لِيكنْ الأَمْرُ كَذَلِكَ...
هَاجسَ نفسهُ بالعبارةِ اللاذعة وهمّ بالانصراف. كانتِ الشّمس، فوق سقفِ الكونِ، تتلوّع محتدّة. وكانَ قَلبُه أشدّ التيّاعاً من هذه الشّمس. لا يهمّ، فهذه الحياةِ مُشرعةٌ على كلّ احتمالاتِ الارتياب. مَا بالُ جوليا! ربّما تهيّأ لها، بُحكم الاعتيادِ واستشراءِ التّفاهة، أنّ خلفَ الإصرارِ قصداً مُريباً، لابدّ. كانَ رهاناً فاشلاً؛ فثالث الأثافي، كانت على النّحو السّائد. كلامٌ مَلصُوقٌ وقلبٌ تائهٌ لا يفقَه أسرار الحياةِ! الشّمس تَسُوطُ رأسهُ بأسياخٍ من نّار. السّؤالُ قاسٍ: لِمَ تُرسلُ وَحيَكَ، هذا المدموغ بقسوةِ الخيالِ، إلى البلادِ البعيدةِ؟ ضَعهُ تحت مؤخرتكِ يا هَذا. إنّها لن تفهمَك. سَتَذهبُ بها الظنون في كلّ المسارب. أي نعم، في كلّ المساربِ، حتى تلك القصيّة الأبيّة على الارتياد. هاهُنا نظر إلى هاتفه. كالعادة لا رسالة تفكّ شفرةَ الحرّ الطّاغي في الأرضِ وفي السّماء.
على الشّارع الممتدّ، مشى صامتا، عيناهُ مفتوحتان، لكأنّهما ثقبانِ تتسرب إليهما الأشياء خارجَ مدارِ الإدراكِ. يرى ولا يرى.
في هذه اللّحظة الرهيبة، ارتطمَ بفتاةٍ، حين رَفَعَ عينيه ألفَاها تُوضّب حِذاءها وتصرخُ: وَاشْ مَا كَتْشُوفْشْ قُدَّامْكْ أزْبلْ. لم يردْ. لم يعتذر أيضاً. التمعتْ في ذهنه فكرةُ أنّ يعطيها الكتبَ التي كان ينوي إرسالها للغريبة. فالأمر سيّان. هو لا يعرفهما معاً. لكنْ في الأولى سرٌّ ما. سرٌّ ملغزٌ، محيّر، غامضٌ، مُعْتِمُ الحواف هو الذي يستوديهِ نحوها. من يصدّق شعريّة السرّ الغبيّة هاتهِ! إنّك تبتني من أوهامكَ عوالمَ هشّة ستتهاوى، حتماً، فوق رأسكِ. كنْ واقعيًّا. من ذي تحبّ الكُتبَ في زمن السّفالة. احْتفظ بأشعاركَ لنفسِك. لم يصخ السّمع للعتابِ الداخليّ.
حولكَ الـأراجيفُ تندلعُ لاتزال. وحولكَ وجودٌ فقد الثّقة في الربّ نفسه. وحولكَ النّهار ينفض غبارَ حيرته على العابرين. عادَ إلى سيارتِه المركونةِ قُرب المبنى البلديّ. وضعَ الكتبَ في المقعدِ الخلفيّ، ثم أدار المفتاح. شغّل جهاز الموسيقى. كانت ألحانُ الفصول الأربعةِ تأتيه متقطّعة. هو لا يسمعها كما تَصْدُرُ. بلْ كمَا تتشرّبها نفسهُ، هكذا تتسرّب إلى كيانهِ موجعةً على نحوٍ مؤذٍ، دَامٍ. لم يكن فيفالدي وموكبه يعزفون على آلاتهم، إنّما كانوا يعبثون به كما يحلو لهم. كلّ هذا من أجل غريبةٍ ملفوفة في الصّمت. كلّ هذا من أجل جُوليا. من تكون جوليا هذه التي هدّت نظامَ الكون حوله. كائناً من ورقٍ. آهٍ يا رولان بارث، من أين لكَ بهذا الحِذق المارقِ؟! لا بدّ أن هُناك قصّة تثوي خلفكَ يا بارث.
انطلقت السّيارة، بكلّ سُرعة، نحو لا هدفٍ. لم يكن يلقِ بالاً للسّائقين، للرّاجلين، للقافزين حولهُ. في زمن اللانتباه هذا، أوقفه شرطيُّ المرور، طلبَ منه الأوراق القانونيّة. أمدّها لهُ بتراخٍ وتثاقلٍ دلالةَ اللامبالاة. لكن الشرطيّ بادره بأنه ارتكب مخالفة بعدمِ احترامهِ الضّوء الأحمر، لهذا سيسجلّ مخالفته. وحينَ طلب منه النّزول، من السّيارة، لإتمام الإجراءات. ردّ عليه رحيم، بغيرِ إدراكٍ، بأّن جوليا ماتتْ. تحيّر الشرطي، همّ بسؤاله عن جُوليا. أ تكون ابنته أم زوجتهُ أم قريبة من قريباته. لكنه ابتلع السّؤال. أمعن الشرطيّ النظر في رحيم، ألفاهُ معلقاً في صليبٍ من حديدٍ حامٍ، على محياهُ يتجعّد الحُزن. ردّ إليه الأوراقَ مواسيًّا إياه وناصحاً بالانتباهِ.
وصل، بعد لأيٍّ، إلى المنزلِ. لم يُسلّم على أحدٍ. اتجهَ نحو غرفته الحمراء؛ حيث يقضي سحابة وقته يرقعُ المجهول، ويحصي احتمالاتِ الوجود. وضع الأوراق البيضاءَ على مكتبهِ وطفق يحبّر قصّة عن جوليا والسجن الأبيض، كانت الجملةُ الأولى:
جوليا، أيّتها الوديعةُ اللئيمة، إنّك لا تستحقين ورقةً، واحدةً، ولو مسروقةً...