
"لكل امرئ منهم جناح كطوله فينتشره إما أراد ويطويه
يحركه فيما إذا شاء فكه قد ادخر هروما من حطام الجواهر"(15)
يبدو خيال الشاعر العلمي ضحلا وساذجا، إذ قدم معجزة علمية بشكل كاريكاتوري يدفع إلى الضحك والتهكم، فلا تبتعد هذه الصورة الفنية عما يجود به الخيال الشعبي في قصص ألف ليلة وليلة من حديث عن مخلوقات غريبة الشكل وكائنات شاذة، ولا ننكر "أن السحر في هذه الحكايات هو التقنية في ثوبها القديم، وترجع قيمة هذه الحكايات إلى أنها تمثل مستقبل البشرية"(16) لكن الزهاوي لم يستطع أن يتمثلها فنيا، وإن كان قد تجاوز هذا القصور في مواضع أخرى، ومنها قوله:
"وقد قسموا الأرزاق بالعدل بينهم كما قسموا الأعمال الجمعاء بالعدل
وقد اقتسموها بانتظام ودقة كما قاسمتها في الجسوم وخلاياها
لهم حقهم في الزاد لا يبخسونه كما للخلايا الحق في قسمة الدم"(17)
تطرح الصور البلاغية الموجودة في هذا المقطع سؤالا جوهريا هو: إلى أي مدى تدخل التكنولوجيا اليوم في الخيال الأدبي العربي؟
حاول الزهاوي ألا يقصر ثقافته التكنولوجية في الحديث عن المخترعات العلمية بل حاول أن يستفيد من تلك الثقافة في تجديد خياله الأدبي وقد نجح في ذلك في المقطع السابق حين اكتشف صلات جديدة بين الأشياء خصوصا في قوله:
لهم حقهم في الزاد لا يبخسونه كما للخلايا الحق في قسمة الدم
فهذه محاولة مبكرة لإدخال التكنولوجيا في صميم الخيال الأدبي، فلم يكتف الزهاوي بتطعيم شعره بألفاظ علمية بل أراد أن يجعل التكنولوجيا جزءا من وعيه الفني، وهذه خطوة رائدة في ردم الهوة بين الأدب والتكنولوجيا، "ففي الأدب العربي بالذات يحول الميل إلى المحافظة من جهة، وبطء دخول التكنولوجيا في الحياة اليومية للناس من جهة أخرى دون ظهور آثار واضحة لها في الأدب العربي"(18)
ولاشك أن هذه الهوة لديها إيجابيات على الأقل في الجانب الذوقي الجمالي، لكنها تنطوي أيضا على عواقب وخيمة حيث تعرض الأدب إلى التهديد بالعزلة والانقطاع والتهميش،" فإذا كان في الناس من يعتقد أن هذا الموقف السلبي ينطوي على خير وأن رائحة الغزو ودوي المحرك الفضائي مثلا يفسدان رونق الشعر ويفتكان بهالته الخاصة، فإن فيهم أيضا من يؤكد أن في هذا الموقف تعبيرا عن قصور، لأن المتلقين في هذا العصر يعتادون على حركة إيقاعية متسارعة في حياتهم العملية وفي أمسياتهم الصاخبة، وحين يأتون إلى عالم الأدب يفجعون ببطء إيقاعه وانحداد مساحة شاشته، وفقر ألوانها"(19)
يظل السؤال مطروحا حول تأثير التكنولوجيا في بنية الخيال الأدبي العربي، وسيتضح هذا التأثير إن وجد في القصائد الآتية:
يوتوبيا نازك الملائكة:
كانت اليوتوبيا دالا مركزيا، تمحورت حوله قصيدة "يوتوبيا الضائعة" إذ طغت اليوتوبيا على النص لفظيا ودلاليا، فكانت لازمة ينتهي بها كل مقطع تقول:
"ويوتوبيا حيث يبقى الضياء ولا تغرب الشمس أو تغلس
وحيث يظل عبير البنفسج حيا ولا يذبل النرجس
وحيث تفيض الحياة رحيقا نميرا ولا تفرغ الأكؤس
وحيث تضيع حدود الزمان وحيث الكواكب لا تنعس
هناك الحياة امتداد الشباب تقوى بنشوته الأنفس
هناك يظل الربيع ربيعا يظلل سكان يوتوبيا"(20)
تخلو يوتوبيا نازك من أي تأسيس فلسفي، أو تصور نظري، فلا نلمس "تخطيطا" لتصور الحياة في تلك المدينة الفاضلة، ولا نعثر على وصف لنظم المعيشة، وأحوال السكان، بل اكتفت الشاعرة بإضفاء أحكام عامة على يوتوبياها، إذ وصفتها بأنها مدينة جميلة، ومضيئة، وساحرة، تدل هذه الأوصاف على نزعة الشاعرة الرومانسية، وتأثرها بالشاعر علي محمود طه، وعالمه المليء بالعطور والقوارب، لذا طغى الجانب الخيالي/العاطفي على الجانب العقلي/التأملي، فكانت يوتوبيا نازك أقرب إلى "التهوية" لاذت لها الشاعرة من قسوة الواقع، فيها روح التشوق إلى مدينة فاضلة، وبعض صفات اليوتوبيا كالسحر، والكمال، والبعد الزماني والمكاني، واستحالة تحقيقها في الواقع المعيش أواللحظة الراهنة تقول الشاعرة:
"ويوتوبيا حلم في دمي أموت وأحيا على ذكره
تخيلته بلدا من عبير على أفق حرتُ في سرّه
هنالك عبر فضاء بعيد تذوب الكواكب في سحره
يموت الضياء ولا يتحقق ما لونه ما شذى زهره
هنالك حيث تذوب القيود وينطلق الفكر من أسره
وحيث تنام عيون الحياة هنالك تمتد يوتوبيا"(21)
وزادت "ذاتية" الشاعرة من بعد مدينتها الفاضلة عن يوتوبيا توماس مور وأتباعه، فلم تعبر نازك عن هم حضاري أو حتى قومي، ولم تقدم بيوتوبياها محاولات للبحث عن السبل الكفيلة بحل مشكلات قومية أو وطنية، كالتي وجدناها عند الزهاوي، بل جاءت المدينة الفاضلة حلا هروبيا لقلقها من مشكلاتها الذاتية، وأزمتها الفردية، أي أن اليوتوبيا كانت وسيلة هروب فردية اختارتها الشاعرة بدافع من نزعتها الرومانسية، لذا لا عجب أن نلمس مسحة حزن وكآبة لفّت أجواء القصيدة، وقد عهدنا اليوتوبيا عند السابقين تخلو من أي مشاعر أو عواطف، فقد اعتمدت نازك الحزن كشحنات نفسية كئيبة لمواجهة الواقع، وكتبريرات خيالية في مواجهة تجربة الفشل المعاشة، "ولهذا اشتملت أعمالها مع الأحزان على رحلات وهمية للبحث عن عوالم مثالية (...) وتظل هذه الأحلام جنبا إلى جنب مع الكآبة، والحزن، والبؤس، والقلق، ورثاء النفس الذي يصل أحيانا إلى تمني الموت نتيجة الإحساس بأن كل شيء حتى السعادة لا تدوم"(22)
تتنافى هذه النبرة الحزينة مع قوة الأمل الذي يحدو الكتاب اليوتوبيين في تشييد مدن فاضلة تتعالى على رعب الواقع الذي يعيشونه، لذا بقدر ما كانت اليوتوبيا قوية الحضور في النص على مستوى اللفظ، فإن دلالاتها الفكرية كانت شبه غائبة في نسيج النص بل وفي ذهن الشاعرة التي ظلت أسيرة الميثولوجيا الشرقية، فأسقطت مواصفات الفردوس على مدينتها الفاضلة التي تراها ضياء لا تغرب فيه الشمس، وعبير بنفسج حي، ونرجسا لا يذبل، ورحيق حياة لا تفرغ كؤوسه، لا حدود فيها للزمان، وكواكبها لا تنعس – صورة جزئية تتضارب مع الشمس السرمدية، والشباب دائم النشوة، والربيع يظلل سكان يوتوبيا، وهي صورة انعكاس لمفهوم الجنة"(23)
أضفت نازك على مدينتها الفاضلة طابعا أسطوريا محاطا بهالة رومانسية تشاؤمية، لذا بدلا من أن تقترن اليوتوبيا بالحياة واللهفة إلى عالم جديد، نجدها ترتبط عند نازك بالموت والفناء تقول:
"وأحلم أحلم لا أستفيــــ ق إلا لأحلم حلما جديدا
أقبّل جدرانها في الخيال وأسأل عنها الفضاء المديد
وأسأل عنها انسكاب العطور وقطر الندى وركام الجليد
وأسأل حتى يموت السؤال على شفتي ويخبو النشيد
وحين أموت أموت وقلبي على موعد مع يوتوبيا"(24)
لم يرد الموت في نص نازك بمعناه الإيجابي أي الذي يبطن في رحمه بذور حياة جديدة، بل جاء رديفا للفناء والعدم، مما يعمق الإحساس بالمرارة والتشاؤم، فقد كتبت الشاعرة قصيدتها عام 1948، أي عقب الحرب العالمية الثانية حيث ترسخت قناعات متشائمة ترى "أن الإنسان بدأ لكي ينتهي والحياة توتر مشدود نحو الموت، وزاد من نقل الإحساس بالموت أن الفلسفات المادية أخذت تقضي على معنى الخلود"(25)
اليوتوبيا في شعر سعدي يوسف
تبنى سعدي يوسف(1934- ) موقفا اشتراكيا واضحا حين تغنى بمدينته الفاضلة في قصيدته "صوفيا" ولم يكن الشاعر يتحدث عن مدينة وهمية من صنع خياله الشعري أو الفلسفي كما فعل الكتاب اليوتوبيون، بل انطلق من مدينة حقيقية هي "صوفيا" التي عاش سعدي فيها ردحا من الزمن لذا راح يشخّصها ويخاطبها قائلا:
"يا موطن العمال... يا وشم الكفاح
يا موعدا للحب – عمال العراق
..........
لو كنتُ أجهل كل أغنية سواك لما أسفتُ
لحن إلى صوفيا وبعدك يا صباح ليأت صمت
لو كنتُ أقدر أن أغني
كل الأحبة في بيوتك في شوارعك الجميلة
لبنيتُ فوق الشمس مجدي
لكلّ ستنتظر النجوم بقلب سعدي
يوما تزركش فيه فينوشا فتبلغ كل حدّ"(26)
لم يحاول سعدي أن يتخيل مدينة فاضلة بقدر ما راح يسقط مواصفات اليوتوبيا على مدينة واقعة بدت له صورة في الفردوس الموعود كما يراه من منظوره اليساري وكأنه يستلهم مقولة كاوتسكي السابقة إن الاشتراكية الحديثة تبدأ مع اليوتوبيا، وقد كشف معجم القصيدة عن هذا الانتماء الاشتراكي، فلفظة العمال، الكفاح...إلخ تشي بتوجه الشاعر الإيديولوجي، فجعل مدينته الفاضلة موطنا لكل العمال، ومدينة الحب، والجمال، ولكن "إذا كان المفهوم إنسانيا فإن التناول الساذج والسطحي لا يفصح عن هذا المفهوم الإنساني لأن الشاعر لم يتمثله، ولا نجد أكثر من الصياح بألفاظ لا عمق لها لأنها لا تنبع من مواقف مضيئة لإنسانية الإنسان، وكثيرا ما أساء معتنقو الاشتراكية إلى الشعر بهذا الأسلوب"(27)
كانت قصيدة سعدي فقيرة من الناحية الفكرية والفنية معا، فلم نلمس عمقا فلسفيا ولا طرحا تأسيسيا لهذه القضية الشائكة والمدينة الفاضلة، فلا نرى أثرا لتصورات بيكون ورابليه، ولا نسمع صدى لأفكار الاشتراكيين أمثال ماركس وبلوخ وغيرهما، ومن الناحية الفنية جاءت القصيدة مغرقة في الخطابية، والمباشرة، والسطحية، واكتفى الشاعر بأن "تغزّل" بمدينته الفاضلة وتغنى بسحرها وجمالها، لذا جعل سعدي الفن طرفا خاسرا في معركة مع المعتنق الفكري، ولعل سعدي أراد أن يتخلص من مثالياته الرومانسية التي طغت في قصائده السابقة حيث كان يتتلمذ على يد نازك الملائكة وعلي محمود طه، فجاءت مدينته الفاضلة مغرقة في الرومانسية والمثالية على نحو ما نجده في قصيدته "المدينة التي أردت أن أسير إليها":
"تلك المدينة... للهوى بنيت وغابت عن نهار
وطافت بأنهار المحب ومزّقت سرّ المدار
وهفت لها بغداد بالخمر المنضب والجوار
والأغنيات بها كأعمق ما بدجلة من قدار
تلك المدينة دونها جرح الهول وعذاب النار"(28)
لا تكاد يوتوبيا سعدي تختلف كثيرا عن يوتوبيا نازك كما وجدنا في قصيدتها السابقة الذكر، عموما كان الحب، والسفر، والعطر، والزهور قواسم مشتركة بين يوتوبيات الشعراء الرومانسيين، وحاول سعدي أن يتجاوز هذه التصورات المثالية وأن يرتكز أكثر على الواقع، لكن جاءت مدينته الفاضلة خالية من أي تأسيس نظري، ولا تتكئ على طرح فلسفي وحين حاولت أن تعتمد على المعطيات الاشتراكية وضحت بالجانب الفني، وتحولت إلى سلسلة من الصراعات والنداءات الجوفاء والشعارات المبتذلة.
الهوامش:
(1) Sharad Rajimwale: Dicionnary of literary terms, K.S.Paper backs, India, 2002,p210.
(2) محمد عزام: أدب الخيال العلمي. دار علاء الدين ط1. دمشق.2003 ص64،65
(3) عطيات أبو السعود: الأمل و اليوتوبيا في فلسفة إيرنست بلوخ، منشأة المعارف، 1997، مصر ص294
(4) منى طلبة .أدب الرحلة إلى العالم الآخر- دراسة مقارنة بين رحلتي أبي العلاء والقديس براندان، رسالة دكتوراه (مخطوط) ، جامعة عين شمس، مصر، 1997 ص 282
(5) عصام عبد الله: الفكر اليويوبي في عصر النهضة . ، دار الوفاء، الاسكندرية،2005 ص12
(6) ماريا لويزا برنيوي : المدينة الفاضلة عبر التاريخ ، ت:عطيات أبو السعود، سلسلة عالم المعرفة، ع225، الكويت، 1997.ص 07
(7) الزهاوي: قصيدة بعد ألف عام، من ديوان اللباب، 1828، ملحق بكتاب أثر الفكر الغربي في شعر جميل صدقي الزهاوي لداود سلوم،ص221.
(8) الزهاوي: قصيدة بعد ألف عام،ص 223.
(9) ماريا لويزا برنيري : المدينة الفاضلة عبر التاريخ،ص 07.
(10) الزهاوي: قصيدة بعد ألف عام،ص 224.
(11) م ، س، ص 224.
(12) م ، س، ص 222
(13) م ، س، ص222
(14) ماريا لويزا برنيري المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ص22
(15) م،س،ص221
(16) عطيات أبو السعود:الأمل واليوتوبيا، ص296
(17) م،س،ص223
(18) حسام الخطيب: الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرع المكتب العربي لتنسيق الترجمة والنشر، ط1، قطر، 1996، ص54.
(19) حسام الخطيب: الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرع، ص54.
(20) نازك الملائكة: اليوتوبيا الضائعة، الأعمال الكاملة، دار العودة، بيروت، دت، ص39
(21) نازك الملائكة: يوتوبيا الضائعة، ص38-39.
(22) السعيد الورقي: لغة الشعر العربي الحديث، دار النهضة العربية،ط3، بيروت، 1984،ص257.
(23) مخنار أبو غالي: دلالة المدينة الفاضلة في الشعر العربي المعاصر،، سلسلة عالم المعرفة ،ع ، 196 ،الكويت،1995ص265.
(24) نازك الملائكة: يوتوبيا، ص46.
(25) سعيد الورقي: لغة الشعر العربي الحديث، ،ص230
(26) سعدي يوسف: صوفيا، الأعمال الكاملة ،ص150
(27) مختار أبو غالي: دلالة المدينة في الشعر العربي المعاصر، ص276
(28) سعدي يوسف: المدينة التي أردت أن أسير إليها، ديوان أغنيات ليست لآخرين، الأعمال الكاملة، ص220.
الدكتورة مديحة عتيق
المركز الجامعي سوق أهراس/الجزائر