وحدها كلاب "الكونت دوباري" كانت تُدمي ذيولَها وأرجلها من فرط الهياج إزاء كلاب ضالة، تمنعها السلاسل من ملاحقتها، وبث سموم القيد في جلدها الموبوء... كانت "الشيخة طامو" ذات السبعين خريفا أو يزيد، تسكن إحدى الشقق البديلة عن عشوائيات المدينة، غير بعيدة عن حانة الصعاليك، تطل كل يوم من نافذتها الضيقة، لتتابع فصلا من جنوح ابنها، فقد كانت ترى فيه ضربا من جنون كلاب " الكونت دوباري"...تعيش وساكنة الزقاق أفلام رعب متكررة، بطلها اسماعيل خطوطو، كل يوم في ذات المكان... لم تكن سلاسل الشيخة طامو سوى أبواب حديدية موصدة، يخبطها ساعة الهياج بقوة، حتى إذا بلغ اليأس مداه، استل من حزامه مدية يتلألأ بريقها فيعمي عيونا مشدوهة، ويربك قلوبا خائفة، تترقب حركات المعتوه وسكناته. ساعتها يبدو الزقاق خاليا من المارة ، موصدا في وجه السيارات والدراجات دون علامات المنع، حيث يتحول اسماعيل خطوطو إلى قانون جديد يلغي كل علامات التشوير...ينزع ملابسه في بلادة وعجرفة مقيتة، ويرسل وابلا من السب والشتم لكل العيون المراقبة من خلف النوافذ، تتأمل خطوط جسده البادي مثل خريطة متشابكة المفاتيح...
ومع أول جرة سكين، يفور دم اسماعيل خطوطو، فيبدو منتشيا برؤية الدم السائل مرددا: "اخرج أيها الدم الخبيث، الليلة سأستبدلك بدم الحصان"... ثم يتوالى عزف سمفونية الدماء عبر كمنجات الذراع والوجه والساقين، فيما تتقطب وجوه الرّائين، وتتنمل أطرافهم، وتدور رؤوس الضعفاء حد الغثيان...
صادف حظي التعيس، خروجي المفاجئ من الزقاق المتقاطع، فلم أنتبه إلا وعيني في عين اسماعيل خطوطو، وهو يمسك بالسكين... تعالى صراخ المتفرجين، فصحت فيه دون شعور: ماذا تفعل يا اسماعيل؟ تجمد الدم في ركبتاي، إذ اتجه نحوي يجرجر قدميه، ثم ارتمى والسكين في يده يلفني بذراعيه معانقا باكيا يقول: " أرأيت ما يجري ياصديق الدراسة؟ أرأيت كيف كنا وكيف أصبحنا؟"...
ربتت بيدي على كتفيه، وأنا أتحسس ضربة السكين في جسدي كمن يقرص نفسه للحسم بين الحلم واليقظة... كان وجهي ويداي ملطخين بدم اسماعيل، الذي تهاوى من حضني بعد أن خارت قواه، وبدا كثور صريع في حلبات الأندلس... رفعت رأسي إلى شرفات المنازل، كان الجميع يحثني على الفرار، فنادرا ما يسلم المقتربون من شفرة خطوطو...استغرب الجميع نجاتي، فربما كانت لحظة ضعف منه إزاء لقطة نوسطالجية...
وبينما كانت سيارة الإسعاف تنقل اسماعيل خطوطو إلى المستشفى، وهو يضحك في وجه الشرطي مثرثرا:" خذوا اسماعيل خطوطو إلى السجن ، فقد اعتدى على اسماعيل خطوطو هههه"...
انهالت علي أسئلة الشرطة من جهة، وعبارات التهنئة على النجاة من جهات أخرى، دون أن أفهم شيئا، فقد بات تفكيري وإحساسي في حاجة إلى إنعاش...
انتبه بعض الجيران إلى لطخات الدم في أطرافي ووجهي، فجاءني أحدهم بقنينة ماء يخلصني من آثار الدم، فيما بقيت دماء اسماعيل وصمة هياج على الإسفلت والجدران والقلوب ... دون أن يغسلها أحد...