كلما سمعت عن الحكايات الشعبية أحس وخزا لذيذا في قلبي ووجداني ، وإن كان علي أن أستغل ما درسته في كلية الآداب والعلوم الإنسانية :من دراسة لبنية النصوص الأدبية وتشكيلها الفني ونكهتها الإبداعية ،وإن كان علي أن أمرس مهارتي النقدية وأن ألبس جبة الناقدة التي تمنيت أن أكونها وتعلمت مهارتها ، علي أن أدرس الحكاية الشعبية المغربية.
قد يقول البعض : هل تستحق الحكاية الشعبية المغربية الدراسة ؟ أليست مجرد إنتاج شفهي بدائي الميلاد و الهيئة ؟ ألم يتم إبدالها بالتلفزة وبرامج والتطبيقات الحاسوب الذكية ؟ ألم يمتلئ الفراغ العاطفي والزمني الذي كانت الحكاية تعوضه ؟
هل ما يزال الفرد يحتاج إلى ليالي السمر حيت يجتمع الكبار وتشرئب رؤوس الصغار لسماع قصص وحجايات الأم والجدة؟ ، في ظل الأشرطة القصيرة المسجلة والفيديوهات الغزيرة وحمى المعلومات والصور المهلوسة التي لا تنفك في الانهمار إليك اذا دخلت نسق الحياة الرقمية التي عوضت كل كيان ثابت ظُن أنه لن يهمل.
أثناء دراستي الجامعية للآداب ، كان هناك تركيز كبير على دراسة الشعر العربي بأنماطه وأسبابه وهيئته وشروط جودته ومجالات وروده والسبب أنه نمط أدبي راق الغرض والسبك وأنه ديوان العرب من الناحية الانتروبولوجية .
ولم تكن دراسة السرد بنفس التركيز وإن كان السرد دراسة وتحصيلا علميا تقتضيه الشعبة وما يلزم لبناء الكيان الأدبي ،كما أراد دارسونا أن يجعلوا منا مهندسين في تحليل النصوص والتعرف على بناه ودراسة مدى أدبيته، وهذا عمل منهجي صارم حقا عكس ما يشاع عن دراسة شعبة الآداب أو ما يشاع عن دارسيها تلميحا وتصريحا من تحقير وتقليص لقيمة هذا النوع من الدراسة.
أنا شخصيا لم أحس حقيقة بمدى التعلق الوجداني بدراسة الآداب إلا بعدما انغمرت في دراسة السرد الشعبي وحكاياته العتيقة ،وكان يطيب لي حقا أي تعب أو جهد قد ألقاه لحضور أي حصة من حصصه ، تعرفت أول الأمر القصص الشعبية الروسية العجيبة بوظائفها العديدة كما قدمها فلادمير بروب وغريماس في ما يعرف بالنموذج العاملي على أساس أنها فن أدبي قابل للدراسة والتحليل المورفولوجي ،مع أستاذي يونس الوليدي الذي يجعل للمحتوى المدرس نكهة خاصة، ويجعلني أدخل في طقس وجداني كلما هم في ذكر خصائص هذا النوع أو ذكر أمثلة ومقتطفات من القصص الشعبية بصوته الجهور وأدائه المسرحي المذهل حقا.
أحببت هذه المرحلة الدراسية وقد كانت في سنتي تحضير شهادة الماستر لسبب يعود إلى طفولتي :ولأني اكتشفت قابلية دراسة واستغلال ما تعلمته في النقد وتطبيقه على الحكايات التي كانت أمي تجمعنا في ليالي الشتاء الباردة أو ليالي الصيف الزاكية حول المائدة أوفي سطح المنزل العتيق أو قبيل النوم لتحكيها لنا ، مثل قصة لوجا و الغيلان السبع ،أو حكاية الأخضر بن نضر ، وغيرها من قصص الحيوان :كالأسد والأرنب ،والذئب والقنفذ ،والذئب والعجوز ،والحمار والثعلب، و قصص الملوك والجنيات العجيبة ،والمخلوقات الخيالية ، وإن كانت القصص الروسية العجيبة لاقت إقبالا هائلا في الدراسة والبحث وإن كانت القصص الأوروبية المشهورة : كالحسناء والوحش ، بياض الثلج والاقزام السبعة والأميرة النائمة وغيرها الكثير، التي يعرفها كل صغير وكبير وصارت جزءا من طفولة كل طفل في العالم خصوصا بعد أن تبنتها شركة ديزني لاند وجعلت منها رسوما متحركة ، وقد عرفت تغييرا وتنقيحا لتناسب الجمهور بكل أطيافه والأصل أنها موغلة في الدموية ومشاهد القسوة والعنف .
ثم سلسلة هزار أفسان أو ما يعرف بألف ليلة وليلة : وهي السلسلة القصصية التي انطلقت من الهند لتجوب العالم و تنقح وتضاف إليها قصصا من العالم العربي خصوصا بلاد العراق والشام حتى صارت رمزا لسحر الشرق ونمط عيشه وتكاد تكون السلسلة الأشهر في العالم التي لا يختلف أحد في جودة قصصها و غرابة أحداثها وشخصياتها الراسخة مثل: شهرزاد وشهريار والسياف و سندباد البري والبحري وعلاء الدين وياسمين وعلي بابا وغيرهم .
والحكايات المغربية قد يكون لها نفس السحر والجودة أو أكثر لو تم تسليط الضوء عليها كما يجب وتم استثمارها فيما وجدت لأجله.
ومن الناحية النقدية هناك أشياء كثيرة تجعل القصص الشعبية المغربية كيانا أدبيا وفنيا وأخلاقيا ونسق ابداعيا خالدا ونطاقا انتروبولوجيا لدراسة وجدان الشعوب المنتجة للحكاية ونمط تدبيرها للحياة وللحب وللحرب و للميلاد وللفناء ، وزرع القيم التي تريد أن تزرعها في نسيج مجتمعها لتضمن استمراره ،وطريقة ارساء قانونها والتمكن من ضمان الالتزام به عن طريق الحكمة والمثال ونموذج الجزاء الوافر أو العقاب المهين عن طريق الميثولوجيا كل هذا وأكثر رخص للحكاية الشعبية ظروف الخلود .
- الحكاية الشعبية إنتاج أدبي شفهي قابل للدراسة البنيوية المرفولوجية: لأنه يتكون من بنى قابل للتقسيم ودراسة مكوناتها مثل :الشخصيات أو القوى الفاعلة للحدث سواء الآدمية والحيوانية ومكونات الطبيعة ، الحدث وهو محور الحكاية أو مغزاها سواء الدرامي أو الهزلي ، ثم الزمان والمكان وهي أبعاد مشكلة للقصة وموجهة للسياق ومبلورة له عبر الوصف ،والسرد ، والحوار، والتناص وغيرها ..أي أنها نسق أدبي قابل للدراسة المنهجية الصارمة مثل ما قدمه غريماس أو فلادمير بروب .
- الحكاية الشعبية قابلة للدراسة الأنتروبولوجيا وقاعدة سيميائية خصبة لدراسة وجدان الشعوب وطريقة تدبيرهم الحياة الفردية والجماعية : كطقوس الزواج والتأبين وفض الخلافات وتمرير أخلاقيات الجماعة وبرمجتها في ذاكرة المتلقين: عبرالجزاء الوفير للطيب المخلص والعقاب المهين للشرير ، وكذا حفظ سجل الجماعة : مثل الانتصارات ،و المجاعات ،والهجرات، وطقوس التعبد والآلهة المعبودة ،وحتى أنماط التعايش والانفتاح مع القبائل والجماعات البشرية المجاورة .
- الحكاية الشعبية أصدق طريقة لمعرفة الانسان القديم ونفسيته في ما قد أسميه رصدا لعلم النفس التطوري: لدراسة وجدان ذلك الإنسان الذي أشقاه الفناء هو وكل من يحب ، فجعل الحكاية طريقة للخلود مثل ملحمة جلجاميش بألواحها العديدة ،الحكاية طريقة لتعويض النقص والوصول إلى الكمال المفقود سواء في الحب أو الأخلاق أو النفوذ والسلطة و شفاءا من خيبات الأمل.
- الحكاية طريقة لتفسير ما يصعب تفسيره بسبب قلة الموارد العلمية المفسرة ، لهذا لجأ الانسان القديم لنسج الحكاية كأطروحة مفترضة عن الظواهر البيئية المخيفة كالزلازل والبراكين وهجوم الوحوش والحيوانات المفترسة بل ومحاولة تسخيرها ولو بشكل رمزي متخيل فيما سمي الأسطورة.
- الحكاية وسيلة لانتقاد السلطة وسوء تدبير الساسة أو توجيههم عن طريق الترميز والحيلة لردع الاضطهاد والدعوة الى التحرر و نبد الظلم ، وطريقة لانتقاد الفساد في المجتمع ومظاهر التفسخ.
- الحكاية نظام رمزي يستعمل الكثير من الرموز الدينية والعقائدية واللغوية والميثولوجية ، وقد كانت قبل نضوج اللغة تمثل بالرسم على جدران الكهوف .
- الحكاية مادة أدبية غنية بالقيم وصالحة لإعادة الاستثمار في برامج الأطفال والاعمال السينمائية والمسرحية في ظل ما يلاحظ من شح في المواد الروائية والسينريوهات المعروضة التي تتميز بالسذاجة والسطحية.
لا ينكر أحد منا تأثير القصص التي سمعها على ذاكرته ووجدانه و التي شكلت ذوقه بطريقة أو أخرى . أما أنا وإن كنت في الرابع والثلاثين فما زلت أتوقع أن أجد رمانتي السحرية المليئة بالجواهر كما وجدت عيشة رمايدة ، وكلما وفقت أما باب كهربائي أهمس سرا افتح يا سمسم ثم استمتع بالمنظر السحري ، واذا تأخرت أختي عن موعدنا أقول لها (فين وصلات الغولة فنعاسها ...،فترد : هاهي تتحك فراسها ...)،وكلما حطت عيني على عنقود عنب أسود فاحم أتذكر أحدى المشاهد التي حفرتها في ذاكرتي كوسم من زمن الطفولة.
الحكاية كانت أفضل ما حظينا به نحن جيل التسعينات وبداية الألفية الأولى وقد نكون آخر جيل حظي بهذه المتعة في ظل شح القنوات الإعلامية والبرامج التلفزية التي ميزت الفترة وثقافة العيش قبل عشرين سنة من الآن ،وقد كنت محظوظة لأن أمي تمتلك مهارة حكي منقطعة النظير وطريقة تجعلك تعيش تفاصيل الحكاية وتلمس جوهرها ، وإن كنت أتمنى شيئا من صميم القلب فسيكون أن تكون لي دراسة وافرة للحكاية الشعبية المغربية في جهة فاس أو مناطق جبالة شمال المغرب جمعا وتدوينا ودراسة ،ولأني أظن أن أمي امراة من النساء اللواتي تقلدن مهمة الحكي وأخذن على عاتقهن إيصال ميراث الأجداد ووجدانه ، وستكون بالضرورة هناك مئات مثلها يحملن الكثير من الجواهر الأدبية ،ومهمتي كدارسة أدب أن أضعهن في بؤرة النور تكريما لكل الحاكيات ،وهي مهمة أدعو الله جهرا وخفية أن يعينني على تحقيقها .