هل يمكن أن تشكل القصة القصيرة وعاء ا مثاليا للحكي السير ذاتي ؟ وهل بإستطاعة هذا النمط السردي منحنا متعة القصة المشوقة المستوفية الشروط والناضجة ’ أم أن الحكي السير ذاتي هو مجرد فضفضة للتفريغ.. لحظة اختناق كبير’ ومجرد محاولة لعتق الروح ’ بل عتق حكايات منسية وتسريحها للأبد .. مادام صاحبها قد اقتنع أنه لا شفاء من أثقالها سوى حكيها ولو للمرة الأخيرة ليستريح ؟ ثم ما الجديد الذي يمكن للقص السير ذاتي أن يمنح القصة وهي محكومة بآليات كتابة دقيقة ؟ وهل يمكن اعتبار كل المحكيات السير ذاتية قصصا.. ما دامت تجتزئ من روح صاحبها ’بل تقتطع من كيانه و تاريخ نجاحه وفشله في الحياة ’ لحظات قد لا تثير أي رد فعل لدى البعض ؟
عندما نتحدث عن السيرة الذاتية في القصة القصيرة ’ يبرز واضحا للعيان أننا أمام محكي متنوع.. راصد للحظات الأشد وقعا في حياة ينقلها كاتبها بصدق ممزوج بحرقة كبيرة تبرز جوانب خفية أو منسية إبان حياته .. فالقص السير ذاتي هو التقاط لتفاصيل صغيرة جدا من الواقع .. ومن منظور خاص يمكننا أحيانا من أخذ ولو صورة جزئية عن مرحلة في رقعة جغرافية جد محدودة .. لكن أهميته الكبرى تنجلي بعد إسقاطه كعينة للمسح على مجال أكبر وأوسع .. مما يعكس حقيقة الواقع’ وبالتالي التعرف عن قرب عن جانب من "التاريخ" المحلي ..خصوصا في جانبه الاجتماعي والنفسي الذي يسلط الضوء على نمط حياة فئة اجتماعية ما لها خصوصيتها . .
من هذا المنطلق ’ سوف لن تكون دراستنا لهذه المجموعة ذات طابع علمي سوسيولوجي.. أو أنتروبولوجي.. بقدر ما سنحاول الإجتهاد قدر الإمكان لفتح مكونات القص على آفاق أخرى.. نظرا لكون القصة أضحت مع كاتبها القاص محمد الحاضي وعاءا لتجميع معطيات عديدة.. من خلال إشارتها الوامضة إلى الوقائع.. التي بقدر ما تعكس حدثا له خصوصيته.. بقدر ما تعري عن حقائق الحياة في زمن القسوة بداخل مكان له أهميته القصوى ( القرية).. و بالتالي فالصورة ستستكمل بظهور كتابات أخرى مضيفة معطياتها التي ستمكن من تكوين رؤية واضحة المعالم وتصور حقيقي بل و واقعي . .
إن قوة القصة القصيرة تكمن من خلال سردها الشفاف والقصير.. ورصدها السريع للوقائع والأزمنة والأمكنة.. واستئثارها بقوة الوصف لشخوص محكياتها .. مع استعمال السارد لضمير المتكلم ’ أو الجمع بينه وبين ضمير الغائب. فكلما تداخلت أزمنة السرد وتزاحمت الأحداث برز صوت الكاتب المتواري وراء سارده.. وقد بدا سيل من الصور الجارفة ينساب لا إراديا .. وكأنه يتخلص من أثقال السنين .. أحيانا ينضد حقول معانيها.. وأخرى فاتحا كتاب الذكريات على مصراعيه ..
وقد لا يتذكر الكاتب الأحداث بتفاصيلها المملة بل قد لا يتذكر الجميل منها با لقدر الذي يتذكر الأشد قتامة وقسوة وحسرة وفشلا .. فالمعاناة هي قدر السرد السير ذاتي .. ومن لحظاته تطرز الحكايات المريرة لأنها الوحيدة المترسبة في الوجدان بل في الذاكرة ..
I - القصة القصيرة والحكي السير ذاتي
إن الحكي السير ذاتي هو إعادة تشكيل للحظات حياتية يمكن أن تكون معدلة بتدخل العديد من العوامل منها : الذاتي ، السن ، التكوين ، النضج ، التحفظ ، والرغبة في تحويل المحكي بإتحافه بمميزات خاصة من خلال إبداء المواقف الخاصة .. وتحليل التصريحات أو الإنتباه إلى كل صغيرة وكبيرة.. والتعبير بشكل ملغز وساخر أحيانا ، وأحيانا أخرى تضحى مجرد لعبة للتجلي والاختفاء تجعل من النص سير ذاتيا .. أو غير ذلك من خلال انحياز الكاتب.. وإسهامه في تسيير الأحداث .. لكن مهما حاولنا فك شفرات تلك الكتابات فإن حرارة الأحداث وقوة المواقف تسحبنا .. وتبرز تطفلنا لممارسة لعبة رقابة ضمنية في محاولة لغربلة الكثير منها ..دون القدرة على إثبات حقائقها أو نفيها .. لأنها صادرة عن كاتب حدق يمزج بين المتخيل والواقعي والعجائبي لتشييد نصوص مثيرة وذات نكهة خاصة ..
ويمكن اعتبار مجموعة" خبز أسود.. خبر أبيض " لمحمد الحاضي من الأعمال القصصية السير ذاتية بإمتياز..خاصة خلال الوقوف على مجموعة من النصوص ك " aie ça pique !" و " آلام الحروف ومصائرها " و"الجبنة "..على غير النصوص الأخرى التي لم تتخذ نفس الاتجاه بقدر ما نحت نحو رصد واقع القرية.. مما جعلها نصوصا للذاكرة الجماعية منها نذكرنصوص " ألقاب / الحاجة عيشة / خبز أسود .. خبز أبيض " .كما تناولت جانبا من السرد العجائبي من خلال نص: "طائر البقر " عبر الحفر في تاريخ الحكاية الشعبية.. بنوع من التقابل والتوازي بشكل خيالي مكننا من دخول عالم الطيور الغريب.. أو بالإعتماد على توظيف سخرية انتقاديه كما هو الأمر في نص " حفلة كما في تلفزيوننا تقريبا " و نص "عنق ليام ".. بالإضافة لرصده لنتف متفرقة من الأحداث اعتمادا على الذاكرة في نص " صور متقاطعة" ونص "محكيات مؤجلة ".. فكيف أتت القاص محمد الحاضي مجموعته.. وما هي أهم المرتكزات الإبداعية التي اعتمدها في نصوصه ؟
II - السرد تفجير لذاكرة الآلام والأوجاع والعنف
ذاكرة العنف
يشكل العنف الصورة القاتمة التي يتذكرها السارد عن طفولته.. بحيث لم تتوقف محنه سواء مع" الفقيه الدغوغي" بالمسيد.. أو مع" الفقيه السي حميدو".. وحتى مع فقيه آخر بعيدا عن الدوار هو "الفقيه الحوزي".. وحتى حتى.. بدخوله المدرسة التي كانت "في أعلى الثلة على مبعدة سبعة كيلومترات من البيت " ص 53..
في نص " aie ça pique " ص 7 يفتح السارد علبة الذكريات بحلوها ومرها.. مقتنصا أعتى اللحظات سوداوية من أعماق الطفولة ولحظات التعلم بمدرسة القرية مستحضرا أول درس في اللغة الفرنسية يقول السارد " ..كنت أعتقد أن وخزه لنا ( المعلم) بإبرة البركار يعني بالفرنسوية ( aie ça pique )هو يخز’ ونحن من الواجب علينا أن نردد فورا وبلسان سليم فصيح " aie ça pique"..
ولفرط يقيني في مدلولها من فرط الوخز الأول .. لم أفهم حتى كبرت وتنوعت واشتدت علي مصادر وخز أخرى ".. ص 7 .
ولم يكن الوخز وحده كافيا مع معلم قاس جدا وعنيف كي ترتسم تلك اللحظات الصغيرة.. وتمتزج لدهور أخرى بالغريب من العنف والضرب المبرح ..القاسي جدا.. وهو يصف تلميذ عاكس التلميذة الوحيدة التي تدرس بالفصل.. والتي كان الأستاذ متعلقا بها حد الهوس.. يقول السارد " .. المسكين ذاك (أي التلميذ) يداه على الحائط ’ ظهره إلى المعلم وقدماه إلى عصاه ..وهو لا يصرخ ’أي لا يجب أن يصرخ إلا بلسانه الفرنسي الذي هو فقط موسيو ..موسيو ..موسيوووو....أليمة دامعة " ..ص8
إن سلسلة الفواجع والنكبات والعنف لا تكاد تنتهي من شوط .. حتى تستأنف في شوط آخر من خلال " فخاخ الفرنسية مع أولاد الشهادة".. من خلال إرغام البعض على تعنيف البعض الآخر.. يقول السارد " إلا أنه’ إمعانا منه في الوخز’ أمسك بيمناي ولطمه بها من جديد ’وكأنه لطمنا معا من شدة قبضته" ص 8 . فعنف المعلم لم يتوقف عند العنف الجسدي ’ بل امتد إلى الاستغلال والقهر والحبس بشكل اعتباطي لمجرد رغبة طائشة أو أهواء نفسية ، كرغبته في تعليم الأطفال لكرة القدم.. وبالتالي إرغامهم على مشاهدة مباراة منقولة على التلفاز.. يقول السارد بسخرية مريرة " هو يعلم طبعا أن بيوتنا القروية البعيدة لا تلفزة فيها .. شخصيا كان أول عهدي بالتلفزة تلك الليلة (...) كنا متكومين متدافعين لا نميز, أ و لا أميز أنا , الكرة في الشاشة إلا لماما ، أما كيف نمنا نحن الأربعين ؟ وماذا تناولنا في العشاء والفطور (...) كان هناك خبزا يابس كثير"..ص 9
لقد كانت للسلطات المطلقة للمعلم الأجنبي عن القرية .. ويده الطويلة.. أثرا بليغا على الأطفال بحيث يذكر السارد وبنوع من الحسرة الممزوجة بالغبن لحظة التقاطه لصورهم في نهاية موسمه الدراسي الأخير يقول السارد ".. أحضر هو (أي المعلم) " مصورته" الخاصة كما قال..وبالألوان كما زف.. والتقط لنا من الصور أوضاعا ومواقع وزوايا .. ودراهم وافرة .. كان انتظارالصور, تلك, بالنسبة لناأهم من انتظار النتائج تشوقا ولهفة .. ذهب المعلم ولم يعد.. " ص 9
ب ) ذاكرة الأسرة : الأم والجد
لقد شكلت الأم عونا ومعينا وسندا للسارد .. يقول عنها " ما عادت أمك تسارع, بعد أن تدرك "مخاضك " , إلى ركن قريب من بيتكم ( غرفتكم) الواحد المتعدد . فتجلس وتمد رجليها أمامها لتعلقك فوق مرحاض قدميها المرفوعين عن الأرض ، وتردد (أمك ), ويداك متمسكتان بساقيها ( آعه.. آعه ..آعه ..) ص51 .
تستمرنصوص المجموعة في رصد جوانب أخرى من طفولة السارد ومعاناته مع التحصيل الدراسي , كما تم رصد ذلك في نص " آلام الحروف ومصائرها " بدخول والدته مضمار السباق بتشجيعها وحثها له على التحصيل باعتباره المخلص من واقع الفقر المدقع ، أمر سيشارك فيه كذلك الجد الذي عوض , في العديد من النصوص ,صورة الأب بل ومكانته من خلال تحسره بندم " على ذكريات الجهل التي كانت تمنع جيله من إرسال أبنائه إلى مدارس النصارى.." فكان يستحثه بشكل كبير مضيفا " الناس كيقراو بنهار .. ونت قرا بلليل ونهار " ص 11
لقد شكلت في هذا النص العمود الفقري لصورة المرأة القروية الأمية التي قاومت الغبن الذي طال أبنائها.. فتدرجت معهم ومع أحوالهم الدراسية إلى أن كونت حسب السارد قاموسا متميزا يقول ".. ورغم أن أمي لم تلج المدرسة دقيقة واحدة, ولا تدري هوية أي حرف , فإنها استطاعت أن ترطن بفهم وطلاقة قاموس عمرنا الدراسي .. كسول ، مجتهد ، ساقط ، ناجح ، الشهادة ، الكاتريام ، الباك ، لوحة ، تشجيع ، علمي ، أدبي ، الجامعة ، المنحة مقدارها .." 12 وهو قاموس بقدرما أصابها بالضجر والقنوط واليأس.. أمسى كلمات تجتر يوميا على مصير الأبناء وعلى أوضاع جيل الضياع والظمأ وقوارب الموت.. جيل العطالة المتعلمة..
إن الحديث عن الأم ما لبث أن احتضنه نص آخرهو "الجبنة" ص 21 حيث يستعرض السارد ذكريات زمن ولى مليء بالهواجس وهو بقربها في بهو المستوصف العمومي يقول " بجوار أمي ، والنساء متكدسات متكومات في بهو المستوصف العمومي ، أستمع إلى ثرثرتهن وهن يتبادلن النصائح والمعلومات والكيفيات في أمور التربية والأدوية والأغذية.. " ص 22 . فحديث النساء لم يجنح عن الكشف عن تعاملهم مع معطيات الواقع حسب ما تمت مراكمته من تجارب طويلة إلى درجة الحكم على كفاءة شخص ما كما هو الأمر بالنسبة للأطباء.. من خلال المقارنة بينهما بحدس غريب يقول السارد على لسان الأم " الدكتور الصبليوني ديال المخزن ما كيفليش مزيان.. يستعمل الراديو بسرعة قياسية ,فتسمع غير طرق..طرق..وكأنه موظف في خاتم البريد.. لكن من أين لأمي بفلوس الدكتور الغوزلافي (أي اليوغوسلافي) اللي كيشوف بزاف فالراديو .. وكيفلي مزيان لمريض ؟ " ص 22
لقد تجسدت الأم من خلال نتف بعض النصوص , رغم أميتها ,ذات خبرة كبيرة أبرزتها تجربتها ومعايشتها لتجارب متعددة ,وهو ما يبرز دور المرأة القروية بل و مكانتها الاجتماعية في غياب ظل الرجل وصوته الغائب . . فالمرأة في مجموعة " خبز أسود .. خبز أبيض" تشكل جزءا من تاريخ القرية وأحد مكوناتها بل ذاكرتها الحية ، ، وبالإضافة إلى الأم نجد الحاجة عشية ( العمة) , والجدة ، وزوجة الفقيه الشاذة ، في نص "الشرط" ص 29 ، والخالة " غضيفة "في نص" خبز أسود.. خبز أبيض" وزوجة "كحور " في نص "ألقاب" ص 18 والجارة الشمطاء العايدية في نص" صور متقاطعة" ص 59 ، نموذجا لنساء شكلن جوانب مختلفة من الحياة داخل القرية باستماتتهن في سبيل إنقاذ فلذات أكبادهن ..
ج ) ذاكرة القرية
مجتمع بلا ذاكرة مجتمع مختل ، ماتت قيمه وأصبح منسيا . فالذاكرة تتجلى في الموروث الثقافي سواء الشفاهي أو العادات والتقاليد والأعراف .. أو مرجعا واتفاقا وإجماعا بين مختلف مكوناته ولحظاته الآسرة.. ما يجعل من الارتباط الإنساني بالمكان أشد قوة وأكثر وطئا ..
لقد جسد نص " خبز أسود .. خبز أبيض" الذي اختير عنوانا للمجموعة .. أحداثا متعددة رسمت جانبا من ماضي القرية بحيث التقطت نتفها بقوة وبتقنيات صور من خلال كاميرا رصدت صورة بانورامية للقرية من بعيد ".. بيوت الطين ما تزال هي نفسها قابعة في المكان نفسه ،فقط تناسلت بكثافة , وأصبحت تتراءى لي واطئة قريبة من هامتي ." ص 47. وهو إلتقاط أبرز الفرق بين الماضي والحاضر.. هو الماضي الذي سيتشكل منه النص يقول عن طفولته " غواية أعشاش العصافير تحت تلك السقوق لا تقهر.. " ص 47 وهو تبئير للصور جعل الحديث يرتكز بشكل دقيق على التفاصيل الصغيرة كوصف السلم " العمودان خشنان غير متناسبين ولا متوازنين ، أدراجهما الأفقية هشة التوثيق ، متنافرة الاتجاه , طائشة المسامير.. " ص 47
إن الاستئثار بوصف المنزل وبعض محتوياته لم يفتأ أن انتقل من الأسفل إلى الأعلى .. إلى بيت الله وصومعته .. من خلال استحضار وقائع خالدة بذاكرة السارد والقرية على السواء ..
لقد شكل بناء مسجد القرية حدثا مهما يؤرخ ,في نفس الوقت , لجملة من التطاحنات والمشاحنات والنوادر.. بدءا من عملية الاكتتاب التي أنهكت كاهل سكان القرية ف" ..مسيح وبراح الجماعة يفلح يوميا , بشطارته وفهلوته , في استخلاص وجبات الدجاج لعمال الورش حتى من الشحيحات الشمطاوات من نساء الدوار.. " 47 وهي عملية أثارت حنق آخرين أبدوا احتجاجهم بسبب ما خلقته من هوامش للبعض للإسترزاق خارج نفوذ القرية كالأسواق والمدن المجاورة ، كما شكل بالنسبة للبعض موجة للركوب السهل على أصوات الناخبين نحو مجلس الجماعة .. يقول السارد ".. ولما كان المال قد استنفذ, فقد وعد بإعلائها ( صومعة المسجد) أحد كبار المرشحين للانتخابات مقابل كل أصوات رجال ونساء الجماعة .." ص 48 , كما كانت سببا في صراع أقوى العشائر بالدوار حيث يرصد السارد أن " العشيرتان الأقوى بأسا وشوكة بعزوتهما العددية , تنافستا حول موضع ووجهة الباب الخارجي لصرح الجامع الجديد.. فوقعت بينهما معركة حامية بالعصي والمداري والرفوش, سقط قتيلان.. " ص 49 .
لقد ارتبطت حملة تجديد المسجد بأحداث أخرى كالعثور ضمن " متاع أحد الطلبة على آلة تسجيل, فتطورت " الفضيحة" ورفعت إلى السيد القائد ..رغم قسم الطالب بأن آلته هي لسماع كلام الله ومواقيت الآذان.. "ص 48 .
إن المثير في هذا النص هو زحفه واسترساله في تفريخ الأحداث التي أضحت بتعددها مقطعا من نص روائي يرسم تفاصيل حياة القرية وسكانها واحدا تلو الآخر في ارتباط بديع ..يقول عن الفقيه وقفة الخبز انطلاقا من رصد " سفيرة "(قفة) الدوم الخاصة بالخبز المعلقة في جدار المسجد ، وابراز أنواعه وتعدده حسب المناسبات فالأحمر للحريرة ، والأسود( لباقي الأيام ) والأبيض للسحور ..ص 49 والفقيه ".. كان يحرص بشخصه على إطعامنا من هول مجاعة النهار. وكان حظنا من الأحمر هو الأوفر. آه , الأبيض كالحلوى , والأحمر الحافي في أسناننا الصغيرة الطرية كالحجر لا يطاق.."(...) الخبز الأسود, هذا العزيز على أيامنا الرمادية " ص50
لم يفت السارد التعريف بمكون مكاني أساسي في حياة القروي كالسوق الأسبوعي وما تحيط به من أماني وانتظارات متعددة.. وبالتالي منح القارئ فرصة التعرف عن قرب عن واقع الفقر الذي عم ذات زمن متسببا في اغتيال أحلام العديدين ..في نص "عنق ليام " يسوق السارد نموذجا لفلاح هب مذعورا من النوم للذهاب نحو السوق عللا متن عربة " انزوى جوار الكيس ( كيس القطاني ) في ركن من العربة . أسدل على وجهه قبه ,غير عابئ بمرافقيه من الركاب وقوائم الخرفان ,كأنما يستأنف ما تبقى له من النوم .."ص. 55 كما تكرر الحديث عن السوق في نص " ألقاب " مع ذكر شخصية المعلم سلام " كحور" من خلال حكاية السارد نقلا عن راوي آخر يقول " وقد حكى لي أحدهم (وهو على هذه الحال, أي كحور) سخرته زوجته في يوم قائض سموم للتسوق من سوق الخميس ( الذي يبعد بنحو عشرة كلمترات عن الدوار ..)(طبعا على رجليه ,لأن باحة بيته خلو ولو من حمارة..) ولما وصل إلى حيث السوق وجد يومه الجمعة ..فعاد على أعقابه متبضعا فقط ما يكمي ..." ص 19
لقد حاول القاص محمد الحاضي في مجموعته إبراز الوجه الثقافي للمنطقة من خلال ما حملته النصوص من نتف وأمثال شعبية .. وإن جاءت بشكل عرضي , إلا أنها أماطت اللثام عن جانب جد مهم من معالم المنطقة وتاريخها ونمط حياة أفرادها وطرق تفكيرهم .. فالأمثال الشعبية جاءت بطابعها المحلي عابقة بسحر ووقع بلاغتها , مما أبان عن تجربة وحنكة أفراد شحذتهم الأزمات والمحن. يقول السارد على لسان الجد وهو يحثه على التحصيل " الناس كيقراو بنهار.. ونت قرا بلليل ونهار " ص 11 أو على لسان الأم " آش خصك العريان.. " (...)".. حنا يطيح الفار يتزوا وهو .."(. ..) ".. احنا كنفليوا لكلب بالنص .. وانتما .." ص 12 .وكذلك بعض ما كان يردده الأطفال في القرى بمجرد مشاهدة طائر البقر " واطير بكر ..أعطينا الحنا والثمر " ص 15 / " كنباتو مع الميتين ونصبحو مع لحيين " ص 26
وكذلك عندما جاء أحدهم يستشير الجد في نازلة في رمضان كما هو الأمر في نص " خبز أسود .. خبز أبيض " حيث رد عليه قائلا" حتى يفوت رمضان ونشربو لما ونعرفو نتكلمو.." ص 49 وكذلك " شكون داها فيك أثقاقة نهار لعيد ".. ص 50
III السرد العجائبي أو الصورة المشوهة للطبيعة
تشوه القرية / تشوه العالم
إن الإرتكاز على السرد العجائبي لذا كثير من المبدعين يأتي كضرورة حتمية للتعبير عن مواقف حقيقية.. وإبراز نظرتهم تجاه الكثير من القضايا التي تطبع مرحلتهم دون أن يعيرها الآخرون اهتماما يذكر. فجاء التعبير عنها رمزيا أو من خلال تقديم القضية بشكل غريب أو عجيب من خلال المزج بين الخيال والواقع, أو من خلال أنسنتها وتمريرها على شكل حوار هادئ وعجيب كما حدث في نص " طائر البقر" ص 15 حيث القاص يلبس بطله طائرالبقر لباسا إنسانيا ليدخلنا عالم الحكي العجيب وهو يتحاور معه عن أسباب طلبه الإستئناس .. حيث لم يبق له " إلا ما تجود به نفايات البشر من المزابل والسوائل" ص 16
إن رغبة السارد في تحويل مجرى حياة طائر البقر بحمله إلى المنزل للعيش مع دجاجهم أحدث رد فعل صاخب سواء من طرف الدجاج..أو من طرف الأم التي التحقت بثورة دجاجها .." ص 16 .وهو موقف سيسرع من عودة طائر البقر نحو عالم المطاردة والتهميش . كما أن إشارة السارد إلى عنوان مونتيروسو " النعجة اسوداء والحكايات الأخرى.." أدخل نص" طائر البقر" في تناص مع نصوص كاتب عالمي رغم حنق المؤلف على الكتاب وصاحبه . فالتشوه الذي لحق بالعالم الخارجي لم تفلت القرية منه بسبب زحف العمران وتقلص المساحات الخاصة بالفلاحة.. مما ينذر بكارثة بيئية وانقراض للعديد من مكونات المنظومة البيئية في المنطقة .
السخرية / الوجه الآخر للحقيقة
في حين تجسد ت السخرية في نصوص القاص محمد الحاضي من خلال نص " حفلة كما في تلفزيوننا تقريبا " ص 39 من خلال لجوئه لسخرية انتقاديه رصدت اختلالات المنظومة التربوية وأماطت الأقنعة عن أصحابها سواء من خلال استعمال القاص للألقاب " الأستاذ الفقيه العلامة " ص 39 في إشارة لمدرس التربية الإسلامية " أو لشخصية " العريف " الذي طلب الوقوف المحترم للنشيد الوطني " دون أن ننسى الطاقم الإداري وجمعية الآباء . لقد كانت المناسبة حفل اختتام السنة الدراسية بحيث أن معدلات النجاح التي أبرزها السارد حسب بعض السنوات ( معدل النجاح في السنة الأولى 06/20 الثانية 07/20 السنة الثالثة 08/20 ) يبرز غياب أي جهد للنهوض بمستوى الناشئة.. هذا فضلا عن فقرات الحفل التي تضمنت وصلات غنائية غير تربوية أبرزت سوقية الأذواق ودونيتها.. في حين انتقد السارد بسخرية كبيرة الكيفية التي تمنح بها الجوائز والاستحقاقات " الجائزة الأولى للتلميذة الفلانية ابنة الدكتور الفلاني / الجائزة الثانية للتلميذ.. أبن المهندس.. " ص 40
إن سخرية السارد من هذه المواقف أبرزت وضعا شاذا مكرسا قائم الذات و هو استمرار لثقافة الدونية والحكرة في المدرسة كفضاء عمومي أجهزت عليه الذوات وأصحاب المصالح والنفوذ .. وهو ما دفعه إلى تشبيهها بفقرات برامج تلفزتنا (الوطنية) وإعلامنا الذي لا يراعي حقوق مموليه الحقيقيين ويغيب من برامجه كل تطلعاتهم ..
لقد استطاع القاص محمد الحاضي تصوير واقع الحياة بالقرية بكثير من الحب والتفاصيل عاكسا بدقة واقع الأزمة والفساد المستشري بها , بحيث تشكلت صور مليئة بالكثير من الصراعات والتطاحنات التي تمزق أواصراها من الداخل بسبب الجهل والأمية والفاقة وغياب بعد النظر.. ساعيا نحو تقديم نظرة واقعية مستخلصة من واقعا معاش على شكل نتف سير ذاتية ، فالسرد بقدر ما أماط اللثام عن العديد من الوقائع التي قدمت من خلال المزج بين الكتابة السير الذاتية وقوالب أخرى كالعجائبية أو السخرية أو المتخيلة .. سعت في ذات الوقت إلى إثارة الانتباه إلى منطقة منسية وهامش من هوامش المغرب الذي فرضت عليه الوصاية البقاء غير نافع رغم ما يزخر به من خيرات وطاقات بشرية مهمة جدا .
إنها كتابة تمزج بين اللغة العامية والفصحى في محاولة للبحث عن طبيعة القصة المحلية ذات الهوية الثقافية الخاصة "مغربية بامتياز".. مما أضفى جمالية على الحكايات المسرودة وأتحفها بنكهة خاصة تسعى إلى حفظ الذاكرة الفردية والجماعية وجعل المكان ( القرية ) مجالا رحبا للعديد من المحكيات المثيرة والمليئة بالغرابة والمتناقضات من خلال طرافة شخوصها وخصوصية أمزجتهم التي تعكس حقيقة النظرة إلى الواقع مادامت تؤثر فيه وتوجهه ، كما أن القصة لم تعد ابنة المدينة بامتياز.. بل لها ارتباطات بالأرياف والهوامش المنسية والقرى النائية . .
"خبز أسود .. خبز أبيض " نصوص مليئة بالمعاناة والسخرية والفضائح ..تعري أقنعة الزيف في محاولة لتشييد عالم مرغوب فيه ومنشود بنوع من التحدي والبوح الصادق.. وهو ما شكل في نظرنا المتواضع إضافة نوعية للكتابة القصصية المغربية والعربية على السواء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد الحاضي "خبز أسود ..خبز أبيض" قصص . منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب - سنة 2007
عبدو حقي " حروف الفقدان "مجموعة قصصية -أنفو برانت . الطبعة الأولى 2008
صخر المهيف " ذكريات من منفى سحيق " مجوعة قصصية . دار الوطن للصحافة والنشر الطبعة الاولى 2007
أحمد شكر "العناصر" قصص . منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرةبالمغرب . الطبعة الأولى 2008