أيُّ لغزٍ هذا الذي يَدفعني الآن، وبعد مرورِ ردحٍ طويلٍ من الزّمن، على انطفاءِ جدّي "السّي عبد السّلام الطّيب" وسطَ الشّموع البيضاءِ، للبحث في حكاياتهِ المدموغةِ؟ أتكونُ هذه العودةُ ضرباً من رغبة الذّاتِ للبحث عن كينونتها التي ضاعت منها وسطَ زَحْمةِ الحياةِ المعاصرة؟ هل كانَ جدّي يعلمُ أنّ كلّ أعراس ومراثي الجبلِ تنامُ في أصغر خلاياه؟ يبدو أنّ حياتهُ كانت مسرحيّة تتذابحُ في تفاصيلها الأسطورة بالدّين تذابحاً مُخيفاً؟ جدّي الذي كان يحفظُ القرآن، كانَ يؤمن، أيضاً، بضربٍ من المصادرةِ التقريريّة، أنّ العينَ المتدفّقة بين فَخِذَيْ جبل "بوعادل"، سَبَبُها قوةٌ ميتافيزيقيّة خارقةٌ عصيّة على الفهم: أيّ فقيهٍ هذا الّذي استطاعتِ الخُرافة بفتنتها الصاعقةِ أن تَنْسِفَ، في غفلةٍ منه، كلّ ما بناهُ يقينُ الدّين؟
لقد كانَ جدّي "السّي عبد السّلام" رجلا ًكثير التِّرحال والسّفر، بحكم مهنةٍ كانتْ تستدعِي منه السّفر الدّائم لإحضار الصّوف، الذي يشكّل مادّته الأوليّة لصناعة جلابيب "الحبّة" المعرُوفة بجودتها وقُدرتها على مقاومة قَرِّ جبال الرّيف القاسيّة. كان يقطع المسافةَ الفاصلة بين قبيلته "ولاد أزام" ومدينة تاونات على أَقْدَامِهِ، هُناك سيستقلّ الحافلة صوب مدينة وزّان. وغالباً ما كان يصحبُ معه في رحلةِ سفره صديقه ومُساعده في العمل "سيّ محمد دْيامنة".
وَبِقَدْرِ مَا كَانَ سفره اختراقاً لِلأمكنة وارتحالاً في مَفَازاتِ الطّبيعة، فإنّه، كانَ أيضاً، فُرصةً للتعرّف على تَقَالِيدِ الجَمَاعَاتِ الإنسانيّة وأَنساقِهَا الثقافيّة وطبائِعِهَا النفسيّة؛ فالمُسافر يحيا حياةً ثانيّة لا يحياها الذي يَقبع في موطنٍ واحدٍ. وهَكذا، فقد تشرّب جدّي حكاياتٍ كثيرة في رحَلاته وجولاته وأسفارهِ. من تاونات إلى فاس وصولاً وزان، ومن وزان إلى "باب برد" و"إِساكَن" و"كتامة" وُصُولا إلى "ولاد أزام"، كان نشيدهُ واحداً: هَذه الحَياةُ ضَالِعَةٌ في الغُمُوضِ ووحدهُ السّفر كفيلٌ بكشفِ بعض غُموضها وإِبهَامِهَا. كانَ يقولُ: إنّ الإنسانَ في سفرٍ دائمٍ، والوجودُ كلُّه سفرٌ في سفرٍ. ومن تَركَ السّفر سَكَن، ومن سكنَ عادَ إلى العدم.
أذكرهُ الآن، وبعد مُضيِّ ثَلاثَ عشرة سنةً على انسحابه المفاجئ، جالساً بين أصدقائه يحكي أسطورةَ "دَالُّوهْرَا"، أو لعنة النّهر الباردِ. يرمِي بيده اليُمنى " النّزق" (وهو أداةٌ مصنوعةٌ من الخشبِ، يوضعُ خيطُ الصّوفِ وَسَطَهَا، ويتمّ تمريرها بين مسنديْ آلة النّسج، بينما يتكلّف الدّف برصف خيط الصّوف بشكلٍ أفقيٍّ) ليلتقطهُ مساعده "السّي محمّد" ويعيد قَذفه إليه من جديدٍ. وبين ذهابِ "النّزق" وإيابِه تنتسجُ خُيوط الجلبابِ وتنتسج مَعَهَا فُرجةٌ بطلُها جدّي "سّي عبد السّلام".
بعد صلاة العَصر يَلتئمُ الجمعُ المكوَّنُ من بضعةِ شيوخٍ هدّهم الكبرُ، على "بَرّاد" شايٍّ وُضِعَ فوق صينيّة نحاسيّة منقوشةٍ. تتركّح الكؤوس بكل شمُوخٍ فوقها. وفي هذا الجويِّ، يتكلّف "سّي قاسم" بِسَكب الشايّ الذي تَرْتَفِعُ عمامتهُ البيضاء مُرسلةً أريجَ أعشابٍ بريّة تقويّ الرّغبة الجنسيّة لدى الرّجال وتجَعلُ منهم خيولاً مُطَهَّمَةً تدكُّ حصونَ الحسناواتِ دكًّا على حدّ تعبير جدّي. وهُنا، يأخذ "سِّي عبد السّلام" الكَلمَة ليُوغل بها في عوالمِ الأسطورةِ التي تهجع في قيعان ذَاكِرةِ أهلِ الجبل وتستيقظ كلّما همّوا بالسقيّ وملء جِرَارِهِم، يَقُول الجدّ الذي أتعبته حُرُوبُ النّجُومِ:
" كَانَت ليلةً باهتٌ ضَوؤها، مخيفٌ هُدؤها. ليلةٌ منفلتةٌ من تُخومِ التّقويمِ الإنسانيِّ. كان كلّ أهل القريّة يغطّون في نومٍ عميق، فَبَعْدَمَا استنزفَهم تعبُ الأرضِ تَخَامَدُوا فَوقَ أَفْرِشَتِهِم كَأَخْشَابِ البَلُّوطِ اليَابِسَةِ. وحدهُ السّاحر "يَهْوَاعْ" كانَ مستيقظاً، في عينيّه يرتعُ أرقٌ مُتَفَاحِشٌ يأبى الانصراف. اقتربَ الوقتُ المفضّل لديه للقيام بأعمال السّحر، فحين يحلّ الهزيع الأخيُر من اللّيل ينتصبُ بقامته المقوّسَةِ وسَطَ كُوخِهِ المُتهالكِ، ويمضِي إلى ضريحِ "سيدي يحيى" لِكَي يَزْرَعَ بين أركَانِ القبور المتناثرة بَعضَ تمائمهِ وطَلاسِمِهِ. قبل أُسبوعٍ، من وقوع الحدث الذي سيهزّ أركانَ القريّة الظمآنة، كان "يَهْوَاع" يَصْدَعُ في محجّات القريّة وأَسواقها بأنّه رأى في المنامِ "سيدي يحيى" وهو يَبْكِي على محنةِ العطشِ التي حلّت بأبنائهِ فتتحوّل دموعهُ إلى أنهارٍ تسقي الصغير والكبير وتروي الحقول والمراعي.
فِي هَذِهِ اللّيلَةِ المُقدّسة، الليلة السّابعة بعد الألف على زواجِ "يَهْوَاعْ" من الجنيّة "نْمرُوشَا"، اهتزتِ الأرضُ تحتَ القريّة الآمنة اهتزازاً مهولاً، استيقظَ الناس هَلعين مَذعُورينَ، وأخَذُوا يَتراكضون في كلّ الاتجاهات، وكأنّ القيامة حلّت، استمرّت الأرض في الارتجاجِ بشكلٍ رهيبٍ. أما السّماء فقد أقفلت نَوافِذها بإحكام مُفْسِحَةً المجال أمام جبروت ظلامٍ مُعْمٍ. خوفٌ، صراخٌ، ذعرٌ، وأدعيّة مَخْنُوقَةٌ يخالها السّامعُ تمتماتِ أبكم كلّما همّ بالإفصاح عنها تجبّرت عليه الكلماتُ واندلقت مُتصلة في سديم لا شكلَ له. هل تعلمون ماذا وَقَعَ بعدها يا سادة؟
كانَ العرقُ يتصبّبُ من جَبِينِ "سّي عبد السّلام" مُنْحَدراً على أطرافِ وجهه القمحيّ، فقد أشعلتْ هذه الحكايةُ الدّاغلةُ في طوايا روحه المثلومةِ حَرَائِقَهُ. آهٍ، ما أصعب محنة حكايتهِ؟ كلّما حاولَ نِسْيَانَها انغرزت خَنَاجِرُهَا في ذاكرتِه. لقد امتلكَ "سّي عبد السّلام" سُلطة الحِكَايةِ وغِوايتَهَا، وآمنَ بمعجزة النّهر الباردِ أكثر من إيمانِه بالأنبياء والرّسل الذين دَرَسَ سِيّرَهُم في مَسْجِدِ "بني قُرّة" الكبير. كانَ سُلطَانُ الأُسطورةِ يَقْتَادُهُ إِلى تِلك المناطق المُعتمة في روحهِ التي تشكّلت داخل مداراتِ القريّة.
أَخَذَ كَأسَ الشّاي وارتشف منه قطرة أو قطرتيّن، بعدها نادى على "يمّا فاطنة"، من الكوّة الجانبيّة للمحل، لكي تُحضر له بعض الصّوف المغزول. نظرَ إلى رِفاقه نظرةَ تشفٍ، فهو يعرف أنّهم يتحلّبونَ لسماعِ نهاية الحكاية التي يعرفون تفاصيلها جيداً، لكنهم يستعذبون سَمَاعَهَا عَلَى لِسَانِ "سّي عبد السّلام" الذي خَبِرَ أسرار السّرد وفتنة الحكاية. فَبِمُجَرّد ما يسترسلُ في الحَكي حتى تَنْمُو الحكاية وتَتَطَهّمَ أحداثُها وتزحف على سياجِ الإثارة والتشويق كَلَيْلَكٍ أو لَبْلابٍ. وفي هذه اللحظةِ المحنّطة بالأسطورة والذّاكرة، تململ "سّي قاسم" بجسده النّحيف، وطَلَبَ من "سّي عبد السّلام" إتمام الوجعِ الذي نَكَأَهُ، ثم ارتفعت أصواتُ الشيوخ الأربعة الآخرين مطالبةً جدّي باستئناف الحكاية والكشف عن تفاصيل ووقائع الليلةِ المشهودة. رمى جدّي "النّزقَ" إلى مساعدهِ بدقة متناهيّة وطفق ينسجُ خيوط الحكايةِ المدموغةِ:
ما وقع، يا سادة، كانَ ضرباً من العجب العُجابِ، انكمشتِ الغُيوم وتضاءلت ليلتَها، وبدأت تَتَرَاءَى عناقيدُ النّجوم وهي تسيلُ نوراً ذهبيًّا، حِينها بزغ قمرٌ أحمرُ لكأنّه قِنديلٌ من قناديل فراديس الربِّ السرمديّة. قمرٌ ليس كالقمر. قمرٌ طاعنُ في حمرةٍ نبيذية يفرشُ دنانيرهُ على صفحة وادي "ورغة". قمرٌ ممعنٌ في القداسة، خالهُ ضعافُ الإيمان ربًّا تَجَلَّى. فجأةً انحدر من حُمرته رجلٌ يتشح بجلبابٍ مترفِ البياضِ، وجهه يشعُّ وهجاً، يحمل عصى من خشبِ الأبنوس الأسود. يقول أهل الدّراية والكفاية أنّه موسى الكليمُ، ويقول أهلُ العِلْمِ وقراءُ الغَيبِ أنّه المسيحُ. لكنّ أغلبَ أهلِ القَريةِ كلّهم مُوقِنٌ بأنّه، سيّد الجِبالِ الثالثة، ابنُ الرمّان الأحمر "سيدي يحيى الإدريسيّ" جاء لينقذهم من جفافِ الأرضِ وبُخل السّماءِ. اتجه "سيدي يحيى" نحو جبل "دَالُهورَا"، نحو الصخرةِ العظيمة وهوى عليها بعصاهُ فإذا هيّ نهرٌ سيّال يجري بجموحٍ. هَلَّلَ أهل القرية في أوّل الأمر، لكن النّهر العظيم انهمر على أكواخهم وبيوتهم، فأخذوا يصرخون ويولولون ويتذرعونَ إلى "سيدي يحيى" لكي ينقلهُ إلى مكانٍ آخرَ. فما كان منه إلا أن طار بجناحين خفيتين إلى جبل "تَاعْنيتْ" وقصف بعصاه صدر الجبلِ فانهمر نهر فياضٌ أتى على عرصات أهل القريّة وحقولهم، فشرعوا يلطمون خدودهم وينتحبون ويتذرعون إلى "سيدي يحيى" لينقله إلى جبل "بوعادل" أشفق "سيدي يحيى" على أبنائهِ، ومرق كالسّهم نحو جبلِ "بوعادل"، اتجه نحو منحدرٍ قصيّ لا يسكنُه جنٌّ ولا بشرٌ. وهناك هوى بعصاه القاسيّة على فخذِ الجبل اليُمنى فتفجر نهرٌ عظيمٌ وترقرق ماؤهُ الصّافي. تراكض أهل القرية نحو النّهر المتدفّقة مِيَاهُهُ بين الصخور السّوداءِ وأشجار الدفلى. هالهم المنظر المُدهش للمياه البيضاء، فرحوا كثيرا لأنّ النّهر تفجّر في المَوضعِ المُناسبِ، زغردتِ النّساء الجبليات الموشومات بجمالٍ غجريٍّ فملأن بزغاريدهنّ الدّافئة فجواتِ الجبل ووهادهُ. مع الإطلالة الأولى للصباح، قدم أهل القرية إلى "بوعادل" محمّلين بالهدايا، وأحضروا معهم، أيضاً، عشرين ثوراً وخمسة عشر كبشاً، عقروها جميعها على ضفافِ النّهر الدّفاق شُكراً وامتناناً "لسيدي يحيى" الذي يحميهم من شرّ الدّهر وصروفه. لهذا، يا سادة تُذبحُ الثيران، كلَّ سنةٍ، عند شفتيْ عين "بُوعَادَل"، فالشّكر واجبٌ لهذا الوليّ الصّلاحِ الذي يرعى أبناءه في الصرّاء والضراء. وكلُّ مَنْ بَخل ببعض ما لديه على هذا الطّاهر سُلبَ منه الرزق كلُّه؛ فالطّاهرُ لا يقبل بُخل أبنائه، فهو يَسْمَعُنَا من تحت الأرضِ وروحه معنا في هذا المجمعِ الشّريفِ.
مَسَحَ "سِّي عبد السَّلام" حُبيبَاتِ العَرَقِ المنزلقةِ فوقَ جبينه بمنديله المطرّز، ثم دفع بمسنديْ "لْمْرَمَّ" إلى الوراءِ وسحبَ بساطاً أبيض مربع الشّكل، تَتَخَلَّلُهُ حَبَّاتٌ مَضْفُورَةٌ بِبَرَاعَةٍ، فَقَدْ أتمَّ نَسْجَ الجِلْبَابِ. كَانَ الشُّيوخ الخَمْسَةُ يَتَطَلَّعُونَ إِليهِ بأفواه فَاغِرة، وعقولٍ ملثاثةٍ بفِتنةِ هذه الحكاية الضالعةِ في ميثولوجيا الماء التي وُلدوا من روحِها. بطبيعة الحال، هو لا يعرفون بأن ما حُكي ضربٌ من الخرافةِ التي تعشّش في اللاوعيّ الجمعيّ لأهل القريةِ، إنهم يعتبرونها حقيقة. حقيقية واقعٍ، حقيقة تاريخٍ. إنّها حكايةُ واقعٍ، وواقعٌ حكايةٍ لا تمَوتُ. لفّ "سّي عبد السّلام" البساط الصوفيِّ بمهارةٍ منقطعةِ النّظير ووضعهُ في صُندوقٍ نَظِيفٍ يَفوحُ بِعطرٍ أخّاذٍ، ولفّ معه الحكاية المجدولةَ برقةٍ وحَذْقٍ، ثم انْسَحبَ من المحّل رُفْقَةَ الشُّيوخَ ومساعدهِ "سّي محمّد"، ضاربين موعداً بعد صلاةِ العشاءِ في منزلِ "سّي قاسم ولد الزرواليّة".